قد لا يكون القاصّ الفلسطينيّ زياد خدّاش أعظم من كتب القصّة القصيرة. لكنّه بلا شكّ أدرك أنّ مفتاح تفوّق النصّ القصصيّ هو قدرته على التنفيس وممارسة الاقتضاب والإذهال دون جهد ليحقّق بذلك ما نادى به لاين مالوني قائلًا: “اكتبوا ما تريدون. اكتبوا كيفما تريدون. اكتبوا أينما تريدون، لماذا تريدون، متى تريدون، من تريدون. إمّا أن ينجح الأمر أو لا ينجح. لا توجد طريقة صحيحة”.
وزياد لا يكتب وفق مسطرة سردية، ولا يقيسُ النّص بطوله أو عرضه بقَدر ما يقيسه بأثر الفراشة، تلك التفاصيل الصغيرة التي لا تبدو ظاهريًا ذات أهميّة لكنّها في الواقع هي ما يُحدث الفرق والتوازن والتباين في أيّ نظام، بما فيها نظام الكتابة.
في مجموعته القصصيّة “غارقون بالضّحك” الصادرة عام ٢٠١٩ (مكتبة كل شيء، حيفا)، لا يكتب خداش عن وجع الإنسان الكَونيّ، وربما لا يعنيه الكوسموس بقدر ما يعني له الإنسان الفلسطينيّ العاديّ: الطّفل والتلميذ والمعلّم والزوجة والأبوين والأجداد وحيّز الشّارع والمنزل والمقهى والمطار، والعمّال عند المعابر، وأولاد المخيّم، وزياد خدّاش نفسه. كلّهم في نظره فلاسفة واقعه الحقيقيّ وشخوصٌ فيهم طاقات جامحة تفوق طاقة السّرد وتكسر المساطر التي تُقاس من خلالها تفوّق النصّ. هذه الطاقات المتفجّرة هي ما يجعل من النصّ ديناميكيًا حركيًا في كلّ الاتجاهات.
أربعة أعمدة تشدّ بنيان النصّ القصصيّ عند زياد خدّاش في مجموعته القصصيّة “غارقون بالضّحك” (حيفا ٢٠١٩) هي:
-الفكاهة التي تتدحرج مثل كرة الثلج وتذوب في نهاية الطريق متحوّلةً إلى مآسٍ صغيرة.
-الاستغناء عن قواعد النصّ السرديّ الذي يسيرُ على مهله في تحضير وتهييئ المناخ للشخصيّات.
-شيوع الفوضى في الكتابة والأحداث، على الطريقة السورياليّة، وهي الحالة التي تتحرّر فيها الكتابة من سطوة الكاتب متماهيةً مع المعيش العبثيّ الذي يجرّه خدّاش إلى النصوص ابتداءً من البيت مرورًا بالشارع والمقهى والمارّة والحواجز وانتهاءً بالموت.
-الاتّكاء على المحكيّة التي تجيء في هيئة حوارات كوميدية، والتي تصبح جزءًا من تكتيك اللعب في المساحة الفاصلة بين العبثيّ المأساويّ والعبثيّ المُضحك عند خدّاش.
الضّحك شقيق الخلل والفوضى
أهم ما يميز هذه النصوص قانونية الفوضى، فإذا كانت هناك شروط ومعايير يجب أن تتوفّر في المقولة لكَي يحدث فعل الضّحك، فإنّ الشّرط الأكبر عند زياد لكي يثير الضّحك هو وجوب غياب الشَرطيّة والمعيار، وهو ما يطابق مقولة تشارلز بوكوفسكي حول الكتابة الحذرة بكَونها كتابة ميّتة، إذ يقدّم لنا الأخير شيفرة أساسيّة في مفهوم الكتابة وأسلوب الكاتب، وهو ما يقودنا إلى سؤال شرط الكتابة وقيودها، وما الذي يجعل من نص يتفوّق على نصّ آخر ويجعل كاتبًا أفضل من غيره.
لا شيء يبعث على الضّحك في واقع الفلسطينيّ. لكنّ التراجيديا في خطّها المتواصل ستقود إلى الموت أو الهستيريا، فيأتي الضّحك ليقطع مسار التراجيديا ويُفقدها معناها الأصليّ الثقيل على القلب -الموت، منعطفًا باتجاه الحيّز البيني-الموازن بين الموت والحياة.
