رافق التطهير العرقي لحرب العام 1947-1948 تطهير وثائقي، تمثل إما في اقتلاع وضياع لمعظم الوثائق الفلسطينية المكتوبة، أو سقوطها غنائم في أيدي القوات الإسرائيلية أثناء الحرب. وبالرغم من محاولات فردية ومؤسساتية، بحثية، لجمع ما تبقى من وثائق بين أيدي جيل النكبة، لازال التأريخ للنكبة يواجه صعوبات ندرة المصادر والوثائق المنشورة والمخطوطة المتوافرة، والاستناد غالباً إلى التوثيق الشفوي، الذي قد يتأثر بانتقائية الذاكرة وخذلانها تارة، وبالذاتية المتبدلة بتبدل شخصية الراوي تارة أخرى، في محاولة للتغلب على عدم وجود أرشيفات عربية، والتعتيم المستمر على الوثائق في المواضيع “الحساسة” المتعلقة بالنكبة في الأرشيفات الإسرائيلية.
ورغم الطابع الأكاديمي لكثير من الدراسات الإسرائيلية، فإنها حاولت تكريس السردية الصهيونية الرسمية، انتقل معها هذا التأريخ من إنكار الدور الصهيوني ليدخل في مرحلة التعويم؛ أي جعل ذلك التطهير مقبولاً في الغرب، في وقت تغيب فيه رواية أكاديمية عربية أو فلسطينية رسمية أو غير رسمية للنكبة. وإن كنا أمام أرشيف إسرائيلي بات، نسبياً، مفتوحاً أمام الباحثين، فماذا عن الأرشيف العربي الذي لا يزال مغلقاً، ناهيك عن العيوب المعرفية والمنهجية للكتابة العربية عن النكبة؟ وكم هي المسافة التي لا تزال تفصلنا عن النقد الهيستوريوغرافي، المنهجي والمعرفي، للرواية الأكاديمية الإسرائيلية؟
عوائق أمام التأريخ العربي
معظم النصوص التاريخية العربية التي أرّخت للمدينة (يافا) وحكايتها في حرب 1947-1948، سواء كانت دراسات أكاديمية، أو كتابات تاريخية عامة، أو كتب سيرة وتذكّرات، وحتى تلك التي أدرجت يافا ضمن تاريخ عام للمدن والقرى الفلسطينية المهجّرة، عانت أحيانا من الاختزال والغياب، وتلك الذاتية في السرد، وأحياناً أخرى من انتقائية الذاكرة، التي تميل الى تجميل الماضي أو روايته برؤية الحاضر. وعلى الضفة الأخرى، فإن النصوص التأريخية الصهيونية لم تكن أفضل حالاً من نظيرتها العربية، إذ اختصرت حكاية مقاومة يافا، واقتصرت على التأريخ لبعض العمليات الصهيونية المركزية وأيام يافا الأخيرة، لتسلط الضوء على الوضع الجيوسياسي الذي أحاط بالمدينة، وما رافقه من انقسام عربي مزعوم، بوصفها عوامل أسهمت في سقوط المدينة، وفي معظمها خضعت تلك النصوص للصراع الصهيوني الداخلي على الرواية الصهيونية لتاريخ الحرب المؤسسة للكيان الاستيطاني، مع أن بعض تلك النصوص قد عكس بطريقة غير مباشرة مدى المقاومة العربية وأثرها خلال أشهر خمس من المعارك.
هناك عوامل موضوعية كانت عائقا أمام التاريخ العربي، تمثلت في غياب المصادر الأولية التي تؤرخ لهذه التجربة، خصوصا مع عملية التطهير الوثائقي التي رافقت عمليات التطهير العرقي الصهيوني، فاختزنت الأرشيفات الصهيونية المختلفة آلاف الملفات الوثائقية العربية المنهوبة التي بقيت مغلقة إلى حين أمام الباحثين.
