يفتح عنوان الوثائقي العديد من الأسئلة حتى قبل متابعة الفيلم، ويطرح العديد من النظريات لغياب الأب، وعن سبب غيابه، عن موعد عودته، وعن وجهته، ويبقى الجواب غامضاً عندما يكون الأب قد التحق بتنظيم داعش ليقاتل بين صفوفه دفاعاً عن خلافة ودولة واعدة. ويبدو مقاتلو داعش أشبه بدونكيشوت وطواحينه، فبحثاً عن معنى لحياتهم النائية في قرية مُعدمة في جورجيا، يرحل الرجال الأقوياء للانضمام للمعركة، وإن كان ذلك يعني مواجهة الموت.
تتبع المخرجة الجورجية ماري غولبياني حياة عائلتين من النساء والأطفال الذين تركهم آباؤهم لينخرطوا بالحرب الدائرة في سورية، ويلتحقوا بالتنظيم الشهير، الذي أصبح لديه قائد جورجي معروف يُسمى بأبي عمر الشيشاني.
هناك في القرية المنسية التي تبدو منعزلة عن باقي العالم، يقتات الرجال على أفلام داعش ويستغرقون في نشوة القتل وقطع الرؤوس وإذلال الخارجين عن طاعة الدولة. وتبدو تلك الدولة حلماً واعداً للرجال المتطرفين، الذين يقضون أيامهم دون هواية أو مهنة مجدية.
تقول ماري غولبياني في حوار خصت به مجلة رمان الثقافية: “لا أعتقد أن الرجال قد رحلوا للدفاع عن الدين فقط، هم رحلوا بسبب الفقر، وبحثاً عن موضع يفرغون فيه طاقاتهم ورجولتهم المكبوتة، وهم أرادوا أن يتبعوا شهرة القائد الشيشاني الشهير، ويلتحقوا بالمعركة التي ستصنع منهم رجال التاريخ. هم أيضاً من أصول شيشانية، ويحلمون بالثأر من روسيا التي احتلت بلادهم وأقدمت على ارتكاب الفظائع. يواجه هؤلاء مذلة شديدة في حال عودتهم أو تراجعهم عن قرار الانضمام لداعش في سورية، ويعتبرون ناقصي رجولة.”
عن سؤالها حول تصوير عائلات هؤلاء المقاتلين وتقديم الحياة بعيون بناتهن اليافعات، أجابت: “ذهبت إلى قرية بانكيسي بمهمة واحدة، أردتُ أن أقدم للمراهقين هناك ورشة في صناعة الأفلام. ورغم بعدهم وعزلتهم عن أي نشاط ثقافي، كنتُ أرى أنهم يستحقون هذه الفرصة في التعبير عن الذات وفي اكتشاف نوافذ جديدة. تقربت من إيمان وإيفا الصبيتان في الرابعة عشر من العمر بعد التحاقهما بورشة الأفلام، وفي إحدى الجلسات بدأت إيفا تبكي بعد ذكر والدها، وأسرّت لي بأنه ذهب منذ سنة للقتال في سورية وأنه أصيب هناك ولم يعد، فأخذت إيمان تقول بأن والدها أيضاً هناك وبأنه سيعتني به. عندها فقط أدرت عدستي وبدأت بالتقاط أول مشاهد التوثيق لهذا الفيلم.”
يبدو التشابه غريباً ومُلفتاً بين قرية معزولة في جورجيا وبين القرى السورية التي انجر رجالها إلى المعركة. سألناها إن كانت تدرك هذا التطابق رغم بعد المسافة فقالت “نعم، لقد أردتُ أن أروي قصة يشترك بها العالم كله، إنها ليست قصة سورية أو داعش، وليست قصة الحرب، إنها قصة الرجال الذين يرحلون لأي سبب كان ويتركون خلفهم عائلات كاملة، ويتركون نسائهم. هذه ليست قصة الآباء الذين رحلوا، بل هي قصة هؤلاء النساء اللاتي لا يتوقفن عند أي مصيبة، واللاتي يتابعن الحياة بقوة وإصرار، بل يتمكنّ من خلق الأحلام الجميلة، ومن تلوين النوافذ المظلمة. ولهذا لم أقترب في عنوان الفيلم من ذكر الحرب ولم أختر وضع كلمة داعش التي كانت ستجلب لي جماهير العالم. لا تهمني تلك المعركة، يهمني البحث عن كل من بقي في غياب الأب والأخ والعم والصديق، وتهمني النساء الباقيات، اللاتي حولن بيوتهن إلى ملاجئ دافئة لأبنائهن وبناتهن.”
تبدو الفتيات سعيدات جداً بعد إنجاز فيلمهن الخاص خلال الورشة، رغم ظروف حياتهن الصعبة، تظهر عليهن علامات السعادة ونشوة الحرية، عن الكيفية التي حقّقت بها المخرجة ذلك لهن قالت إننا “نحتاج في هذا العالم إلى مساحة للتعبير والتواصل، فنحن لم نخلق لنأكل وننام ونمارس الجنس فقط، هناك معنى أعمق لوجودنا، أرى أن صناعة الأفلام ومتابعتها تخرجنا من قوقعاتنا الصغيرة، ولهذا أقوم بصنع أفلامي، ولهذا اخترتُ أن أقدم ليافعي قرية بانكيسي المعزولة، فرصة التصوير والتمثيل، إنها وسيلة للتعبير عن الذات ومساحة خام للخلق والإبداع، وقد نجحن بخوض هذه التجربة، بل كانت أجمل مما تصورت.”
أخيراً، عن إن كانت تتواصل معهن بعد انتهاء التصوير، قالت: “نعم نتواصل دائماً عبر الرسائل القصيرة، ويرسلن لي صورهن في المدرسة وفي حياتهن اليومية، لقد قضيت معهن أوقاتاً طويلة وعشت في بيوتهن، لم يكن بإمكاني الاستعانة بمصور داخل البيوت، كنت وحدي مع عدسة الكاميرا هناك، وأصبحنا جميعاً عائلة واحدة.”