اللوحة الأولى: إعدام ماكسيميليان (1867 – 1869) للرسام الفرنسي إدوارد مانيه (1832 – 1883)
قُدمت هذه من خلال خمس نسخ، قام مانيه بالعمل عليها، قبل أن تعرض في صورتها النهائية في متحف مانهايم في نيويورك. تتناول اللوحة إعدام الجنرال النمساوي ماكسيميليان الذي نصبه نابليون الثالث على المكسيك، وذلك على يد الجيش الجمهوري الموالي للحاكم المكسيكي السابق، حيث وقع إعدامه بصحبه اثنين من جنرالاته.
بدأ مانيه العمل على اللوحة/اللوحات، بعد شهر من حادث الإعدام، في صيغة أولية لرسم هذا الحدث الجلل، والطريقة التي أعدم بها الأمير الشاب، بعد أن تخلى عنه نابليون ولم يوفر له الحماية والدعم اللازمين.
يقول ميشيل فوكو الفيلسوف الفرنسي في نص له بعنوان “بم يحلم الفلاسفة؟” عن مانيه: “أعتقد أن ثمة أشياء تبهرني وتحيرني تمامًا؛ مثل مانيه. كل شيء لديه كان يمزقني… القبح مثلًا، شراسة القبح لديه، إذ لم يكن مانيه يولي أي أهمية للقواعد الإستيطيقية المغروسة عميقًا في إدراكنا ومحسوسيتنا… حيث لم نفهم إلى حد الآن لماذا كان يفعل ذلك؟… ثمة قبح عميق، لايزال إلى اليوم يواصل العويل والصرير.”
لا عنف بلا درجة من درجات الجمالية، وإلا لما كان لنا أن نتلقى عنف هذا النمط من السرد الثقافي (ونعني السرد التشكيلي) في اللوحة، والقائم على انتهاك الجسد بهذا القدر من الجمالية. في هذا النمط التعبيري يتلاقح العنف والجمالية في الجسد المرسوم على سطح لا أبعاد له ولا زمان ولا مكان له إلا هو حيث هو، وهو اللوحة. هنا يلزمنا عنصران اثنان لنتمكن من تفكيك زخم هذا العنف الواقع على الجسد “التشكيلي”، وتأمل جماليته المدعاة، وهذان العنصران يُستدعيان لدى قراءة وتأمل النماذج التشكيلية اللاحقة أيضًا، وهذان العنصران هما: الهرمينوطيقا (في مراجع أخرى تسمى التأويلية) والمعنى.
عنصران متعاضدان لا يكونان بعيداً عن بعضهما البعض، فإن سطى أحدهما على الآخر قتل مداه، ليظهر وجه السلطة القمعي الدكتاتوري ويفرخ أنماطًا مختلفة من العنف ليست الطائفية والفحولة إلا أحد أوجهها المتعددة. هذا التعاضد والترابط العضوي بين المعنى والهرمينوطيقا، يجعلهما عتبات أساسية لعوالم السرد على تنوعها، والتشكيلي إحداها، من دونهما لا يمكننا تحليل وتأمل ومتابعة سيرورة المعنى والتلقي في الفن عمومًا والتشكيلي خصوصًا وتنقله بين ثلاثية:
1. الفن والمجتمع: باعتبارها علاقة تبادلية.
2. الفن في المجتمع: بما هي تداخل بين أثر ومؤثر.
3. الفن كمجتمع: باعتبار تلك الحالة نتيجة ومآل.