من هنا تأتي أهمية كتاب «يافا دم على حجر، حامية يافا وفعلها العسكري: دراسة ووثائق« لمؤلفه بلال محمد شلش (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ديسمبر/ كانون الأول 2018)، الساعي إلى التأريخ لتجربة المقاومة الفلسطينية المسلحة في يافا خلال حرب 1947-1948، محاولاً تجاوز الثغرات الموضوعية والذاتية في عمليات التأريخ السابقة، معتمداً بالدرجة الأولى على الرواية العربية المستخرجة من وثائق حامية يافا، التي ضمّت يوميات جبهاتها التي تغطي ثلاث أشهر من المعارك، ومقارنتها عبر قراءة نقدية تحليلية بمصادر أولية أخرى، عربية وصهيونية وبريطانية، وبالأدبيات العربية والصهيونية المنشورة.
الكتاب ثمرة عمليات النبش في أحياء المنشية، وأبو كبير، وتل الرمش، وجوارها، التي قادت إلى اكتشاف ملفات حامية يافا ويوميات جبهاتها ضمن المواد والوثائق العربية التي نهبتها دولة الاحتلال خلال الحرب، والملفات المخزنة في الأرشيف الإسرائيلي. تلا ذلك بحث في نصوص السير والمذكرات المختلفة التي دوّنت أثناء المعارك وبعدها، ثم العودة إلى نسخة كاملة من صحيفتي فلسطين والدفاع، وأعداد من صحف الصريح والوحدة والشعب، ومصادر أولية أخرى صهيونية وعربية وبريطانية، متعلقة بسير الحرب في يافا.
يافا المحاصرة
منذ العام 1887 بدأت الأحياء اليهودية تستقل عن المدينة القديمة، وكان ذلك في جانب منه قد نشأ في سياق تطور المدينة ونموها المطرد أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ومطلع القرن العشرين، وتزايد التعداد السكاني اليهودي مع وصول مزيد من المهاجرين اليهود عبر ميناء المدينة. هناك أسباب أيديولوجية تكمن وراء هذه الأسباب العملية، بعد أن أصبحت يافا مركزا للهجرة اليهودية إلى فلسطين، مما تطلب فصلاً جغرافيا بين هؤلاء المهاجرين والعرب، حفاظا على قيمهم القومية، ولغتهم، واستقلالية مؤسساتهم التعليمية والثقافية العبرية، وتقليصاً للضغط على ميزانية الاستيطان بالاستغناء عن استئجار المنازل العربية، وتعزيزاً لنمط الاستيطان الحضري تمهيداً لرفع المكانة السياسية لليهود.
حُرمت يافا بسبب هذه الأحياء اليهودية من إطلالتها شمالا على نهر العوجا، ثاني أكبر أنهار فلسطين، ومن امتدادها جنوباً باتجاه نهر روبين، وأيضاً من تواصلها مع الريف العربي شرقاً. وكان الصراع على ملكية أرض كرم الجبالي، بسنوات قليلة قبل الاحتلال البريطاني لفلسطين، بين الأهالي وجمعية أحوزات بايت الاستيطانية اليهودية بداية شعور أهل يافا بالخطر الذي تنامى مع ازدهار النفوذ الصهيوني بعد الاحتلال البريطاني ليافا وجوارها في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917، والذي أصبحت معه يافا ساحة رئيسية للمواجهة العربية الصهيونية، لاسيما بعد أن سعت الأحياء الصهيونية التابعة لبلدية يافا إلى الانفصال عنها للالتحاق ببلدية تل أبيب، التي تشكلت العام 1934م، وقد عكست تغطيات الصحف الفلسطينية الصادرة خلال تلك الفترة مدى احتدام هذا الصراع.
