-1-
في ظلّ الانقلابات الخطرة التي تشهدها دول الحراك المدنيّ السلميّ العفويّ، الذي يتعرّض ودُوَلُه لأبشع أنواع التنكيل والتخريب منذ 8 أعوام؛ وفي ظلّ كلام مُكرّر ينطق به مواطنون ومثقفون وإعلاميون ومتابعون و”مهتمّون”، يتمثّل بسخرية ـ مبطّنة أحيانًا، وعلنية غالبًا ـ من ذاك الحراك، ومن صانعيه الشباب؛ وفي ظلّ الاتهام الموجّه ـ بمواربة أو احتيال أحيانًا، أو بشكل مباشر وواضح أحيانًا كثيرة ـ إلى صانعي ذاك الحراك المُسالِم ضد بطش أنظمة قاتلة وفاسدة وسارقة؛ يبدو أن استعادة البدايات الحقيقية للحراك ضروريةٌ، فهناك من يتجاهل وقائع معروفة، عمدًا أو نسيانًا، فالنسيان عادة متأصّلة في الوجدان العربي، الفرديّ قبل الجماعي، والمتعلّق بالمواطن قبل رجال السلطات المختلفة؛ بينما “التجاهل عن عمد” جزءٌ من الانقلاب على الحراك، لن يكون أقلّ خطرًا من الحرب المباشرة عليه.
ومع الانتفاضة الراهنة لسودانيين وجزائريين ضد نظامَين متحكّمين بهم منذ سنين، مع ما يعنيه التحكّم من إلغاء لكيانهم الإنساني ولحقوقهم الشرعية ولعيشهم الطبيعي، في مقابل تساؤلات بعض هؤلاء الهازئين بالحراك المدنيّ العربي عن جدوى الاستمرار في الانتفاضة والتحرّك، كأنّ على الناس أن يصمتوا “إلى الأبد”، كي يبقى المتسلّطون العَفِنون متحكّمين بالبلاد وشعوبها “إلى الأبد”؛ تزداد الاستعادة إلحاحًا كي تُنبّه هؤلاء وغيرهم إلى النقاء والصفاء المغدورَين في حراك مدنيّ سلميّ عفويّ، تنقضّ عليه تنانين العسكر والأمن والمال والدين فتُفرّغه من حيويته القادرة، بشكلٍ أو بآخر، على هزّ الكراسي الحاكمة، ولو إلى حين، فإذا بالجالسين عليها يأمرون بالقتل والتنكيل والترهيب والتدمير كي يَحُولوا دون سقوطهم عن الكراسي المهتزّة ولو قليلاً، وبخلط المسائل كي يُضيّعوا البوصلة الحقيقية، وكي يتسنّى لهم تحكّمًا إضافيًا بـ”البلاد والعباد”، وكي يتمكّنوا من تشويه الحراك وتزوير جوهره الأصليّ، وهذا درب قصير إلى العزل، تمهيدًا للإلغاء والتصفية.
ذلك أن كثيرين يتجاهلون أو يتغاضون أو يتناسون أن انقلاب السلطات على الانتفاضات المدنيّة أخطر من أن يُسكَت عنها، فكيف بتشويهها، وأن تزوير الحقائق مرفوضٌ ومكشوفٌ، فالتزوير متأتٍ من حجّةٍ مفادها أن شعوبًا كتلك المُنتفِضَة غير مُستحّقةٍ حريتها وكرامتها وشرعية امتلاكها حقوقها الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية، بدليل “ما تؤول إليه أحوال البلاد والناس حاليًا”، كما يقول هؤلاء، ومعظمهم غير متردّد عن التذكير بـ”رخاء” ما و”هدوء” ما يسبقان الحراك “الملعون” بالنسبة إليهم. ومناقشة الراهن، بما فيه من خرابٍ فظيع، يُفترض بها ألاّ تؤدّي إلى مُحاسبة شبابٍ مدنيين يُقرّرون الوقوف ـ بسلميّة واضحة ـ في وجه التنين القاتل، كأنهم هم المسيئون إلى فعلٍ يصنعونه بعفويتهم وسعيهم إلى إنقاذ بلادهم من وحوشٍ متسلّطة وحاكمة، تستمرّ (الوحوش) في نهش أجساد بلادهم وأرواحها، وأجساد ناس بلادهم وأرواحهم؛ في حين أن كثيرين يُدركون أن الوحوش نفسها مسؤولة عن الخراب اللاحق بالبلاد والناس، وبالانتفاضات والحراك.
