“سهى، النجاة من الجحيم” (2001، 57 دقيقة)، للّبنانية الراحلة رندة الشهّال صبّاغ (1953 ـ 2008)، وثائقيّ مُبسَّط بصرياً، يُرافق المناضلة الشيوعية اللبنانية سهى بشارة (1967) في أمكنةٍ عدّة، أبرزها سجن الخيام (جنوبي لبنان)، الذي تُمضي فيه 10 أعوام (1988 ـ 1998)، بعد محاولتها، في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1988، اغتيال العميل أنطوان لحد (1927 ـ 2015)، قائد “جيش لبنان الجنوبي”، المتعاون مع الجيش الإسرائيلي، أثناء احتلاله الجنوب اللبناني والبقاع الغربي، إثر هروبه من بيروت ومناطق أخرى، بعد عمليات نوعية لـ”جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمّول)”، المُنطلقة في 16 سبتمبر/أيلول 1982، بعد أسابيع على غزوه لبنان، واحتلال عاصمته (6 يونيو/حزيران 1982).
“جبهة المقاومة” تلك ستكون الجهة المُقاوِمة، التي تنتمي سهى بشارة إليها، من خلال الحزب الشيوعي اللبناني. عام 1982، تتخلّى الشابّة الجنوبية، ابنة “دير ميماس” (88 كلم جنوبي بيروت)، عن دراستها، للالتحاق بجبهةٍ، تُنزل خسائر فادحة في الجيش الإسرائيلي، وتُرغم عناصره على مغادرة العاصمة، والانسحاب من مناطق لبنانية مختلفة، قبل تثبيت احتلاله الجنوب بين عامي 1985 و2000. بشارة ستكون إحدى المناضلات العديدات في أحزاب لبنانية، يسارية وعلمانية، يُقرّرن (مع مناضلين من الأحزاب نفسها) مقاومة المحتلّ وعملائه اللبنانيين بوسائل متواضعة، كتنفيذ عمليات انتحارية، وتفجير مقرّات وآليات، وقتل جنود وضباط.
الغزو الإسرائيلي للبنان، أو ما يُعرف بـ”عميلة سلامة الجليل” (1982)، سببٌ أساسيّ في انخراط سهى بشارة في المُقاومة الوطنية اللبنانية. وثائقيُّ رندة الشهّال صبّاغ يُركّز على تفاصيل من سيرتها (ترتبط بالسجن والمقاومة أساساً)، تُصدرها بشارة نفسها باللغة الفرنسية أولاً، بعنوان “مُقاوِمة” (“منشورات لاتيس”، باريس، 2000)، ثم باللغة العربية، بالعنوان نفسه (“دار الساقي”، بيروت، 2002). إنجاز الوثائقيّ يتمّ عام 2000، وعروضٌ مختلفة له تبدأ في العام التالي، آخرها في بيروت وباريس في موعد واحد، مساء 30 سبتمبر/أيلول 2022. أما تصويره، فيبدأ قبل نحو عامٍ واحد.
فيلمٌ كهذا غير مُحتاج إلى مناسبةٍ محدّدة لعرضه مجدّداً، رغم أنّ الشهر المذكور يشهد ذكرى مرور 40 عاماً على إطلاق “جمّول”. لكنّ عرضه مُجدّداً غير مُنفضٍّ عن حالة لبنانية موغلة في الانهيار والتسلّط على الذاكرة والتاريخ، وعلى نضال مقاومات ومقاومين يتمكّنون من إذلال جيش الاحتلال الإسرائيلي، ومطاردة جنوده وضباطه، وطردهم من العاصمة ومناطق لبنانية مختلفة، قبل انبثاق “مقاومة إسلامية”، يُسيطر عليها “حزب الله”، مانعاً كلّ من ليس منتمياً إليه من تنفيذ أي عملية. عرض الوثائقيّ مجدّداً تأكيدٌ على معنى التزام السينما سرد حكايات مستلّة من الواقع، وتوثيق مساراتها ومضامينها وشخصياتها، والتأكيد على أهمية الصورة في مواجهة احتلالٍ وعدوّ.
“سهى، النجاة من الجحيم” وثيقة بصرية عن مناضلة شيوعية شابّة، يُطلق سراحها بعد أعوام من التعذيبين الجسدي والنفسي (6 أعوام في زنزانة انفرادية)، ويُمنع والدها من رفع العلم الشيوعي في باحة “السراي الحكومي”، عند وصولها إليه في سيارة تابعة لـ”الصليب الأحمر الدولي”. بساطته، شكلاً وأسلوب تصوير ومعالجة، غير حاجبة مضمونه، المهتمّ بالتقاط صُوَر جديدة لها، في رحلةٍ تقوم بها إلى سجن الخيام، بعد انسحاب مخزٍ للجيش الإسرائيلي وعملائه. صُوَر تبدو سهى بشارة فيها متماسكة بشدّة، وذات شخصية قوية، وكلامها يروي بعضَ عيشها ومعاناتها، وفرحةَ لقاءٍ يجمعها بصديقة السجن، المناضلة الفلسطينية كفاح عفيفي، التي ستكون شخصيةَ وثائقيّ آخر، بعنوان “أرض النساء” (2004، 58 دقيقة)، للّبناني الراحل جان شمعون (1944 ـ 2017).