الهرمينوطيقا:
ظهور الشيء أول ما يظهر يكون في اللغة، هكذا ندركه، خارج اللغة عدم، كل شيء يوجد في اللغة، ولا مفر من الكلمات فهي تحاصرنا، وحتى صمت اللغة ليس صمتًا بل هو جزء من اللغة، حيث تصاب بسوء الفهم أو عدمه. إن كل ما يحدث للبشر، إنما يحدث لهم في لغتهم اليومية، فيما يقولون ويكتبون، فالبشر كائنات لغوية (هايدغر) متناهية متعاضدة، لا كيان لنا خارج ما نقوله حول أنفسنا، ولذا وجدت الهرمينوطيقا “لتجنب سوء الفهم” (غادامر)، فلولاها لكان ثمة عدم ليبتلعنا. الهرمينوطيقا هنا هي حوار مع المعنى لخلق ألفة (ما) مع الحكاية -على عنفها- التي نحكيها عن أنفسنا، وآخرنا وعالمنا ووجودنا.
كيف لنا أن نخلق ألفة ما مع مشهد عنيف كمشهد الإعدام، أعلاه؟ إذ يقوم على إختراق وإفناء (أحد تعريفات الحروب) أول إدراكاتنا الذاتية والوجودية حول ذاتنا ووجودها وهو الجسد، والنفاذ من خلال مسامه لما خفي داخله؟ أي ألفة تلك؟ وهل هي ألفة تواطئية تبارك العنف؟ أم أنها ألفة سكونية كتلك للمهزوم؟
هنا يأتي دور المعنى الذي تحرره الهرمينوطيقا لتولد الدراما؛ تلك الدراما التي صاحبت مسيرة العنف الإنساني وميّزته عن العنف الحيواني، هي الدراما التي تسبغ على عنفٍ ما جمالية حية ونابضة، في حوار متجاوز للحدث المسرود من ناحية، ووسيط السرد من ناحية أخرى (دون تمام انفصال)، والمعنى لا يكون من دون آخر، فاللوحة وإن كانت ثابتة حيث هي زمانًا ومكانًا ومادةً، هي إنصات للآخر وانفتاح عليه، هي قولٌ ما، ولا قول إلا وموجه لآخر، حتى وإن غاب، فكل لغة تستبطن آخرها.
مرآة كانت ثابتة صلبة، لكن معركتها مع ذاتها انتهت بانتحار نرسيس، معركتها مع الضوء انتهت بانتحار نرسيس، معركتها مع الانعكاس أيضًا لاقت نفس النتيجة، ليظل السؤال: كيف يموت ثلاثًا من مات أول مرة؟
نرسيس لم يمت، كذلك ماكسيميليان، اللوحة أحسته وصدت عنه الرصاص، ولعل هذا البون يتضح جليًا بالمقارنة مع المشهد الفعلي لإعدام ماكسيميليان (أنظر/ي الصورة).
تحليل درامي:
تتميز “إعدام ماكسيميليان” بحسب فوكو بغلق عنيف لفضاء اللوحة/السرد (وهو ما يتواتر في عدد من أعمال مانيه) بجدار يحاصر الضحية والجلاد في شكل من “تضامن الرعب”، إلا أنه تضامن يتباين بين ماكسيميليان ورفيقيه (ما انعكس على وجوههم وتعابيرها في اللوحة) من ناحية، وتضاءل على وجه الجندي الأخير في كتيبة الإعدام إلى أقصى يمين المشاهد، حيث يتلهى ببندقيته، وكأنه غير معني -حتى- بتنفيذ الأمر (!!).
المشهد الدرامي هاهنا يتكون من طبقة واحدة يحاصرها جدار، ويمنع الدراما من الانهمار في المكان المقيد، كذا المعنى، بل وحتى المتلصصين من الجمهور المشاهد/الشاهد في اللوحة فوق الجدار/السور، هم واقعون في فضاء غير درامي، يشهدون الحدث العنيف دونما أي تأثر، بل إن أحدهم ألقى برأسه في خمول غريب على ذراعه وكأن لا دخل له بالحدث. لا وجود في هذه اللوحة لأي مشاعر تراجيدية (هل هذا يعني عدم وجودها لدى المشاهد؟!) فليس ثمة حضور جنائزي ولا توابيت (هل يحضر الموت دونما جنازة؟!) ولا راهب يودع الموتى ويلقي عليهم تراتيل قلق الأحياء، فقط متطفلون عابرون من فوق جدار، يقيد المكان، والمكان هو ما ينظم دراما المعنى، هم الشعب المكسيسكي ذاته، يراقب بملل وكأنه زائد على المشهد والحدث… على مصيره. يقول جورج باطاي عن مانيه: “إنه يرسم واقعة الإعدام بنفس اللامبالاة التشكيلية التي يرسم بها وردة أو سمكة”، فيما نراه انعكاسًا لمشهد المركزية الأوروبية (الفرنسية) في تعاملها مع رجالاتها في أزمنتها الكولونيالية المنهارة.