هؤلاء يُدركون لكنهم يصمتون، أو يُزوّرون ويُشوّهون فيُشاركون في الفعل الجُرميّ ضد الحراك وشبابه، وضد مدنيّته وسلميّته وعفويّته.
-2-
يُمكن، بكثيرٍ من الهدوء والواقعية والمنطق، أن يُقال بفشل الحراك المدنيّ السلميّ العفويّ، وفشله عظيم وقاسٍ؛ وأنْ يُناقَش الفشل وتُحلّل أسبابه بهدوء وواقعية ومنطق أيضًا. ويُمكن، بكثير من الشفافية والصدق والوعي، أن يُقال بهزيمة المنتفضين السلميين، بسبب مدنيّتهم وسلميّتهم وعفويّتهم، وبسبب صدقهم في ما يفعلون (بكل ما يحمله الصدق من ارتباكات وتخبّطات غير مقصودة، فالهدف أسمى وأهمّ، والتضحيات كبيرة)، من دون تناسي العنف الوحشيّ في الردّ على حراكهم السلميّ، وهم يحاولون الاستمرار في مواجهة وحوش ضارية غير مُتردّدة عن سفك الدماء لحماية سلطاتها، ولحماية بقائها في سلطاتها، والمحاولات قليلة، ونتائجها بائسة للأسف بسبب شدّة العنف الذي يَرِدّ عليها. كما يُمكن مناقشة الهزيمة وتحليل أسبابها بالتأكيد، لكن بشفافية وصدق ووعي، وهذا ما يفعله مهتمّون حقيقيون وصادقون، وهم قلّة، بالحراك ومساراته وتبدّلاته وأحواله.
لكن سَوْق اتّهامات إلى صانعي الحراك بمسؤوليتهم عن الخراب الحاصل لأنهم ينتفضون، مدنيًا وسلميًا وعفويًا، ضد القاتل والفاسد والسارق، فهذا منافٍ للوقائع والحقائق، لذا فهو مرفوضٌ كلّيًا.
المواجهة تلك مستمرّة، لغاية الآن، وإنْ بأشكالٍ مختلفة. فالوحوش ـ التي لن تتوقّف عن مطاردتهم ومطاردة كلّ من لا يزال يفكّر فيقول بعض ما يُفكّر به، أو يحلم بحراك أو انتفاضة أو تحدٍ فيُعلن حلمَه بجرأة وحماسة رغم خراب مدوٍ يُحاصره ـ مسؤولة وحدها عن العنف والتخريب والكذب والتزوير، بجعل العسكر يُلاحقون مدنيين يريدون وطنًا لا مزرعة، وبإطلاق أصوليين وإرهابيين من سجونها لتشويه صورة الحراك (المُسمّى أيضًا انتفاضة أو ثورة)، فإذا بالوحوش تنجح في خطتها، بدليلٍ ـ يُضاف إلى الآثار الدموية لنجاحها ـ أن أناسًا يتجرّأون على محاكمة شباب الحراك بسببِ راهنٍ غارقٍ في الدم والنهب والتزوير والقتل والتغييب، ومن يُغرقه في هذا كلّه متمثّل بالوحوش نفسها، وبسلطاتها، وبحلفاء اليوم (ولو ضمنيًا) للوحوش، وهم أعداء الأمس.
رغم هذا كلّه، يتعامى هؤلاء (بوقاحة) عن رؤية الواقع، ويتناطحون فيما بينهم على نهش تلك اللحظة التاريخية النقيّة، التي ـ لشدّة بهائها ـ تُثير، لدى الغالبية الساحقة جدًا، حماسةَ اغتيالها وتصفيتها وتشويهها وتزوير حقائقها.