هناكَ إحساسٌ بخلل ما تبدأ به النصوص ويُشاع في مناخاتها وتمفصلاتها. هذا الخلل هو أثر الفراشة الذي يرتكز عليه خدّاش هنا، الذي لولاه لما تقدّمت الأحداث والوقائع باتجاه النهايات الهستيريّة والمضطربة والمدهشة في غالبية هذه القصص.
تحضر تراوما تعاني منها الشخصيّات، الرئيسيّة والثانويّة، تلك التي تروي وتلك التي تسمَع أو تقف جانبًا على هامش النصّ، وهو ما يبدو واضحًا في التنقّلات السريعة بين السرد والحوار. هذا الاضطراب يصيرُ جزءًا لا يتجزأ من نظام الفوضى والعشوائيّة المقصودة داخل النصّ والذي يُكملُ اللوحة ويحافظ على ديناميكيّتها.
في نصّ “الحقيبة ليست لي” تظهر أمامنا شخصيّة مضطربة تعاني من خلل منذ أول إطلالة لها في النصّ. إذ تبدأ القصّة من واقعة مُضحكة، يكتشف فيها الراوي أنّ حقيبته استُبدلت بأخرى مطابقة لحقيبته الأصليّة، وعليها اسمه ورقم هاتفه بخطّ يده، إلا أن فيها متعلقات نسائيّة وأغراضًا ليست له. من هذه اللحظة، تبدأ الواقعة المنحرفة بالتضخّم، ويتضخّم معها الاضطراب والخلل الداخلي عند الشخصيّة المعجون بخيوط الفكاهة والضحك ونحن نراقبه يقفز من مكان إلى آخر ومن شخص إلى آخر كلّهم يحملون الاسم “زياد”. ويظلّ السؤال المحير الذي يحبسنا فيه خدّاش: هل يستطيع المرء أن يتّصل برقم هاتفه من هاتفه؟ السؤال الذي يودي به إلى زيارة مشفى الأمراض النفسيّة. هذا السّلوك المضطرب، يكثّفه زياد خدّاش بالتخلّي عن بنية سرديّة تقليديّة ترتّب الأشياء وفق منطق ونظام وانسجام بين الحلقات التي تكوّن النصّ. فهو يقطع الانسجام في النصّ شكليًا ليصير شبيهًا بالشخصية الهائجة التي تحكي بغرابة واندفاعيّة فينعطف الحدث نحو الغرائبيّة في النهاية:
“سقط أبي على الأرض، وسقط فوقه عمي وشقيقي، نظرتُ إلى حقيبتي فإذا بها تنهض، وتنهض معها أغراضها النسائيّة، كانت الحقيبة تمشي أمامي، متجهة نحو الباب، الذي انفتح لها تلقائيًا، خرجت الحقيبة، ومعها رقمي واسمي، ولم تعد، نهض أبي وشقيقي وعمي، قليتُ لهم بيضًا وبطاطا، صنعت لهم شايًا بالليمون، وحين همّوا بالخروج، وعلى الباب، نظر إليّ عمي باستغراب قبل أن يخرج مع أبي وشقيقي، وشعرت أني عرفت سر استغرابه أو اضطرابه كان يريد أن يقول لي تصبح على خير يا زياد فتذكر أنني لم أعد زياد”.
