تتشعّب المداخل التي يضعها الباحث السينمائي نصب عينيه لدى تأمّله سينما إيليا سليمان على مرّ ما يقرب من ثلاثة عقود من الزمن، كوّنت مداميكها الأساسية أربعة أفلام روائيّة طويلة حتّى الآن، وغيّرت من شكل الشخصيّة المركزيّة (البروتاجونيست) في السينما الفلسطينية، تأثّرت سينمائيّا بمدرسة باستر كيتون، وروائيّا بـ “متشائل” إميل حبيبي ورمزياً بـ “حنظلة” ناجي العلي، وأثّرت بأجيال من المخرجين الفلسطينيين الحاليّين بتصوّرهم لأشكال أبطال قصصهم وتجريدهم من أعباء البطولة الوطنيّة الذكوريّة.
فيلموغرافيا صاحب «سجل اختفاء» ليست غزيرة كماً، لكن ما خلقته نوعيّ ومحلّق بالسردية الفلسطينية بصريّا وفلسفسياً أبعد ممّا حقّقه أي مخرج أو قاصّ آخر، بل أكثر نضجًا من أي مشروع سياسيّ جامع للفلسطينيين، فاقت إمكانيّاتها وسبلها المتخيّلة ما هو أكبر من الحلم الوطنيّ الضيّق، أو التوجه القومي المحدود، كيف لا وقد سجنتنا أحياناً بعض تصوّراتنا لذواتنا في قوالب نمطيّة لفكرة ما هو الفلسطيني ومن يجدر أن يكون “ممثلاً شرعياً ووحيداً” للشعب الفلسطيني!
إنّ التكامل الحسيّ والصوريّ والأيديولوجي لدى سليمان، يكمن في مهارته السينمائيّة وفهمه لفلسفة الصورة والقدرة الكامنة في الصمت الذي يزعزع المنظومة وقوّة الفكاهة السوداء الخارجة من الجيتو، وتجييرها أداةً من أدوات التمرّد والخروج على محظورات أي سلطة قامعة، سياسية أو اجتماعية أو فنيّة أو دينية كانت.
يقول سليمان في أحد لقاءاته “السينما ليست مهنة، بالنسبة لي هي طريق حياة”، وعن ما تحمله أفلامه من مفارقات: “إنّها القوّة الخفيّة في الحركات الراقصة للمجريات التافهة في الحياة اليومية.”
بإمكاننا القول أنّ صاحب «يد إلهيّة» قتل كل الآباء المحتملين للفلسطيني في سرديّته، وبذلك استطاع تخليصه من سيزيفيّة المهام العملاقة الملقاة على كتفيه.
في فترة سينمائية سابقة وفي سياق سياسي مختلف، آثرت سينما الثورة الفلسطينيّة منذ أواخر ستينات القرن الماضي وصولاً إلى بدايات الثمانينات أن تعلّق على “رجالها” و”أولادها” على الشاشة مهام البطولة وفهماً واحدًا للمقاومة وربطها بأجندة الفصائل المسلّحة، إلى أن حرّك المخرج ميشيل خليفي المياه الراكدة لتلك التصوّرات في السينما من خلال أعمال تناولت فردانية الإنسان والإنسانة الفلسطينيين خارج السردية الكبرى التي قضت على إمكانيات خصبة لسرد الرواية الفلسطينية على الشاشة، وأسهم خليفي تحديداً من خلال أفلام محدّثة سرداً روائياً وبصرياً مثل «الذاكرة الخصبة» (١٩٨٢) و«عرس الجليل» (١٩٨٦).