فالخارطة العربية ـ المتعلّقة ببلدان الحراك المدنيّ قبل قتله، وبالانتفاضة السلميّة قبل اغتيالها، وبالثورة العفوية قبل تغييبها ـ تشهد، منذ أعوام عديدة، أنماطًا شتّى من التصفية اليومية لهذا كلّه، رغم أن هذا كلّه منتهٍ منذ إعلان الحرب السلطوية عليه بأشكالها المختلفة (من دون تناسي محاولات خجولة وقليلة لحماية المدنيّ والسلميّ والعفويّ من كلّ تشويه أو تزوير أو تصفية). فالسياسة ودهاليزها وغطاؤها الديني تفتك بصنيعِ تونسيين سبّاقين إلى إطلاق تلك الحالة العربية نادرة الوجود في الزمن العربي الحديث؛ والبطش الأمنيّ الترهيبيّ، بمختلف صُوَره ومستوياته واتجاهاته، يعمل بهمّة لا مثيل لها للقضاء على أي جذر لأي تفكير في حراك مماثل في قاهرة المعزّ؛ والقتل المباشر، رفقة تدمير وتخريب وتصفيات وأعمال تزوير وتشويه، سمة نظام أسديّ “متحالف” ضمنيًا مع “أعدائه” الأصوليين الإرهابيين، بهدف إنهاء فعلٍ يُطلقه مدنيو سورية من أجل حقّ مسلوبٍ منهم.
أما البحرين، فمعروفٌ مصير أبنائها التوّاقين إلى التغيير. أما ليبيا، فقدرها أن تغرق في الانشقاقات و”الحروب الصغيرة”، الأكثر وحشية من أي حرب أخرى. أما اليمن، فالدماء تسيل بغزارة للانتقاص من الفعل المدنيّ وأهميته السلميّة، ولاستكمال مشروع الهيمنة السلطوية الإرهابية خارج إطار مفهوم الدولة.
-3-
وإذْ تُقاوم تونس التصفيةَ اليومية عبر السينما (من بين أمور عديدة أخرى أيضًا)، التي تُنتج أفلامًا توثّق بصريًا ملامح من الحراك المدنيّ ونتائجه وإفرازاته وتبدّلاته، وتقرأه وتُفكّكه وتتناوله وتُعاينه، وإنْ بتواضع وخفر، والتوثيق غير معنيّ بنتاج وثائقي فقط، بل بلغة سينمائية قابلة لنقاش نقدي متنوّع؛ فإن سورية تُسخّر بعض سينماها للترويج البصريّ للتصفية تلك، ولمواجهة نتاجٍ معنيّ بالهمّ الإنسانيّ في ظلّ التدمير المنهجيّ للبلد ولناسه، الذي تمارسه سلطة الحاكم وأطراف أصولية وجهادية وإرهابية في الوقت نفسه. كأنّ السلطة تعي تمامًا أن التدمير المنهجيّ هذا محتاجٌ، أحيانًا، إلى تسويق بصريّ للقول إن صانعي الحراك المدنيّ أصوليين وجهاديين وإرهابيين يريدون تخريب البلد وتشريد بعض ناسه وقتل آخرين، وإن الحراك المدنيّ غير موجود أصلاً، ما يعني أن الحرب الأسدية مشروعة، لأنها تواجه إرهابًا أصوليًا؛ مع أن السلطة السورية غير محتاجة إلى أي سبب لممارسة وحشيتها وعنفها. أما مصر، فتُضيف إلى التصفية اليومية، أمنيًا وقضائيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وماليًا وإعلاميًا (إلخ)، اشتغالاً سينمائيًا موزّعًا على جبهتين: إنتاجٌ (متواضع جدًا لغاية الآن) ينال من “ثورة 25 يناير” (2011) ورموزها وناسها، وأبرز مثال على ذلك هو “عيار ناري” (2018) لكريم الشناوي؛ وملاحقة عاملين في السينما يتمسّكون برأي مغاير للسلطة، فتوجّه السلطة إليهم اتّهامات غير مُعلنة وغير مؤكّدة وغير مُثبتة (خالد يوسف وعمرو واكد نموذجان أخيران)، أو يُمعِنون فتكًا بصناعة السينما نفسها، كالتسلّط على شركات إنتاجية، أو فرض “خوّات” على أجور العاملين في التمثيل والإخراج وغيرهما، تفوق طاقتهم فينعزلون أو يحاولون خلاصًا من واقع بائس، أو يدفعون فيمالئون وينبطحون ويصمتون، أو يرفضون فيُهانون ويُطَارَدون ويتعرّضون للمَهانة.
