من المفترض أن تغمرنا الأخبار القادمة من الأردن بالسعادة والفخر لاختيار فيلم “أميرة” للمخرج المصري محمد دياب (“٦٧٨”، “اشتباك”) ممثّلا عن دولة الأردن في تقديم ترشيحاتها لجوائز الأوسكار، خصوصًا وأنّ الفيلم يتناول قضيّة ملهمة وهامّة مثل تهريب النطف للأسرى الفلسطينيين من خلال إنتاج عربيّ مشترك فيه جمْع من الفلسطينيين والمصريين والأردنيين يبثّ الروح مجدّدًا في احتمالية تحقيق الوحدة العربيّة بشكل ما، مذكّرًا إيّانا بتجارب نُفّذت تحت سقف المؤسسة العامّة للسينما السورية منذ ما يقرب الخمسة عقود مثل فيلم “المخدوعون” (١٩٧٢) لتوفيق صالح عن رواية “رجال في الشمس” لغسان كنفاني، أو حديثًا فيلم “باب الشمس” (٢٠٠٤) ليسري نصرالله عن رواية إلياس خوري، مع الفارق الشاسع بين هذين الشريطين واجتهاد نظرة صنّاعهم إلى الفلسطيني إنسانًا وفلسطين قصّةً، وبين ما قدّمه فيلم “أميرة” من استسهال مفرط في تكريس الكليشيهات وعدم بذل مجهود جدّي في بناء شخصيات دراميّة تتحرّك خارج الخانة التي تملؤها وكأنها قصاصات ورقيّة، تفتقد الدافع المنطقي لأفعالها، ليتحوّل العمل بعد ثلثه الأوّل إلى “بارودي” عن فيلم فلسطيني وليس شريطًا من المفترض أن يكون جادّا ويحترم ذكاء مشاهديه أيًّا كانوا.
ما من شكّ حول النوايا الحسنة لصنّاع العمل، لكن بالنوايا الحسنة وحدها لا تُصنع الأفلام. لا يقع الخلل في غياب المعرفة الكافية عن فلسطين في بعض تفاصيل عملية التهريب على الرغم من الاعتماد على مستشارين فلسطينيين (وهنا تكمن المأساة) فلنترك الخيال جامحًا في هذا المضمار ولننظر إلى مدلولاته الأبعد حول انتصار إرادة الحياة خارج قضبان الزنزانة، يقع الخلل بنيويًّا في الكتابة الضعيفة وعدم تعامل مؤلّفي العمل مع الشخصيات المكتوبة على الورق بتَماهٍ وحساسيّة، مع تنحية للفعل السينمائي والكاميرا كأداة تأويل بصري، لتُستبدل بتركيب يصلح أن يكون عملًا إذاعيًّا لا حاجة للكاميرا فيه، أو في أحسن الأحوال إلى حلقة تلفزيونيّة.
يطرح “أميرة” سؤالا جوهريا حول كينونة الإنسان إن كان ابن بيئته أم ابن اختياراته، من خلال قصّة أميرة (الشابة تارا عبّود في أداء جيد جدًّا لأول روائي طويل تشارك به) فتاة مراهقة وابنة للأسير نوّار (علي سليمان) وليلى (صبا مبارك) الذين أنجباها من خلال عملية تهريب النطف قبل ١٦ عامًا، ويحاولان إنجاب طفل آخر بهذه الطريقة، إلى أن يتكشّف من خلال تحاليل المادة الوراثية للنطف المهرّبة أمرًا قد يشكّك في نسب أميرة لأبيها المفترض (مع نهاية ميلودراميّة فجّة) لتبدأ رحلة بحثها عن الحقيقة. تبدو هذه السطور المعرّفة عن الحبكة جذّابة جدًّا، وحتمًا أنّها جذبت خيال مخرج العمل الذي قدّم في الماضي أعمالا ذات ثقل وعمق دراميّين مثل فيلم “٦٧٨” (٢٠١٠) وفيلم “اشتباك” (٢٠١٦) الذي افتتح مسابقة “نظرة ما” في مهرجان “كان”، لكن تأتي التطوّرات في حبكة “أميرة” على هيئة صفعات متتالية انحدرت فيها البداية الواعدة لفيلم سينمائي إلى تتمّة مخيّبة أقرب إلى مسلسل يعصر العواطف، حين تقرّر ليلى أن تؤلف قضايا تمسّ شرفها لتنقذ ابنتها، ويتمّ حشو الفيلم بأحداث مُقحمة وغير منطقية وكأنّ المخرج يبحث عن أقصر خط يصل بين البداية والنهاية لإتمام القصة، وما زاد الطين بلّة التحوّلات اللامنطقيّة لشخصيّة أميرة من فتاة مسالمة رقيقة تحب التصوير لتصبح مسلّحة تتعلم استعمال مسدّس في خمس دقائق، أمّا الطامّة الكبرى، فهي الكتابات المرافقة لنهاية الفيلم التي تؤكّد على عدم وجود أي طفل أو طفلة ذوي شكوك في نسبهم خلال عمليات تهريب النطف. إذًا لماذا بحق السماء كلّ هذه الحبكة المرهقة أصلًا؟