في “إعدام ماكسيميليان”، بعنفها الفج تسجيل لحادثة “موت الذات”، فالمُشاهد برغم وقوع عنف استيطيقي ما عليه، إلا أنه لا إراديًا يجد نفسه قريبًا من موقف الجمهور، (وموقف مانيه نفسه، بحسب باطاي) ذلك الجمهور المتطفل من أعلى السور، فاللوحة فضاء مغلق (وإن كان إغلاق الفضاء التشكيلي أحيانًا عنصر محفز للدراما) على ضحايا عزل، إزاء جلاد لا عاطفة له.
يقول باطاي إن مانيه تحت اسم الفن رسم صمتًا عميقًا ونهائيًا، صمت المؤسسة اللاهوتية والسياسية التي تنتج الدلالة، فالمشاهد لا يتأثر بالعنف ويغدو متطفلًا على الحدث التاريخي، وكأن لا شأن له به. يعلق بذيل تناولنا لهذه اللوحة بعض الأسئلة:
ما كان موقف مانيه نفسه من الحدث؟
وهل تنجو برغم صوت صمتها العالي هذه اللوحة من الإزدواجية الكولونيالية: محتل ومحتل؟ وإذا كان كذلك فأين المتلقي منها؟ وهل تنتهي بذلك حبائل الدراما؟
اللوحة الثانية: مذبحة في كوريا (1951) للرسام الإسباني بابلو بيكاسو (1881 – 1973)
تنتمي “مذبحة في كوريا” والتي أتمها بيكاسو في بداية عام 1951 إلى المدرسة التعبيرية في الفنون التشكيلية، وهي لوحة تصف التدخل الأمريكي في الحرب الكورية حيث كانت مذبحة إقليم سينشون في كوريا الجنوبية والتي نفذتها القوات الأمريكية والكورية عام 1951، والتي راح ضحيتها ربع سكان الإقليم، أي ما يقارب 35 ألفًا ونيّف، جلهم من المدنيين. وبالتالي فسياق اللوحة لا يختلف كثيرًا عن السياقات التي دفعت بيكاسو لإنتاج بعض أشهر أعماله كالغيرنيكا (1973) مثلًا. وبيكاسو كما مانيه تأثر -كما سنرى لاحقًا- بالفنان الإسباني فرانشيسكو غويا الذي أسس لوضعية بنيوية مواجهاتية فيما يتعلق بالضحية والجلاد، وتصاوير الإعدامات (كنمط مواجهاتي)؛ ما يدفعنا للقول إن ثمة تناص تشكيلي ما لا يقل وطأة عن تناص الفنون السردية الأخرى كالأدب والشعر.
إذا كانت الحروب إبادة للمدنيين أكثر مماهي للعسكريين، هنا يمكننا فهم الحبكة الدرامية في لوحة بيكاسو باعتبار الحرب -وليس الإعدام كمانيه- هي سياق اللوحة، لكن كما هو الحال مع مانيه، الجسد هو عتبة العنف لذلك السياق، ومبتدأ المواجهة والتماهي؛ مواجهة في اللوحة، وتماهي مع المتلقي/ة والناظر/ة.
تحليل درامي:
اللوحة تنقسم إلى قسمين اثنين على خلفية مفتوح لمكان ممتد، على عكس “إعدام ماكسيميليان” وهو ما يستدعي اتساعًا للعنف وامتدادًا للقوة، والهيمنة، أوليس هذا مغزى التدخل الأمريكي في الحرب؟ زيادة العنف (الحرب عنف مادي مباشر) وبسط السيطرة والنفوذ والهيمنة. الخلفية تقدم لنا أرضًا جنانية (من “جنة”) فارغة تقريبًا، في محاولة لوصفها كما يراها المعتدي (الأمريكيون والكوريون) لغسل وتبرئة جريمتهم (الحرب)، أولم تبدأ كل حرب بكذبة ما؟ وأدبيات الكولونيالية التي تناولت “الأرض العذراء” وعري الأجساد المفتوحة/المنفتحة/المنتهكة في وجه القادم الجديد، شاهد وقح على هذا.
اللوحة تقدم لنا نسقًا عنفيًا مميزًا وواضحًا ألا وهو الجندر/الجنوسة، حيث يمكننا تسجيل التأملات التالية:
1. على يسار الناظر نجد مجموعة نسوة/إناث وأطفالهن، وجميعهم/ن من أجيال مختلفة، وتحديدًا أربعة أجيال يمكن تحديدهم كالآتي:
أولًا الأطفال وهم أربعة أطفال، رضيع بين يدي أمه، وآخر يلعب ملتهًيا بالأزهار عن الموت والبنادق وزخم اللحظة، وآخران يحاولان الاختباء خلف أمهاتهم.
ثانيًا: صبية مراهقة إلى أقصى يمين الناظر إلى تلك المجموعة، تمسك يد أمها.
ثالثًا: ثلاث سيدات يحتمين ببعضهن البعض ويختلف تأثرهن بضغط الموقف في مواجهة الموت المصوب باتجاههن، إذ يبدو على إحداهن (على يسار المجموعة، أنها تتساءل بأي حق ستُعدم).
رابعًا: جنين لم يرَ النور في رحم السيدة على يسار الناظر، وهو ما يزيد ويكثف تساؤلها السابق كأي أم: بأي حق سأموت، وبأي حق سينزعون عن وليدي حقه وهو الذي لم يوجد بعد؟!
هذا التقسيم البيّن للأعمار، إنما يراد به القول أن الحروب لا تقتل أجسادًا وأرواحًا فقط، إنما هي أيضًا جريمة ممتدة في الزمن كما تمتد في الأجساد.
2. على يمين الناظر/المتلقي، نرى مجموعة من الجنود بعتادهم الحربي ذو النزعة الحداثية، وهم في إشارة جندرية إلى فحولة السلطة والعنف والحرب، ذكور، في مقابل أنثوية الضحية، البشرية والطفولة والوجود. ذكور تضخ من أجسادهم الضخامة، والخطوط الحادة، والقوة، بل إن أقدامهم كبيرة وضخمة لأنهم أحوج للثبات على أرض غريبة عنهم، وغريبون هم عنها. غربة جعلت بيكاسو يلبسهم خوذاتٍ أفقدتهم أنواتهم الفردية، فباتوا بلا أوجه يمكن معرفتهم من خلالها (تقول إحدى نظريات الأنثروبولوجيا الثقافية إن الإنسان يتميز عن باقي الكائنات بالـ”وجه” الخاص به والمميز له)، تلك الخوذات تمعن تذرير فردانية كل واحد منهم، لصالح قوة قطيعية حربية عنيفة، هم أوجه أو وجه واحد معدني خالٍ من الملامح (تلك إحدى أدوات الأيديولوجيا، أن تخلق قطيعًا، ولسنا بحاجة إلا إلى القوة ليتحول القطيع المؤدلج إلى الحرب).