الضّحك مهارة المقموعين
يقول جيل دولوز إن الأسلوب هو أن يتوصّل المرء إلى التلعثم في لسانه الخاصّ وخدّاش يقرّر أن يتلعثم داخل نمط كتابة غير حذرة، تتراوح بين البسيط الشفاف والفوضويّ المعقّد. مثل ستاندابيست يقف على خشبة المسرح، يتلو خدّاش أحداثًا سريعة تنطوي على تناقضات ومفارقات بجرعات مكثّفة متشعّبة مثل إعصار، لا قواعد تحكمها في ظاهرها، وإن لم تضحك في النصّ الأول فحتمًا ستضحك في الثاني أو الثالث. لكنّ الضّحك الذي يثيره سرد خدّاش ضحك مكسور، شفّاف وحسّاس، يخرج من نفسٍ مهمومة بمعيشها ومحيطها ليعيد كتابة القمع عبر نقيضه، حيث يصبح الضّحك مهارة المقموعين والغاضبين ومن لا يمتلكون ذخيرةً سوى دعابة لا نهائيّة تشيعُ فيها المرارات والإحساس بالهزيمة الناعمة. من هنا، يتّخذ مساراتٍ متعددة في هذه النصوص فتراه يأتي تارة عبر الكلمات، وتارة عبر سرد الموقف، وتارة ثالثة عبر وصف الحركة، ورابعة عبر الصّورة العابرة، وخامسة ضحكٌ عبر التفاصيل المهملة التي نمارسها جميعًا، أو عبر مصادفات قد تحدث مع أيّ منا مثل: رسالة عبر الواتس آب، حقيبة استُبدلت خطأً، كاتب قصّة يعبر الحواجز ويصرخ باسم الأدب والكاتب الإسرائيلي إتغار كيريت، ومع ذلك لا ينجو من عنف الجنود عند الحواجز، مثله مثل الجميع، وغيرها من الحكايات التي تستند إلى الصّدفة وتتدحرج في مرامي الحيرة والارتباك وتنتهي بخسارة أو فقدان أو إحساس بالغربة أو موت. ومن خلال مثال صغير جدًا نشعر باضطراب خداش وهو يعمّق حكايات العبث العاديّ حيث تستوطن الحيرة والاضطراب كيان القارئ ويتركانه في دهشة:
“اشترى باقة ورد وشطيرة زيت وزعتر ورواية، وقف في الشارع، لا يعرف أين يذهب، صعد سيارة أجرة، قال للسائق: خذني إليها في احتمالاتها الثلاث: روضة ومكتبة ومشفى”.
توطين الفكاهة داخل اللغة
كما ويستخدم خدّاش اللغة كضرب من ضروب الدهشة والانفعال في تجلّياتها الفطريّة التي تنحو منحى البراءة والطفولة. اللغة في هذه النّصوص تعاني من الاضطراب الحركيّ تشبه اضطراب أطفال يعانون من قصور الانتباه وفرط الحركة فهي سريعة، متنوّعة الأفعال، تعاني من كثرة الشغب والاندفاعيّة. هي تبدأ لحظة نطق الراوي ولا تُجيد التوقّف في محطّات. تبدو، ظاهريًا، مثل كرة ثلج تتدحرج بلا كوابح ولا تستريح. أو مثل شخص وضع الحبر على أول الورقة وأخذ يسكب الفكرة دون أن يقيمَ وزنًا للنتائج، ودون أن يخطّط لمعماريّة النصّ ويحتفي بالأحداث ويهندس لعبة الزمان والمكان. أوتوماتيكيًا يتحرّك الحبر بحركة أفقيّة لا تتوقّف إلاّ من خلال فواصل، أحيانًا لا تعني الشيء الكثير لسَيل الأفعال والجمل. وهذا ما يحدث مثلًا في نصّ “أهلًا سيّد بورخيس” الذي يفتتح في شارع المدرسة اللوثرية في رام الله ويصادف فيه الراوي شخصًا يشبه بورخيس، أعمى وأبيض وينظر للأعلى، لتبدأ رحلة اللحاق ولعبة المطاردة المرعبة من قبل بورخيس المتخيّل للراوي، في الشارع، مع السائق، على الرصيف، في المشفى، في غرفة تغسيل الموتى، وفي المطعم. وعلى طريقة السّرد الفكاهيّ المتشعّب والنّهريّ التي رأيناها في نصّ “الحقيبة ليست لي”، والتي يصبح فيها السائق والعابر والطبيب ومغسّل الموتى، بورخيس مطاردًا الراوي الهارب، يُنهي خدّاش نصّه المُشبَع بالهلوسات، على النحو الغرائبيّ التالي:
“أبعدتُ بورخيس عن جسمي العاري، نهضت، خرجت من غرفة
غسيل الموتى، شاعرا بجوع رهيب، مشيت عاريًا وكثيرًا في الشارع،
دخلت مطعم سامر وكانت المفاجأة رهيبة من فم النادل، لكنها
حاسمة ومريحة:
أهلا سيد بورخس.
ابتسمت ولم أحاول الهرب”.
