نُشرت في «القدس العربي» بتاريخ ١٢/٠٦/٢٠١٩
لا للوهلة الأولى، ولا العاشرة، تبدو الكتابة عن فيلم لإيليا سليمان سهلة، تحديداً الآن وقد عُرض فيلمه الأخير «إن شئت كما في السماء» في المسابقة الرسمية لمهرجان “كان” وصار بالإمكان الكتابة، أو محاولة ذلك، عنه.
يُلقّب الإيطالي فيدريكو فلّيني بالمايسترو لإدارته جموعاً كبيرة من الممثلين داخل مشاهد أفلامه. للسبب النقيض تماماً يمكن توصيف سليمان بالمايسترو، لأسباب أكثر جوهرانية وأقل شكلية، أكثر “انقلابية” في العمل السينمائي، صوتاً وصورة، فلشدّة المَشاهد في فيلمه الأخير، المزدحمة مضموناً (مع إمكانية تعميم ذلك على أفلامه الثلاثة) يصحّ ذلك التوصيف، مُقدّمةً بسخرية هي تماماً قلبٌ للمتوقّع، بمشاهد صامتة وممثل وحيد، بأصوات وممثلين هي مكمّلات أساسية، بمينيماليّة مكثّفة، فلا تقلّ مَشاهد سليمان “كرنفاليةً” عن مشاهد فلّيني، ولا أقول برغم البعد الأسلوبي بين المخرجَين اللامعين، بس بسبب هذا البعد، فأي من سينما أحدهما لا تذكّر بالآخر، إنّما الكثافة في المَشاهد إياها، لكليهما، تخوّل توصيف كل منهما بالمايسترو، توصيفٌ هو بالعمق أقرب من سليمان حيث الكرنفالات في المعنى، في دواخلنا، كمشاهدين، وفي مضامين المَشاهد “السليمانيّة” وتكثيفاتها.
وقد بدأنا المقالة بالإحالات، فلنقُل إنّ فيلم إيليا الأخير (كامتداد لأفلامه الثلاثة) هو فيلم للأمريكي بستر كيتن أشرك معه الفنلندي آكي كوريسماكي في صنعه، مع مساهمة كتابيّة للتشيكي فرانز كافكا والإيرلندي سامويل بيكيت. هو دمجٌ بين كوميديا الأوّل وميلانكوليا الثاني وعبثية الأخيرَين، هي خلطة عرفناها لدى سليمان في «سجل اختفاء» و«يد إلهية» و«الزمن الباقي»، وشاهدناها اليوم، بنسخة متقدّمة عن الأفلام الثلاثة (المتقدّمة أساساً) بفيلم أهمّ ما فيه أنّه كان شديد “السليمانية” الآتية كمرحلة أعلى شكلاً ومضموناً، وكتطوّر طبيعي، لما نعرفه عن سليمان ما قبل «إن شئت كما في السماء».
الفيلم تحفة سينمائية أولاً، وفلسطينية ثانياً. بالحديث عن “أولاً”، كرّس الفيلمُ “العلامةَ” الخاصة بسليمان، شكلاً ومضموناً، كرّسها بأجمل حالاتها، فالفيلم السّاخر من العالم كلّه وقد صار فلسطينَ كبيرة، محتلّة يحكمها أصحاب السلطة: العسكر (البوليس والجيش) المنظّم بإفراط في فرنسا، والتسليح العشوائي بإفراط في الولايات المتحدة، كنسخة مُعولَمة، بمكانيه ومعنييه (العسكر والتسليح) للحالة الفلسطينية حيث الفلسطيني، أيّ فرد، ضحيّة المسلّحين، منظّمين وعشوائيين، وحيث الفلسطيني، الفرد هنا هو إيليا سليمان ذاته، في كل من باريس ونيويورك، مراقباً بيأس “فلسطنَة” العالم، مراقباً المسلّحين في كل من المدينتين، ليتركهما عائداً إلى النّاصرة في فلسطين.
أمّا التماثل بين المدن الثلاث، فقد انعكس بصرياً في الصّورة التناظرية للقطات الفيلم. العالم كلّه متناظر، متماثل، منقسم بين حامل السّلاح والمُصوّب نحوه السلاحُ ذاته، وسليمان (الشخصية الوحيدة في الفيلم) يراقب، بلقطات ذاتيّة جداً. عينا سليمان هي عين الكاميرا هي أعيننا، يراقب بسخرية شديدة بتهكّم صامت، دون ضجّة ولا كلمات تشوّش بالوعي الذي تحتاجه لتُضحِك، يراقب تفاهةَ القوي، وعجزَ الضّعيف، وسريان العالم إلى بعثرة للأحداث وعبثية في فحواها، سريان منتظم إلى أفق لا يملك سليمان (ونحن) سوى الوقوف لمراقبته (كما في البوستر) بعجزِ متشائلِ إيميل حبيبي، يراقب إلى أن يعود إلى البيت الأوّل، في فلسطين، حيث فتاةٌ تمشي بهدوء، بثبات، في عالم آخر، هو النّقيض تماماً لجنون العالم، بثوب فلسطيني وتحمل جرار ماء، تمشي بين شجر الزيتون في الجليل، لا هي القوي المضطهِد ولا هي الضعيف المضطهَد، ولا تسير إلى الهاوية.