لا أستطيع أن أغدق في لوم مخرج مصريّ مثل محمد دياب وشركة إنتاج مصرية مثل “فيلم كلينيك” لمحمد حفظي، وهم أصحاب فكر فنيّ يسهم بالاستثمار في مشاريع سينمائية مختلفة وجادة بعيدة عن التهريج السينمائي التجاري في السوقين المصري والعربي، على تقديم فيلم عن الفلسطينيين بهذه الطريقة، في الوقت الذي يقدّم به الفلسطينيون أحيانًا عن أنفسهم نسقًا سينمائيّا يشبه هذه التناولات التي لا تتجاوز السطح وتكرّس الكليشيه وتخفض السقف المتوقّع من التعبير السينمائي عن فلسطين (انظر/ي مقال سينما الحواجز… حاجز في وجه السينما الفلسطينيّة) ليصبح من الصعب الإشارة إلى فيلم روائي فلسطيني متميّز وكاسر للرتابة في العقد الأخير، حيث تشكّل هذه الأنماط حاجزًا وسقفًا لا يتخطّى مستوىً متوسّطًا من الأفلام والفكر المتواضع المحرّك لها، ويُحتفى بها على أنّها إنجاز سينمائي عظيم، وتصبح مشهديّة التصفيق بعد عرض هذه الأُفلام المتوسّطة سواء في مهرجانات عربيّة أو عالميّة، هي شهادة التصديق على أحقيتها وتقييمها بعيدًا عن أي ممارسة نقدية تجاهها… تصفيق مشهديّ يقلّد تصفيقًا حقيقيًّا، لسرديّة تحبس رموزًا بدلًا من أن تحرّرها، لنبقى غارقين في دوّامة القشور هذه دون مَخرَج.
يقول محمّد دياب في أحد لقاءاته إنّه ما من حديثٍ سياسيٍّ مباشرٍ في الفيلم، وإنّ أفضل طريقه لفعل ذلك هي رؤية حياة الناس وهذا صحيح، لكن للأسف ما وصفه كدراما شكسبيريّة في نفس اللقاء تحوّل إلى مسلسلٍ مكسيكيٍّ هزيل، لا تبرّر هشاشته حتى النوايا الطيّبة من وراء صناعة الفيلم الذي يصعُب أن يؤخذ على محمل الجدّ، على الرغم من وجود طاقات تمثيليّة كبيرة فيه مثل علي سليمان وصبا مبارك وتارا عبّود. على سبيل المقارنة، تناول الفيلم الروائيّ القصير “بونبونة” (٢٠١٧) لركان مياسي المتواجد أيضا خارج فلسطين، قضيّة تهريب النطف، وكان بإمكانه أن يذهب نحو خيارات ميلودرامية لكن على عكس المتوقّع نسج حالة بصرية فيها قدر من الجماليّات والاجتهاد تنفذ بسلاسة وعمق إلى المتلقّي، تجارب ومقارنات كهذه تحفّز على الإبداع والرهان على ما هو جماليّ وعميق.
ما من شكّ أنّ تواجد المضمون الفلسطيني في منصّات عالمية كما حصل في الآونة الأخيرة، أو ترشيح فيلم “أميرة” من قبل الأردن لجوائز الأوسكار، هامّ جدًا، تحديدًا في العام الأخير الذي شهد تطبيعًا عربيًّا مهينًا يحاول أن يكنّس فلسطين تحت بساط الانفتاح والسلام الزائف، لكن لا يكفي صناعة أفلام عن فلسطين والتعامل معها كتلةً عدديّةً تشغل حيّزًا في المهرجانات أو المنصات ويُصفّق لها، بل يجدر بالصنّاع أن يبحثوا عن طرق معالجات تنال تقدير المتلقّي وأن تحفّز طموحًا فنيّا في المقام الأول قبل التواجد السياسي لفلسطين.