الحميمي والعفوي كركيزة درامية للوثائقي العربي الجديد

إبراهيم، إلى أجلٍ غير مسمى

نديم جرجوره

ناقد سينمائي من لبنان

هذه نماذج. الوثائقي العربي يزداد انفتاحا على اختبارات، بعضها موصوف بالمُغامِر، فالتجريب مطلوب، والذهاب بعيدا في كسر الحدود الفنية اختبار سينمائي أيضًا.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

29/11/2019

تصوير: اسماء الغول

نديم جرجوره

ناقد سينمائي من لبنان

نديم جرجوره

1

في لقطة موضوعة في بدايات «احكيلي» (2019)، الوثائقي الجديد للمصرية ماريان خوري، يتساءل شقيقها إيلي عن مدى أهمية سرد حكايات حميمة أمام الملأ. تأتي هذه بعد لقطة تجمع خوري بابنتها سارة في غرفة صغيرة في باريس، تُعلّق فيها الشابّة على كيفية اشتغال والدتها في تصوير اللقاء الطويل بينهما، فتُجيب المخرجة أنّها تُفضّل أنْ تكون الأمور عفوية وبسيطة وتلقائية، لذا فهي غير راغبة في تحضيرات تقنية جمّة قبل تصوير مشهدٍ، إذْ لعلّ تحضيرات كتلك تُعطّل ما تبغي ماريان بلوغه في “سيرتها” الوثائقية هذه.

تختزل هاتان اللقطتان جزءًا أساسيًا من الاشتغال الوثائقي السينمائي العربي، حديث الإنتاج، وبعضه مُشارك في الدورة الـ32 لـ”مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية”، المُقامة بين 20 نوفمبر/ تشرين الثاني و1 ديسمبر/ كانون الأول 2019. وإذْ يغلب مضمون التساؤل الأول على أفلامٍ عديدة، فإنّ العفوية في التصوير تُشكّل هاجسًا لدى مخرجين عربٍ، ينغمسون في مسائل وحالات، عامة وفردية، في راهنٍ عربيّ مُثقل بارتباكات وقلاقل، وإنْ يستعِدْ بعضه فصولا من ماضٍ، تُسبّب ـ بشكلٍ أو بآخر ـ ارتباكات الراهن وقلاقله.
 

احكيلي

والعفوية، وإنْ تكن “مضبوطة” أحياناً بخطوط عامة تترابط فيما بينها على أساس موضوع أو شخصية أو حالة، متأتية من أنّ الوثائقيّ غير معني بترتيبات صارمة قبل إنجازه، ومن أنّ المُراد سلفا يحتاج إلى مساحة كبيرة من العفوية أثناء التصوير، تستند (العفوية) إلى وعي جمالي وسرعة بديهة ونُضج معرفي، كي تتمكّن الكاميرا من التقاط مستجدّ أو مهمّ، لم يكونا في الحسبان مثلاً. ولعلّ ما تقوله السينمائية البلجيكية شانتال أكرمان (1950 ـ 2015) دليل على أهمية العفوية: “إنْ أعرف ما أريد فعله، وكيف أقوم به، لن تعود لديّ رغبة في القيام به”. ومع ما يُمكن أن يحمله تعبير كهذا من تساؤلات مُثيرة للنقاش النقدي، إلاّ أن العفوية المقصودة تبقى أساسية، إلى حدّ كبير، في الاشتغال الوثائقي، إنْ تكن محمّلة بتصوّر عام، وبشعور كبير بحرية العمل.

2

في مقابل التفكيك السينمائي، المُنجَز باللغة الحديثة للوثائقيّ (التي تُلغي كلّ حدّ بين التوثيق/ التسجيل والروائي/ السردي)، يتحوّل الذاتيّ إلى شهادة سينمائية، تعكس شيئًا من فوضى الذات في ارتباطها بسيرتها وعائلتها وذاكرة العائلة وتحوّلاتها، إمّا بالبقاء داخل الإطار العائلي، كما في “إحكيلي” (المُشارك في المسابقة الرسمية، في عرضٍ عالميّ أول)؛ وإمّا بانفتاح ما على تاريخ جماعي، وتفاصيل عامّة، وإرثٍ ملتبس الأجوبة غالبا، كما في «إبراهيم، إلى أجلٍ غير مُسمّى» (2019) للفلسطينية لينا العبد (برنامج “أفضل المهرجانات”).

الحميمية المعروضة أمام الملأ في «إبراهيم» لينا العبد مجبولة بهمّ ذاتيّ، ينفتح على تاريخ جماعيّ، عائليّ وحزبيّ، وعلى أعوام حافلة بصراعات فلسطينية مختلفة. وإذْ تغيب الـ”عفوية” المباشرة للتصوير، فإنّ هذا لن يُلغي الـ”عفوية” الذاتية للمخرجة في قيامها بتلك الرحلة، العاصفة بالتباساتٍ وهواجس وأجوبة ناقصة وأسئلة معلّقة وتفاصيل معطّلة، وبرغبة في المعرفة والفهم.
 

إلى سَما

والحميميّ نفسه يتّخذ من العائلي والذاتي ركيزة درامية للبدء بمسار حادّ ومرتبك من التحدّيات والمخاوف والشقاء، المعطوفة كلّها على أمل النجاة، من دون ابتعادٍ كبيرٍ عن حالة عامة، تكشفها السورية وعد الخطيب، المتعاونة مع البريطاني إدوارد واتّس على إنجاز «إلى سَما»، الذي تظهر فيه مناضلة وأمًا وزوجة ومُصوّرة، لن تأبه كثيرًا بـ”قواعد” التصوير وأصوله وحِرفيته. فإلى جانب عدم اتقانها هذا الفنّ، هناك جُرح، والجُرح أكبر من أنْ يخضع تصويرها لقوانين الفنّ السابع، لأنّ الحرب الأسدية ـ الروسية على سورية وناسها تُصيب مقتلا، ما يجعل التصوير مُلحًا، إذْ ربما يُقتَل الناس، فتغيب قصصهم وانفعالاتهم وأهواؤهم، كما تقول الخطيب.