صوّر سليمان قطعَ مفكّكة مركّبة من لوحة موزاييك مقسومة إلى ثلاث مراحل زمانية/مكانية هي الناصرة وباريس ونيويورك، مدن عاش ويعيش فيها سليمان وجمعها في لوحة واحدة تشبكُ بينها مَشاهدُ صامتة (تماماً غالباً) يقرّب التناقض فيما بينها، بينها وبين بعضها، كتجارب إنسانية لكل منها نسختها تبعاً للمكان والمجتمع الذي تحدث منه. وأشار سليمان (المخرج) في لقاء لسليمان (الشخصيّة الرئيسية) مع منتج فرنسي قدّم له السيناريو، إلى تلك الحالة، إذ يقول المنتج بعد التنويه بتعاطفه مع القضية الفلسطينية إن النصّ ليس فلسطينياً تماماً وإن الأحداث يمكن أن تكون في أي مكان آخر، ورفَضه.
المنتج الفرنسي الذي غادر سليمان (الشخصية) النّاصرة ليقدّم له السيناريو، يريد فيلماً “تعليمياً” و”إكزوتيكياً” عن القضية الفلسطينية، فيلماً ينزع عن فلسطين بُعدها العالمي الذي يراه سليمان (المخرج والشخصية، فكلاهما واحد، وقد يفسّر المشهدُ السنين العشر التي فصلت بين هذا الفيلم والذي قبله) في المدينتين الغربيّتين اللتين عاش فيهما. كأنّ فلسطين موضوعاً محلياً تماماً، وطنياً ضيّقاً، معزولاً عن باقي القضايا العادلة، عن باقي المستَضعفين في العالم! هذا التماهي بين المستضعَفين والمستضعِفين كان موضوع السيناريو الذي قدّمه سليمان للمنتج، ولأنّ الفيلم هو كذلك “ميتافيكشن”، هو عن صناعة الفيلم (الفلسطيني لنقُل) كان كذلك موضوع فيلم إيليا سليمان الذي شاهدناه. فالفيلم الذي يصوّر سيرته (سيرة الفيلم) هو استكمال لأفلام سليمان السيَريّة.
بالعلاقة مع ما سبق، في مقابلة، يُسأل سليمان (الشخصية) إن كان لحالة الترحال التي يعيشها، قد أخمدت حبّه لمكان واحد ومَدّته إلى أمكنة أخرى، وأنّه “غريب تامّ”. طبعاً لا يجيب سليمان، الصامت تماماً، والذي يردّ بفيلمه هذا، بكامله، على أسئلة كهذه، حين يعود إلى مكانه الأوّلي، إلى بيته وجيرانه في الناصرة.
الفيلم المبني على تتابع لمَشاهد متفرّقة إنّما تأتي في السياق ذاته، داخل المدينة الواحدة، وتتلاحق لتكون في سياق واحد داخل المدن الثلاث، كان بتلك المَشاهد مكثّفاً جداً، الزّمن فيه ممتلئ وكذلك إطار الصورة، فالتّناظر في الصّورة كان بمحتوى حيوي (كرنفالياً بمضمونه)، لكل زاوية فيه شغلٌ خاص، مادّة خاصة. سليمان المتوسّط الصورة، غالباً، وقد كان مراقباً لما هو خارج الإطار، هو نحن، المشاهدين وبالتالي العالم، ملأ المساحات المحيطة داخل الإطار، بتفاصيل هي جزء راهن مما يحصل، أو استمرارية له. أمّا امتلاء الزّمن فكان مبرّراً لاستمراريّة الضّحك (بأعلى الصّوت) من المَشاهد الأولى للفيلم حتى الأخيرة، باستراحات خفيفة لا بد منها. وهذه المَشاهد تتراكم لتشكّل معاً مشاهدات شخصية هي أكثر ارتباطاً فيما بينها مما تبدو عليه للوهلة الأولى، مَشاهد شديدة الذكاء، شديدة الانتقاد، لا يفيد شيئاً سردُها هنا، لا بديل من مشاهدتها، كما هي، وفي سياقها داخل الفيلم.
ليست الكتابة عن هذا الفيلم سهلة، صورٌ ومَشاهد كثيرة تمرّ في البال ولا يمكن (لا يجوز) الإلمام بها هنا، ممتدة على ساعة و٣٧ دقيقة، والحضور الطاغي للصمت مرفَقاً بتأثيرات صوتيّة لما نشاهده، يُدخل المُشاهِد في حالات تعلّقٍ بالمُشاهَد وترقّبٍ له، هو ترقّب ما قبل الانفجار “الضّحكيّ” لواقعيّة ما يحصل وعبثيته في الوقت ذاته، لهذا الدمج “السليماني” بينهما، باستخدام غنيّ للأصوات والإيماءات و، أساساً، المونتاج.
الفيلم الذي نال جائزة النقّاد (FIPRESCI) وذكراً خاصاً له (Special Mention) ضمن المسابقة الرسمية، أتى باللغة السينمائية المعروفة لدى سليمان، بصرية بامتياز، كوريوغرافيّة، إيمائيّة، مفارقاتيّة، ساخرة، هي كذلك صوتيّة، الصّوت مكمّل ضروري للصورة هنا، فالمضمون العالمي للفيلم أتى بشكل لا يحتاج عموماً إلى ترجمة لغويّة، لقلّة المنطوق وكثرة المرئي والمسموع. والصّمت عن الكلام هو هنا موقف سياسي مما يحصل أمام عيني سليمان، هو رفض للحالة العبثية التي صوّرها الفيلم، وسخر منها، بمجرّد المراقبة، سخر منها لحالها كما هو، دون تعليق، فقط بالمراقبة. الرفض هنا هو السخرية بالصّمت، وليس هذا ما يريده أصحاب السلطة/السلاح.
https://www.youtube.com/watch?v=RYSKzDiUGdk