صلابتها، الحامية لها في أعوام السجن، تعكس قوّة شخصية، تمنحها القدرة على التعالي عن وجع وجرح وقلق وخوف، فتدخل مُجدّداً سجن الخيام من دون تردّد أو إرتباك، وتروي للكاميرا بعض اختباراتها وعيشها في أمكنة الاختبارات والعيش، وتتحدّث مع مُراهِقةٍ تلتقيها صدفة أمام زنزانتها الانفرادية، ومع نساء في باحة السجن. تذهب أيضاً إلى منزل لحد، لتُخبِرَ الحاصل لحظة الاغتيال، وكيفية حصوله. تعود إلى قريتها، وتلتقي أناساً ومناضلين/مناضلات، وبعض هؤلاء يحاول تنفيذ عملية إنقاذ لها من السجن، من دون نجاح. أغنيات لفيروز ومرسيل خليفة وأحمد قعبور، وموسيقى لزياد الرحباني، وجولات وكلام وتسجيلات مُصوّرة قديماً، وبشارة تُتقن اللغة الفرنسية فتتحدّث بها، ساردةً شيئاً من تفكيرٍ وشعور.
يحتمل “سهى، النجاة من الجحيم” نقداً يخرج من أهمية موضوعه إلى المعالجة البصرية المتواضعة، في ترتيب سياقٍ سردي، وفي إنجاز شهادة توثيقية عن مناضلة شيوعية لبنانية. غير أنّ النقد يكتفي بتسجيل ملاحظات عن بساطة التقنيات المُستخدمة، وغياب مُتخيّل بصري، وعدم اهتمام بجوانب إنسانية وحياتية خارج إطار الفعل النضالي للشابّة. هذه البساطة، السردية والتقنية والفنية، تمنح المُشاهِد/المُشاهِدة فرصة كبيرة للتمعّن في ما ترويه سهى بشارة عن نفسها، وبعضٌ أساسيّ من هذه الرواية مرتبطٌ بسيرة بلد واجتماع ونضال ومقاوَمة.
مُشاهدتُه الجديدة ـ بعد 22 عاماً على إنجازه، والعرض الجديد حاصلٌ في مكتبة تابعة لـ”بلدية بيروت”، صغيرة حجماً، ومليئة بما يحثّ على القراءة والاسترخاء في مكانٍ متواضع وهادئ (تنظيم العرض لـ”نادي لكلّ الناس”، بالتعاون مع “جمعية السبيل”) ـ تُثير ذكرياتٍ، يتعلّق بعضها بلحظات تاريخية تصنع، واقعياً، المعنى الأجمل والأهمّ والأعمق للمقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، الذي سينتهي بعد أعوامٍ من استكمال فعل المقاومة على أيدي مقاتلي “حزب الله”. وبعضها الآخر مرتبطٌ بذاكرة شخصية، فهذا الفيلم نفسه سيكون أوّل هدية أحصل عليها من رندة الشهّال صبّاغ، بنسخة VHS، في بداية تعاون لي معها كملحق صحافي في فريق عمل “طيّارة من ورق”، المُنجز بكامله عام 2003. الهدية حاضرةٌ بعد عامٍ واحد على زيارتي سجن الخيام ومناطق جنوبية مختلفة، مُحرَّرة حديثاً يومها، في 30 مايو/أيار 2000 (بعد 5 أيام فقط على الانسحاب المُذلّ للجيش الإسرائيلي وعملائه اللبنانيين، من الجنوب والبقاع الغربي)، وتجوّلي بين زنزانات السجن، وفي ممراته وساحاته ومبانيه، محاولاً لمْس مشاعر أناسٍ يُعذّبون في مكانٍ، يُصبح أحد أسوأ نماذج الوحش الإسرائيلي والعنف اللبناني، ومثالاً لفعل مُقاوِم، يتمثّل بتمكّن سجناء/سجينات كثيرين من الصمود والعيش، رغم التعذيبين، النفسي والجسدي.
مُشاهدة الوثائقي لاحقاً اختبار إضافي لي، عبر عينيّ سهى بشارة وكلامها وحركتها وتفكيرها وإحساسها؛ وعبر كاميرا رندة الشهّال صبّاغ، وكيفية توثيقها شهادة حياتية وأخلاقية وإنسانية، تكتبها شابّة بيومياتها ومقارعتها تنانين القتل والمهانة، فتُحوِّل الكتابة (فقرات كثيرة مكتوبة على ورق التواليت) إلى نصٍّ يصدر باللغتين الفرنسية والعربية. والنصّ نفسه إضافة إلى العلاقة الشخصية بالفيلم والزيارة، بما فيه من سردٍ لتجربةٍ واختبارات.
“سهى، النجاة من الجحيم” يُشير إلى غيابٍ شبه تام لأفلامٍ، وثائقية وروائية، تتناول أفعال مُقاومين ومُقاومات، وهذا يدعو إلى نقاش نقدي بحثاً في أسباب ذلك. كما يُشير إلى غيابٍ، شبه تام أيضاً، لكتبٍ تروي فصولاً من ذكريات شخصية وذاكرة جماعية، عن مرحلة وتاريخ وبلدٍ وتحوّلات، وعن مشاعر وتأمّلات ذاتية.