3

لكنّ “عفوية” التصوير لن تبرز كثيرًا في «الكهف» لفراس فياض، المُشارك، كما «إلى سَما»، في برنامج “أفضل المهرجانات”. والحميميّ فيه غير مرتبط بذات مخرج «آخر الرجال في حلب» (2017)، المُرشّح رسميًا لـ”أوسكار” أفضل فيلم وثائقي طويل (2018)، وغير معنيّ بخصوصيته العائلية المباشرة، بل بعلاقته، الإنسانية والأخلاقية والثقافية والفنية والانفعالية، بالجرح السوري نفسه، الذي يُراد له أن يبقى مفتوحًا بالدم والتدمير والإلغاء والإنكار والتغييب والإقصاء. ففيّاض يتّخذ من مشفى في الغوطة الشرقية، يُعرف باسم الكهف، حيزًا مكانيًا ينفتح على عالمٍ واسع من الخراب والقهر والتحطيم والازدراء، يمارسها نظام قاتل، مدعوم من “آلة عسكرية ستالينية”، من دون تناسي ثقافة اجتماعية تُعانِد المرأة وكينونتها وحضورها وحماستها واشتغالاتها ورغباتها وهواجسها، وهذه ثقافة موروثة، تجعل ضحيتها (الرجل) “تبتزّ” المرأة لحظة انهماك النظام والآلة في تحطيم كلّ شيء.
 

الكهف

أما «عن الأرض والخبز» للفلسطيني إيهاب طربيه، المعروض ضمن برنامج “واجهة الضوء ـ التركيز: لا يزال يؤلم”، فالعفوية طاغية، إذْ ينطلق تصويره من مشروع عائد إلى عام 2007، ترعاه منظّمة “بيتسليم” (المركز الإسرائيلي للمعلومات المتعلّقة بحقوق الإنسان في الأراضي المحتلّة)، ويُشرف عليه طربيه بصفته رئيس قسم الفيديو في المركز، يقضي (المشروع) بمنح كاميرات فيديو لمتطوّعين شباب في الضفة الغربيّة، لتصوير “حيواتهم” التي يعيشونها في ظلّ الاحتلال، كما في ظلّ “المستوطنين غير الشرعيين” (كما في “جينيريك” البداية). عفوية توثّق وتؤرشف أعمالاً عنفية (لفظًا أو ممارسة مادية مباشرة)، يقوم بها جنود ومستوطنون ضد أطفال فلسطينيين، تحديدًا.
 

عن الأرض والخب

ومع اللبنانية ريمي عيتاني، يتحوّل إبراهيم من شاب متزوّج وعاطل عن العمل، إلى شخصية أساسية في «إبراهيم»، تنفتح على جرح ذات وروح، وعلى خراب بيئة وجماعة، وعلى توهانٍ في دهاليز الفقر والقهر والألم. فالبيئة (منطقة “باب التبانة” في طرابلس، شمال لبنان) معروفة بإخضاعها، السياسي والأمني اللبنانيين، لحروب مع جبل محسن تلبية لرغبات إقليمية، أو ترجمة لصراعات مختلفة. ومع أنّ عيتاني معنية بإبراهيم، وبما يعيشه إبراهيم ويشعر به ويهجس به ويحلم به، إلاّ أنّ “إبراهيم” منفلش، ولو قليلا، في جغرافيا البيئة وفضائها الحياتي العام.

4

السودانية مروى زين تذهب ـ في «أوفسايد الخرطوم» ـ إلى أمكنة أخرى. تستعيد بعض تاريخ بلدها، لصُنع مقارنة سينمائية مبطّنة مع راهنٍ يسبق “ثورة 19 ديسمبر” (2018)، كأنّه يؤشّر ضمنًا إليها. تختار شابات يرغبن في ممارسة رياضة كرة القدم. تذهب معهنّ في مساراتٍ يومية، كي تلتقط بَوحَهنّ ومشاغلهنّ وتحدّياتهن، وكلامهنّ يمزج تفاصيل بمحطّات، وحكايات بذكريات، وبماضٍ وراهن. تستعين برياضة، كي تكشف الاجتماع والسياسة والثقافة والحياة. تختار نُتفًا من الماضي، كي تقول ـ سينمائيًا ـ إنّ الراهن متعِبٌ ومتعَبٌ. “تفضح”، بالصورة، ثقل حكمٍ يمزج العسكري بالإسلاميّ، قبل “انقلاب الأقدار” على حكمٍ كهذا. تُسجّل أقوالهنّ، لكنها عبر التسجيل تغوص في نفوسٍ وأحوالٍ ورغباتٍ وآمال. تستعين بفتاوى لمقارنتها بحيويةٍ شبابية لصبايا يسعين جاهدات إلى عيش ما تصبو نفوسهنّ الطيّبة إليه، فتنكشف الفتاوى أحكامًا عنفية بحقهنّ، في مقابل توق حيويتهنّ إلى الحياة.

5

هذه نماذج. الوثائقي العربي يزداد انفتاحا على اختبارات، بعضها موصوف بالمُغامِر، فالتجريب مطلوب، والذهاب بعيدا في كسر الحدود الفنية اختبار سينمائي أيضًا.
 

أوفسايد الخرطوم
الكاتب: نديم جرجوره

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع