تستضيف مدينة حيفا في فلسطين الدورة الرابعة من مهرجان “كوز” للسينما الكويرية، وتنظمه مؤسسة أصوات، في سعي للإضاءة على التجارب السينمائية المرتبطة بأسئلة الجندرة والعنف على أساس الدور الاجتماعيّ، ليتحول إلى مساحة آمنة يمكن ضمنها التعرف على المحاولات العربية والعالميّة التي تسعى لخلق نقاش وجدل حول حقوق الأقليات في فلسطين والمنطقة العربيّة، والسعي للحد من العنف الذي يتعرض له مجتمع الميم الذي ما زال مُختفياً كونه يُجرم في العديد من الدول العربيّة.
رفع المهرجان هذا العام شعار “الهجرة والتهجير والاغتراب” لتأتي الأفلام المختارة محاولة للإضاءة على تحولات هذه الكلمات الثلاث، ومعانيها الحرفيّة والمجازيّة التي يمكن للسينما أن تكتشفها أو تضيء على جوانب جديدة منها.
«نصف حياة»… صراع البحث عن الشبيه
ترسم المُخرجة تمارة شوجلو في بداية فيلم التحريك «نصف حياة» (12د) المدينة وصخبها والاكتظاظ الذي تحويه، إذ تؤسس للجموع وأسلوب حركتها، لتنقلنا بعدها إلى المقهى، حيث يجلس ناشط من أجل حقوق المثليين، ويجري لقاءً صحفياً من نوع ما، لكننا لا نسمع أسئلة، إذ يبدأ بالحديث مباشرة عن “خطورة” ومصاعب أن يدافع الفرد عن حقوق الإنسان في مصر، ليخبرنا بعدها كيف شهد مع أصدقائه حادثة تعرض فيها طفل في الخامسة عشر للضرب والتنمر من قبل شبان في الشارع، ثم دخوله وأصدقائه في شجار مع الشبان الأشقياء، وأخذهم إلى قسم الشرطة، حيث ضُرب الطفل مرة أخرى، وتعرض للاغتصاب، ليأتي نص محضر الاعتقال مختلفاً كلياً عما حدث، خصوصاً أن المعتدي لم يتعرض لأي مساءلة.
هذه الحادثة التي تكشف آلية عمل أجهزة القمع، وأسلوب الإفلات من العقاب فتحت أعين الراوي على حقوق الإنسان والمثليين في مصر، إذ بدأ يكتب على النقود عبارات ضد نظام مبارك، وينشط في الثورة المصريّة، لننتقل بعدها إلى صور حقيقة عن والقمع الذي مارسه رجال الشرطة ضد المتظاهرين.
يخبرنا أيضاً كيف بدأ يسعى لنشر الوعي بخصوص المثلية وحقوق المثليين المهدورة، وهنا يظهر تورطه الشخصيّ أثناء حديثه عن علاقته مع “بلاده”، فهل سيكون له حبيب مصري أو أجنبي، ليجيب فوراً أنه يفضل من يُشبهه، شاب مصريّ يفهم لغته ونكاته وتاريخه.
يحاول الفيلم أن يشير إلى أشكال الاختفاء التي تقع على المثليين في مصر، وصراعهم من أجل الظهور علناً والبحث عمن يشابههم، فهم لا يعانون فقط من تمييز السلطات ووحشيتها، بل هناك أثر شخصي، وهو الرغبة في البحث عن شبيه، عمن يكون مثلهم، فلا مساحة آمنة للتجمع والظهور وممارسة حقوقهم البسيطة، وهنا نعود للراوي الذي يعيش غريباً في بلاده، مع ذلك هو يبحث عمن يشبهه، فالهرب ليس إلا استسلاماً، ونفي للذات نفسها التي تبحث عن مساحة لها، وهنا نفهم عنوان الفيلم الذي يحيل إلى اقتباس لجبران خليل جبران، فنصف الحياة، هو عدم قدرة الفرد على أن يعيش حياته التي يعلم أنه يستطيع عيشها.
«بلاك مامبا»… بانتظار الضربة القاضيّة
تهرب سارة من شباك المنزل، ثم نراها لاحقاً تخفي الكدمات على وجهها، بعد ذلك، تسألها أمها عن سبب الكدمات، هل هو محمود، خطيبها الذي من المفترض أن يتزوجها قريباً، بعدها، نراها والكدمة على وجهها في مدرسة الخياطة، ليبدو الأمر للوهلة الأولى وكأننا نشاهد فيلماً تقليدياً عن تعنيف النساء، لكن الأمر مختلف، إذ تحاول أمل قلاتي على طوال عشرين دقيقة في فيلم «بلاك مامبا» أن تعرفنا على صراع آخر تخوضه المرأة في تونس، وهو حرية ممارسة ما تريد، والذي نكتشف لاحقاً أنه “الملاكمة،” فسارة الملقبة بـ”بلاك مامبا” في الحلبة، تتسلل ليلاً للمشاركة في مباريات الملاكمة، لنراها تصارع خصمين، الأول يتمثل بوضعها الاجتماعيّ، والثاني غريمتها في الحلبة.
تقترب الهزيمة من سارة، لكنها تستمر في “اللكم” وتنتصر على خصمها الأول، ليبقى الثاني المتمثل بدورها الاجتماعيّ، إذ نراها وبانتقال سريع من لحظة انتصارها التي لا نراها على سريرها وهي ترتدي ثوب العرس، ترتجف خوفاً من رجل لا نراه، خصوصاً أن “طقس الزواج” سيمنعها من الملاكمة، لكن حينها، يأتيها خبر من اللجنة الأولمبية تدعوها للمشاركة في أولمبياد ريو، لنراها تحمل رداء الملاكمة، وتهرب من العرس.