هذا ليس تفصيلاً عابرًا، بل صورة واقعية عن حربٍ قائمة ضد أصل الحكاية وجوهرها، التي (الحكاية) تُواجِه حربًا أخرى أيضًا، تتمثّل باتّهام صانعي الحراك المدني السلمي العفوي بمسؤوليتهم عن الخراب الحاصل منذ ثمانية أعوام، وبتجاهل المسؤولين الفعليين ـ الذين يعرفونهم جيدًا ـ عن ذاك الخراب. ولعلّ أسوأ ما يحدث سينمائيًا في هذا المجال منعكسٌ في حملاتٍ، يشنّها سوريون ضد سينمائيين سوريين، لأنهم يُخرجون أفلامًا غير متضمّنة إدانة للنظام الأسدي أو لأصوليين يقتلون “الثورة”، كما هو حاصلٌ منذ وقتٍ قليل مع طلال ديركي وفيلمه الأخير “عن الآباء والأبناء” (2018)، أو مع “لسّه عم تسجّل” (2018) لسعيد البطل وغيّاث أيوب. والهجوم على الفيلمين والمخرِجِين الثلاثة يتغاضى كلّيًا عن الأهمية ـ السينمائية والجمالية والفنية والأخلاقية والثقافية والتأمّلية ـ للفيلمين معًا. فعدم الإدانة، بالنسبة إلى هؤلاء، يجعل السينمائيين “خونة” للثورة ولسورية وللسوريين، وهذا ما يتمنّاه النظام الأسدي وحلفاؤه والمتضامنون معه، أو يرتاح إليه على الأقلّ. رغم هذا، فإنّ مناقشة هذه المسألة مفتوحة ومستمرّة، خصوصًا أن منتقدين لطلال ديركي وفيلمه الأخير يقولون بـ”مخالفته” قوانين حماية الطفولة، أو بـ”الاحتيال” على الأصولي أبو أسامة لإنجاز فيلمٍ يُدينه ويتهمه بجرائم قتل، قنصًا أو إعدامًا أو تفجيرًا. هذا محتاجٌ إلى مناقشةٍ أهدأ وغير متشنّجة.
-4-
عَودٌ على بدء:
هناك حراك مدني سلمي عفوي ضد سلطات قامعة، يتمّ تصفيته يوميًا ـ منذ بداية اغتياله قبل ثمانية أعوام ـ بأشكالٍ متفرّقة. والتصفية والاغتيال تصنعهما سلطات حاكمة ترضى، ضمنيًا، بمشاركة أصوليين وإرهابيين في عملية التصفية تلك.
أما كلّ كلام يتجاهل مدنيّة الحراك وسلميّته وعفويّته في بداياته، أي قبل اغتياله وتصفية صانعيه بشتّى الوسائل، فهو مرفوضٌ كرفض كلّ اتّهام يُساق ضد شباب الحراك بأنهم مسؤولون عن الخراب. فالكلام والاتّهام يُساهمان مباشرة في تشويه حركة عربية تكاد تكون الأولى، منذ سنين مديدة للغاية، في مواجهتها تنانين القتل والفساد والتسلّط، مدنيًا وسلميًا وعفويًا، وإنْ تنهزم ولهزيمتها أسبابٌ يتحمّل مسؤوليتها نظامٌ قاتل وأصوليةٌ جهادية قاتلة، وتفكيرٌ ـ تزويري اتّهامي ـ قاتل هو أيضًا.