لكن ما يميّز سينما إيليا سليمان في تناوله للابطل و”قتل الآباء” هو تعدّد تقاطعات تلك الطروحات على مستوى التوجّهين الفكري والأسلوبي، الخارجان بلا شك من رحم تخبّطات إنسان أزمنة ما بعد الحداثة، زمن بتر السرديات واضطراب الحبكة، وغياب الحوار وسطوة الصورة، ما من مركز وهوامش في هذه السينما، وليس من أولوياته تصوير المساحات الكبيرة، والأرض والجغرافيا المكانية كما في أفلام خليفي مثلاً، بل ركّز على “كلاستروفوبيّة” الواقع، في حارات الناصرة وحواجز الضفة الغربية والبيوت في القدس، وأخذ الإنسان مرجعيّة قبل المكان. قد نُدهش عندما يزعزع صاحب «الزمن الباقي» ما يتراءى لنا أحيانا على الشاشة استراتيجية دقيقة ومحسوبة للغاية في بنائها السردي، عندما يقول في أحد لقاءاته مثلاً إنّ ليس هناك من استراتيجية واضحه في تحضيره لأفلامه، إنه فقط يتصرّف كقطعة إسفنجية تمتصّ ما حولها وتعيد إنتاجه جماليّا من خلال الوسيط السينمائي.
علاقة إيليا سليمان بالأب القائد علاقة خذلان بلا شكّ، اللابطل في أفلامه ما هو إلّا انعكاس لحالة اليتم القومي والقياديّ للإنسان، العربي والفلسطيني على وجه الخصوص. في استرجاع بسيط لبعض المشاهد الدالّة، لا يغيب عن أعين محبّي سينماه المشهد الأيقوني في فيلم «يد إلهية» (٢٠٠٢) لتطيير البالون الذي رسم عليه صورة “الختيار”، متيحاً له الطيران فوق حاجز قلنديا العسكري والرفرفة فوق أسوار القدس، ذلك اللابطل، المهزوم تباعاً، حرّر القائد المحاصر! أو مشهد إيليا سليمان وهو يدخل مبنى القنصلية الفلسطينية في الأنطولوجيّة السينمائيّة «سبعة أيّام في هافانا» (٢٠١٢) التي شارك بإخراج القطعة الرابعة فيها بعنوان «يوميّات مبتدئ»، واقفا أمام تمثال حجريّ أبيض كبير لوجه ياسر عرفات، كوّن فيه “الميزانسين” بشكل بدى فيه صغيراً أمام “الختيار” المتحجّر، الصلب، الجامد، وكأنه يقول لم يتبقّ من ذلك القائد والأب الوطني سوى تمثال ضخم في هافانا يرفرف إلى جانبه علم مُستنفَذ.
يضاف إلى هذين المشهدين، المشهد السينمائي الخالد في شريط «الزمن الباقي» (٢٠٠٩) لوالده فؤاد (الممثل صالح بكري) مطأطئ الرأس، بيده سيجارة تتآكل مشتعلةً وهو يجلس على كنبة في صالون سبعيناتيّ، يستمع إلى صوت أنور السادات الآتي من شاشة التلفاز معلنًا وفاة الرئيس جمال عبد الناصر. يدخل الطفل إيليا إلى البيت، ونراقب معه تمثّلاً لأبوين فارقا الحياة، يشكل فؤاد المهزوم في تكوين الصورة مساحة أكبر بكثير من صور عبد الناصر المحبوسة داخل إطار التلفاز، رغم ذلك ندرك مدى التداخل بين الرجلين وذوبان أحدهما في الآخر بعيون إيليا الطفل.
ما يجدر ذكره في هذا المنحى لدى الحديث عن الجانب القومي في سينما إيليا سليمان، هو عدم إيمانه بالقومية كفكرة حتميّة أو مقدّسة لتعريف الهوية ، ولا يحلو له كثيراً حصر أفلامه بفلسطينيتها، بل يجد في ذلك اختزالاً للأبعاد الكونية (يونيفرسال) والإنسانية التي تحملها أفلامه.