يقدّم الكاتب حركة سائلة للغة لا تتوقّف إلا متى شعر الكاتب أنّ النّفس انتهى وانتهت معه الفكرة. الطّاقة الكامنة في النّص، مثل بقيّة النصوص، تتجلّى في هذه الحركة المتواصلة التي لا تهدأ لحظة ولا تخفت ولا تقيمُ وزنًا للنظام المنطقيّ المبني على التسلسل، فكلّ قصّة تبدأ من فكرة سريعة عنّت على البال لتسيل من بعدها الأحداث وتنبني تلقائيًا في فوضى تذكّرنا بطفل يأبى الهدوء ويكسر قواعد النّظام العامّ المتعارف عليه عند المجموعة. فمن هذه المصادفة الغريبة التي يطارد فيها بورخيس الراوي العصابيّ، يواصل خداش الشغب والمشاكسة وهو يرمي دعابة داخل دعابة ثمّ يسيرُ معنا في خطّ الدعابة كما لو كان الأمر جديًا، ويغامر دون تردّد داخل هذه الحركة النّشطة.
عبر تأصيل الفكاهة، يدافع زياد عن حقّ الفلسطينيّ المنكوب في قهر القهر، ويواجه أخطار الخارج وتهديدات الرّاهن وحمولة الماضي من خلال القهقهة الهستيريّة بلا حدود، والانسلال من بورجوازيّة النصّ السرديّ وأناقته الجديّة. ويقدّم لنا مآسي الراهن المكبوت- السياسيّ، والفرديّ، والجمعيّ من خلال تفاصيل اليوميّ. ويلجأ خدّاش إلى أسلوب الجعجعة والضجيج في كتابة الموقف عن قصد، فتجده يحقن النصوص بلهجته الفلسطينيّة التي تضخّ دمًا في قلب النصوص وتزيدها حيويّة وحميميّة وانكسارًا، فنقرأ مثلاً:
“ألو آه اهلين يا يابا،
انت بمستشفى رام الله؟ يا ساتر، خير يابا؟ اه من ظربة الجندي امبارح؟ بس انت حكيتلي بطل راسك يوجع؟ رجع يوجع وزاد الوجع؟ طيب يابا بس اشوف هالبستنجي باجي عليك”.
“أحمد اسمعني، لو بدي أتصل على رقمي من رقمي شو ممكن أسمع؟”
البقاء للبسيط والهشّ
لعلّ أكثر ما يميّز الفوضى في هذه النّصوص أنّها قادرة على توحيد الجميع رغم التمايزات والاختلافات. فزياد، مثل الحكواتي الماهر في شارع، يجمع الجميع من حوله ويقرر أن يؤصّل الارتجال في سرده، أو ما يبدو مرتجلًا وعفويًا، كوعاء تجريبيّ يدلق فيه كلّ أدواته وذخيرته ليثبت فرضيّة قهر القهر دون أن يكون ثقيلًا في سرده وضجيجه على حدّ سواء.
من خلال المجازفة والرّهان على الهشاشة والضّعف والبساطة في الأسلوب وفي الأفكار وفي انتقاء الحوارات المحكيّة الارتجاليّة يتمّم خدّاش مقولته حول الواقع الفلسطينيّ ويرفعه إلى مستوى أعلى من ظاهره ليثبت ذكاء وحدّة البساطة والضّعف في تعميق المقولة. من هنا، ومن خلال قراءة هذه النصوص القصيرة، نجده لا يتعامل مع أفكاره انطلاقًا من المنطق السرديّ الميكروسكوبي الدّقيق، ولا يبحث عن المفردات الجادّة التي تصيب النصوص بغيبوبة المجاز ليشدّ بها نصّه. كلّ ما يفعله خداش أنّه يخلقُ عالمًا رطبًا وهشًا عماده أفكارٌ وحوارات وسيلٌ من الفكاهة تنطلق من الإحساس بالقَهر والمأساة. ومن هنا، فهو يحفر أفقًا جديدًا في السرد الفلسطينيّ الذي تحضر فيه المأساة في لباسٍ آخر، أكثر ذكاءً ورشاقةً وطلبًا. هذا هو نظام الفوضى التي تحتاج إلى الكثير من الجهد والفطنة من قبل الكاتب ليبحث فيها عن نقطة ارتكاز تبرّر منطق الفكاهة في كافّة النّصوص التي تتراوح بين القصير والقصير جدا. إنها الفكاهة التي تُوازن بين القهر وأسلوب التعامل معه. في قبضة صغيرة، في وقت سريع الوتيرة، وأمكنة عاديّة تمرّ سريعًا في الذاكرة، يُنقذ زياد خدّاش القارئ من الألم في شكله المباشر ويفتحه، بلغته الخاصّة، على الضّحك تارة وعلى البكاء تارة.