يقف الجندي الأخير (إلى أقصى اليمين من المشاهد) من هؤلاء الجنود، وإن حمل سلاحًا أقل حداثة من بقية زملائه على خلاف ذاك في “إعدام ماكسيميليا” متأهبًا مستعدًا غير متخاذل عن المشاركة في إحداث العنف، حتى وإن أتى احتفال الدم متأخرًا في الزمن.
اللوحة تصف زمنية قلقة ومضطربة، فهذه الحماسة التي تعتلي الجنود وتؤجج فوهات بنادقهم وتعددها، في مقابل هلع الإناث وعويلهن وأطفالهن وصدمة الصبية المراهقة وجمودها، كل هذا في لحظة قد يدشنها إطلاق نار بأي لحظة، هذا التوتر وتلك اللحظة الدرامية المأزومة لمضيق زمني يحصر المتلقي بين شاطئين، تلقي بتراجيديتها عليه من خلال قناة بصرية، فبين الذكورة والتنميط والتذرر والصلابة المعدنية وقوة القطيع وفوهاته من ناحية في مواجهة بساطة وبراءة وعفوية الطفولة والأنوثة من ناحية أخرى، لا يملك المتلقي إلا أن يطأه زخم القلق من الثانية الآتية (المعلقة) في السرد، فكل ثيمات اللوحة تشي بالنهاية المؤجلة إلى التنهيدة القادمة، إلى الضغطة التالية على الزناد. هذا القلق والزخم الضيق زمنيًا، والعالي الكثافة دراميًا، يدفع المتلقي لموقف حاسم تهابه السياسة الدولية، لذا فهذا السرد التشكيلي (اللوحة) لا يخدم السياسة بقدر ما يجب أن يخدم موضوعية التاريخ (هل التاريخ موضوعي؟!)، أي أنها ليست لوحة للبروباغاندا الإمبريالية، فالمتلقي/المشاهد أمامها يتخطى السياقات السياسية والدينية والمصلحية للسياسة والمؤسسة، ليأخذ موقفًا حاسمًا رفضويًا للحرب، ففي الحرب الجميع مهزوم.
اللوحة الثالثة: الثالث من مايو 1808 للرسام الإسباني فرانشيسكو غويا (1747 – 1828)
انتهى العمل في هذه اللوحة عام 1814، والمعروضة حاليًا في متحف الفن الوطني بمدريد، وتصور اللوحة إعدام قوات نابليون الأول الفرنسية لأفراد من المقاومة الشعبية الإسبانية، خلال فترة الاحتلال الفرنسي لإسبانيا.
بداية وجب القول إن فرانشيسكو غويا قد أصيب بفقدان السمع عام 1792، ما ترك أثرًا بليغًا على أعماله الفنية، ونحا بها اتجاه عالم من السواد ليعوض صمت الصوت/صوت الصمت من حوله، ذاك الممتلئ دراميًا، والمتسع بالتأويل مكانيًا. يدعونا هذا إلى تأمل الدلالة الدرامية للصوت وغيابه وانفتاح السمع على الصمت، فبحسب الأسطورة الأوروبية القديمة Gaelic Myth كانت الحرب والمجاعة، والقدرة على تسجيل/تثبيت/إماتة الصوت والاحتفاظ به، قدرات خاصة بالآلهة، يقول هتلر في “دليل عمل الإذاعة الألمانية” عام 1938: “لولا الصوت العالي، لما تمكنّا من السيطرة على ألمانيا”، الصوت أحد أهم نواقل العاطفة (إن كان ليس مجرد ناقل فقط!) غيابه يخلق فوضى درامية في المكان.
في “الثالث من مايو 1808” ينزع غويا عن الآلهة قدرتها على إخراس/إحداث الصوت، بإحداثه هو للصمت، فقتل الصوت بصمت، في لوحة توضح آثار الآلهة باعتبارها السلطة على إحداث الحرب والدمار والقتل. (تجدر الإشارة إلى لوحة غويا “زحل يأكل أبناؤه” التي تعري الآلهة التي تأكل أبناءها جوعًا).