علاقته بـ “هزيمة” والده، تبان جليّة ودالّة في المشهد الافتتاحي لشريطه الروائي الطويل الأوّل «سجلّ اختفاء» (١٩٩٦) ، يظهر والده غارقاً في سبات عميق، لنتشكّك في الافتتاحية المظلمة إن كان يتنفّس أو جثّةً هامدةً، ويقدّم لنا سرداً أكثر تبياناً لشخصيّة والده في «الزمن الباقي» لنتعرّف من خلال فؤاد على هزيمة الجيل الأوّل للنكبة، أمّا انهياره في منزله إثر جلطة قلبية في «يد إلهيّةى» فهو انهيار ذلك الجيل المهزوم. وإن كان افتتاح «سجل اختفاء» هو موت الأب رمزياً، فإنّ المشهد الافتتاحيّ البديع لـ «يد إلهية» هو قتل الأب الدينيّ في مسكنه. ملاحقة باباً نويل من قبل الأطفال في ناصرة المسيح وطعنه بسكّين، ليس إلّا استكمالاً لحالة العبث والعنف في فلسطين. إن نظرنا إلى لابطلنا السينمائي مجرّداً من آبائه الثلاثة، هذا التجريد من الآباء في إطار سوداوي ساخر، سنصل إلى المهمّة شبه المستحيلة: خلاص الرجل الفلسطيني!
كل ما يتعلق بالبطولة علّقه سليمان من خلال فانتازيا عن المرأة ودورها المتخيّل، من خلال اختراق لقوانين الطبيعة، فتكوّنت على الشاشة بطلات مثل عدن (علا طبري) في «سجل اختفاء» في بلبلتها وتحكّمها في حركة الشرطة الإسرائيلية، أو المرأة (منال خضر) التي هزمت الحاجز العسكري الإسرائيلي بثوبها الورديّ الأنيق في «يد إلهيّة» وصدّت سيل الرصاصات الإسرائيلية المتدفّقة في مشهد النينجا/ماتريكس الشهير.
إن نظرنا إلى نماذج لشخصيات اللابطل في السينما الفلسطينية نراها ولدت من رحم لابطل إيليا سليمان أو تأثرت به في أفلام من قبيل «حب، سرقة، ومشاكل أخرى» و«التقارير حول سارة وسليم» لمؤيّد عليّان، أو «بدون موبايل» و«تل أبيب على نار» لسامح زعبي، أو «مفكّ» لبسّام جرباوي وغيرها. كما يبدو، باتت أنسنة أو “لابطلنة” الشخصية الرئيسية للرجل في الأفلام الفلسطينية التي يخرجها الذكور عادةً، حاجة ملحّة وقادرة على توصيل سرديّات أكثر صدقًا وإبداعًا، وأزعم أن مشروع إيليا سليمان السينمائي كان السبب في ترسيخ تبنّي والإيمان بالجمالية السينمائيّة الكامنة في هذا التوجّه الروائي.
قبل عام تقريباً، دخلت إلى أحد بارات مدينة حيفا، وآخر ما كنت أتوّقعه أن أرى على بعد خطوتين أو ثلاث صاحب «تكريم بالقتل» بشعره المثلج وقبّعته وشاله الأيقونيين. تواجد في فلسطين ليصوّر شريطه الروائي «إن شئت كما في السماء» (٢٠١٩) الذي حاز على جائزة الإشادة الخاصّة في مهرجان كان قبل أيام معدودة. كانت هذه المرة الأولى التي ألتقيه فيها، صارحته على الفور بتخوّفي من حديثي معه رغم إعجابي الشديد به وبسينماه، لوصمتي “الجنون” وعدم اللطف اللصيقتان به، وأنّني ضمن قائمة طويلة جداً من المعجبين وأنّه بالتأكيد يسمع ذلك كثيراً، فما كان منه إلّا أن ابتسم أكاد أقول خجلاً أو إحراجاً ولم أدرِ إن كان هذا تواضعاً أو العكس، وقال بمنتهى الصدق والطيبة إنه لم يلاحظ أي معجبين حوله في مشيه في شوارع حيفا سوى خمسة أشخاص ربّما. يا لقوّة هشاشته، ها هو ES أمامي! كما يحلو للباحثين والنقاد بالإنجليزية اختصاره لدى الحديث عنه. التقيت أخيراً ذلك اللابطل المغوار، الذي مرّ يوماً ما بلا مبالاته الآسرة، عينيه الحائرتين، بالقرب من دبابة إسرائيليّة وفجّرها ببذرة خوخة لم يلبث أن انتهى من أكلها!