الكتاب في جزئه الأول
اشتمل الجزء الأول من الكتاب على ثلاث دراسات، ناقشت الأولى منها حيثيات تشكل المقاومة المسلحة في المدينة وصيرورتها، وصولاً إلى بدء نضوجها التنظيمي في شباط/فبراير 1948 وأبرزت وجود حالة إجماع فلسطيني على تمثيل الهيئة العربية العليا لأهل فلسطين عموما، جعلتها مصدراً لشرعية جميع المبادرات والتشكيلات التي شهدتها يافا استعداداً للمقاومة، أو لإدارة شؤون الأمن والدفاع فيها. ومدخلاً إلى حلول استثنائية اضطرارية في ظل عدم وضوح رؤية اللجنة القومية، وبقية الهيئات المحلية للتحولات الجديدة التي فرضت إثر القرار البريطاني بالانسحاب من فلسطين. وبنيت هذه الدراسة اعتماداً على مصادر عربية أولية تغطي وجهات النظر المختلفة وسجّلت في أزمنة مختلفة قبل الهزيمة وبعدها، ودعمت بمواد وثائقية أساسية من الأراشيف الصهيونية.
الدراسة الثانية تناولت بنية حامية يافا وفعلها العسكري (فبراير/ شباط – أبريل/ نيسان 1948) وافترضت بأنه مع نهاية يناير/ كانون الثاني ومطلع فبراير/ شباط 1948 كان البناء التنظيمي للحامية قد اكتمل، واستقرت جبهات المدينة المختلفة. وناقشت الدراسة تأثير المتغيرات الجديدة المتمثلةّ بقدوم قوات عربية – إسلامية إلى يافا، فقدمت تحليلاً لفعل الحامية العسكري بالاعتماد على تقارير الموقف اليومي لجبهات الحامية ووثائقها، مقارنة بتغطيات الصحف العربية والصهيونية، وبالتقارير البريطانية الرسمية، وبالروايات التاريخية والوثائق الصهيونية.
أما الدراسة الثالثة فتناولت هزيمة يافا (نهاية أبريل/ نيسان – مطلع مايو/ أيار 1948) وسلطت الضوء على معارك الأيام الأخيرة، بدءا من 25 أبريل/ نيسان 1948، ورأت الدراسة أن سقوط المنشية -الموقت- يوم 28 أبريل/ نيسان لم يكن سقوطا عسكريا ليافا، وإنما كان هزيمة في معركة كبيرة، هي استمرار لمعارك الأشهر الفائتة. وسعت الدراسة للتأريخ لتبعات الهزيمة وبدء تفكك الحامية، والعوامل التي أسهمت في تسارع وتيرة تفككها وحتى انهيارها من خلال تقارير الموقف اليومي للحامية مقارنة بالمصادر الصهيونية والبريطانية والعربية المختلفة
من السياسة إلى الأمن والدفاع
يذهب بلال شلش إلى أن تجريف الاحتلال البريطاني للمقاومة المسلحة بعد ثورة 1939 أدى إلى إنعاش القوى السياسية العربية، فتشكلت الهيئة العربية العليا برئاسة الحاج أمين الحسيني ممثلاً لعموم فلسطين برعاية عربية رسمية، وكانت يافا من أوائل المدن الفلسطينية التي انتخبت لجنة قومية تابعة للهيئة العليا، متجاوزة انقساماتها التقليدية السياسية والفكرية والاجتماعية، وأظهر أمين الحسيني حرصه على الاستعانة بالتنظيمات المحلية المختلفة، والخبرات التنظيمية، حتى المعارضة منها، حين سحب من اللجنة القومية مهمة إدارة الأمن في 5 كانون الأول/ ديسمبر وأسندها إلى محمد الهواري، الذي شكّل “مجلس الأمن” في يافا، باستثناء جبهة أبو كبير، التي انحصر فيها عمل اللجنة القومية.