الصمت انفتاح الصوت على ممكناته، هنا سواد “الثالث من مايو 1808” هو انفتاح المكان الممتد في السواد إلى المالانهاية، ثمة أمكنة في المكان الصوت، بقدر ما قد يتسع الصمت للأصوات، أمكنة حيث تلك الجموع من الهناك يأتي بها غويا ويستدعيها للمتلقي لتموت أمام عينيه في حج مهيب من السواد إلى الموت والمعنى.
هل من صوت يمكن أن يسمعه المتلقي ينّز من تلك اللوحة وهذا السرد؟ أي دراما يحمل؟!
في هذا المشهد تتزاحم الأصوات والنحيب والصراخ والعويل، والأوامر العسكرية بإطلاق النار، وصوت الرصاص لكن ثمة صمت وحيد حي في مواجهة الشحنة السوداء لتلك الأصوات، حيث يتكثف المعنى والأليغوريا ودلالة اللون والصمت، دراميًا، هو ذلك الرجل الذي يرفع يديه في بياض أخاذ لا تطمسه الدماء، ولا يخرسه العويل، هو الأعلى صوتًا ولونًا، يضيؤه السواد من حوله، الممتد من عمق المكان والمدينة حيث تأتي الجموع.
وفي امتداد لفكرة الأيقنة المسيحية التي وضعت هالات بيضاء على أيقوناتها، ألبسه غويا البياض العالي لونًا وصوتًا، بل إن بعض النقاد رأى في يديه آثارًا تماثل آثار صلب المسيح، في تناص تشكيلي جديد مع الرمزيّة التوحيديّة، تقتبس منها امتدادها الزمني والرمزي، وتحاول موضعته في مواجهة الزمن المواجهاتي في اللوحة، بغرض تعرية شكل التناقض الاجتماعي الحاد للمواجهة في لحظة تاريخية محددة، ما يذكرنا بأن تكرار القتل، لصاحب الحق، هو تكرار ولادة له.
حالة المواجهة التي يعريها غويا في لوحته تتكشف في التقابلية بين الجنود المصطفين بشكل حاد شديد الانضباط، لا شكل يميز أحدهم عن الآخر، في تمثل لخاصية المؤسسة (الدولة/الجيش/الكتيبة) في مواجهة المجتمع الثائر الحر من قمع المؤسسة وسيطرتها، العفوي المنطلق، وهذا لا بد له أن يذكرنا بالكثير من صور المواجهات الحاضرة في الذاكرة الجمعية العربية في حركة الانتفاضات العربية للشعوب في مواجهة الأنظمة الفاسدة وجيوشها وقوة الفكرة في مواجهة البندقية، ولعل اتجاه الضوء في اللوحة، وإن كان السواد ثيمة حاكمة مدعومة بدراما الصمت العميقة في أعمال غويا، فإن الظل على أرضية المشهد/اللوحة يبين اتجاه الضوء ومصدره، والذي وإن كان بحوزة كتيبة الإعدام وهم من يتحكم فيه إلا أن للضوء معنى وقيمة قد تقاوم السلطة المانحة له، فالضوء في الأدب يعني الانكشاف والوجود، لا بالمعنى المجازي أو المادي فقط بل بالمعنى القيمي كذلك، وهو ما تسعى أي مؤسسة للسيطرة عليه، فالضحايا في نظر/عين/ضوء السلطة/الاحتلال الفرنسي هم مجموعة خارجة عن القانون، ولكن الرائي/المشاهد وإن كان يرى كيف يعرف الاحتلال ضحاياه، إلا أن الضوء هاهنا يتخلف، فإن كانت الشعوب تنتصر بالنهاية فلأنها تستنير بضياء الحق لا ضياء السلطة، ولا نصيب للاحتلال والقمع إلا ظلمة التاريخ، حتى الضوء في “الثالث من مايو 1808” هو موقف، ومواجهة.