يسير الفيلم بصورة مشوّقة نكتشف إثره الصراعات التي تمر بها سارة والتي تترك كدمات نفسية وجسديّة عليها، هي “مقاتلة” بالمعنى الشعري والحرفي للكلمة، وكأن ما حولها مؤقت وحاجز لا بد من اجتيازه بانتظار لحظة المواجهة، هي تريد أن تكون بطلة لأجل نفسها، لا لإرضاء أي أحد.
نشاهد في الفيلم شكلين لدور المرأة لن نناقش كل واحد على حدة، لكن سنشير إلى “الأزياء” المرتبطة بهما، فهي الفتاة العاملة والعروس التي يفرض عليها الاستعداد لتقوم بدورها الذي لم تتمرن عليه، في حين أنها في الحلبة ترتدي عباءة الملاكم، وتتمرن يومياً، هي تؤمن بـ”طقس الملاكمة” وقدرته على تحريرها، وترى فيه وسيلة للمواجهة، فالحياة حسب مدربها مباراة ملاكمة كبرى.
العلاقة بين الزي ولحظة نزع الزيّ تحمل الفيلم إلى مساحة للتأويل ترتبط بالقرينين، حلبة المصارعة والسرير، إذ من المفترض إن تم العرس أن تنزع التنكر/الثوب نهاية من أجل دماء ما، وهذا ما لا نراه، في حين أنها في الحلبة تنزع الزي وتأخذ زمام المبادرة، وتسيل دماؤها ثمن لانتصارها هي، هذه الثنائيّة نراها في لحظة الهروب، إذ يفقد ثوب العرس قيمته، بل يصبح أشبه بعائق يلفت انتباه الناس إليها أثناء فرارها بعيداً.
«هذا ليس حباً»… أنا بكل عيوبيّ
تلتقط تيريزيا سالا في وثائقيّ “هذا ليس حباً» (33 د) سيرة باربارا، المصابة بإعاقة جسدية، والتي تقول في بداية الفيلم إنها تتمنى أن لا تموت أمها، لنراها بعدها عاريّة، تكشف عن جسمها وتكوينه، في إجابة مباشرة عن أول ما يخطر في بالنا حين نراها، وهو سبب إعاقتها.
لاحقاً تأخذنا بربارة في رحلة حميمية عن الذاكرة والجسد، تخبرنا عن شهواتها وما تريده، وتوقها لملمس جسد آخر “يُفرد” على جسدها، تكشف لنا عن فانتازماتها وشهوتها للآخر، هي مدركة بدقة إعاقها، لكنها كـ”الآخرين”، مدّعي “الصحّة” تريد حباً وشغفاً، في ذات الوقت اشتهاءً وشبقاً.
تمتلك بربارة عشاق من الرجال والنساء، لكنها تفضل النساء، فنشوتها الأولى كانت مع صديقتها بعمر الخامسة عشر. تتابع لتخبرنا عن تجاربها السيئة ثم الممتعة ومن تحب ومن تشتهي، الأهم أن بربارة ساخرة، تدرك لم قد يشتهيها البعض، ربما لاكتشاف اختلافها، أو لتفريغ رغباتهم، لكنها تسأل دوماً “من يشتهيني؟”
يحاول الفيلم أن يكسر الصورة النمطية التي نمتلكها عن جنسانيّة ذوي الإعاقة والتي تحاط غالباً بالغموض والفانتازم المنحرف، الذي تولده التحديقة الطبيّة أو الإحساس بالشفقة، إذ نرى أنفسنا في عالم شعري، نكتشف فيه حساسية بربارة التي نراها تنطق قصائد في الكثير من الأحيان، تدعونا لاكتشافها كما هي، بربارة، العاشقة، الشهوانيّة، الساخرة من العالم ومتحدية شكله القويم.
«خوسيه»… لعنة الحياة الرتيبة
لم يكن هناك جديد في حياة خوسيه إلا لقائه بلويس وهزة أرضيّة، إذ يستيقظ كل يوم ليوصل والدته إلى الحافلة، ثم يذهب للعمل في مطعم فقير، هناك يبيع الطعام للمارة، يُدخن، يلتقي شاباً ما ليفرغ فيه شهوته، ثم يعود للمنزل.
الروتين السابق الذي نراه في فيلم «خوسيه» (1:26 د)” لـ”لي شينج” يتغير حين يظهر لويس، ويبدأ مع خوسيه قصة حب يكتشفان عبرها رغباتهما، ومشاعرهما التي لم تظهر في علاقاتهما العابرة، لكن كل منهما خاضع لشروط قاسية، خوسيه يعيل والدته، ولويس مهاجر من الريف الكاريبي، لا مجال ليكونا معا في فضاء غواتيملا، عليهما فقط استراق اللحظات السريّة والممتعة، تلك التي قادت خوسيه في رحلة تأمل اكتشف عبرها العنف الذي يخضع له، كغيره من سكان غواتيمالا الذين يلتهم الفقر عقولهم.
يرحل لويس، ويكتشف خوسيه عدميّة الإيقاع الذي يعيشه، لا مستقبل ولا حاضر، مجرد استنزاف يومي كان يخدره بعلاقاته العابرة، حتى محاولته البحث عن لويس باءت بالفشل، إذ لم يجده حيث يسكن، ليظهر الفيلم أشبه بمحاولة لاكتشاف الجدوى من الحياة، التي إن وجدت معنى لها في فرصة “الحب” لا يعني أنها ستقبل به، بل قد تتركه يرحل، وكأن هناك جرجاً عميقاً لا يندمل، وعوضاً عن النحيب، هناك الصمت الثقيل الذي ينخر رأس خوسيه.