وعلى الرغم من إخفاق تجربة مجلس الأمن في المدينة، بعد تجاوزات قائده الهواري، بفرضه الضرائب على الأهالي، ومفاوضاته مع “الهاغاناه” دون الرجوع للهيئة، أو التنسيق مع اللجنة القومية، إلا أن هذا الإخفاق أكّد تميّز تجربة نموذج يافا، إذ أشار الانسحاب الهادئ لمحمد نمر الهواري، الشخصية الأبرز في المعارضة اليافية قبل الحرب، إلى إجماع، في حدوده الدنيا على الأقل، على أن الهيئة العربية العليا هي مصدر الشرعية الذي لم يكن ممكنا لأحد تجاوزه، وكذلك إلى إجماع على رؤية الهيئة للحرب، ولإدارة ملف الأمن في يافا. وتظهر هذه النتيجة ضرورة إعادة النظر في الدراسات التي تحدّثت عن انقسام عميق في المدينة، خصوصاً الانقسام السياسي، الذي تسبب في انهيار مجتمعها، وجعل الهزيمة خياراً محسوماً، فقد أظهر إخفاق تجربة مجلس الأمن في المدينة، فقر رؤية اللجنة القومية والقادة المحليين المهتمين بشؤون المدينة، بأطيافها كلها، لطبيعة المتغيرات التي حدثت في فلسطين بعد قرار المستعمر البريطاني الجلاء عن فلسطين وإقرار التقسيم.
تعاملت اللجنة القومية، وعموم القادة المحليين، مع حوادث ما بعد التقسيم، كتعاملها السابق مع بعض المواجهات التي كانت تشهدها المدينة سابقا، ولم تكن مدركة أن الدفاع عن المدينة الآن يتطلب تأسيس قوة دفاع أهلية مستقلة عن قرار الحكومة. في البداية لم يكن لدى اللجنة القومية التي عاودت استلام مهام الأمن، بعد رحيل الهواري، أي مشروع حقيقي، واكتفت بركونها لمشروع البلدية ودعمه، والقاضي بتطوير قواها الشرطية، مع أن ذلك ظل مبادرة في حدود حفظ الأمن الداخلي، وخضع في النهاية لأوامر الشرطة الحكومية البريطانية، ولم يرق إلى أن يكون نواة لمشروع في الدفاع عن المدينة ضد الخطر الصهيوني الحالي والمستقبلي. لذا، تقاعست اللجنة عن تعزيز الاستحكامات والحراسة المحلية، رغم محاولات استدراك ما فاتها بعد تفجير السرايا القديمة في 4 يناير/ كانون الثاني 1948، الذي أحدث انقساماً جديداً في الآراء حول سبل الدفاع عن يافا.
ظهر في المدينة توجهان، سادا عموم فلسطين أيضا؛ توجه يدفع للاعتماد على الذات، وفي خلفيته رغبة في تعزيز المؤسسات الفلسطينية، وتقويض الفرصة أمام مشروعات سياسية، كمشروع الملك عبد الله للاستحواذ على بقية فلسطين. وتوجه يدفع للاستنجاد بجامعة الدول العربية، وفي خلفيته إقرار بعجز الإمكانات المحلية، أو تبعية لنفوذ عربي، خصوصا النفوذ الأردني، لكن استمرارا لفرادة نموذج يافا، لم يتحول الخلاف بين التوجهين إلى انقسام عميق، إذ اتفق على توجه توفيقي يقضي بضرورة تعزيز الجهد الذاتي لحماية المدينة، وطلب النجدات العربية أيضا. وتدخلت الهيئة العربية العليا مجدداً لتنظيم التشكيلات المحلية وأسندت إلى حسن سلامة، في 21 يناير كانون الثاني، الدفاع عن المدينة عبر تنظيم “جيش حماة الأقصى” الذي حسّن من شروط الدفاع عن المدينة.
القلعة المحصورة
انتهت الاشتباكات بين العرب والعصابات الصهيونية، التي دارت منذ اليوم الأول للإضراب الذي دعت إليه الهيئة العربية العليا في 2 ديسمبر/ كانون الأول رداً على قرار التقسيم، بتدخل الجيش البريطاني، وفرض منع التجوال، وأظهرت الوثائق أن الاشتباكات خلال شهر يناير/ كانون الثاني كانت محدودة في حجمها وجغرافيتها، لكنها ستنضج بحلول شهر فبراير/ شباط 1948 مع نضج بناء حامية يافا. لكن يافا ستكون على موعد مع قرار استثنائي من الهيئة العربية العليا، وقائدها العسكري في يافا، حسن سلامة، ستسفر عن تغييرات أساسية في بنية حامية يافا وقيادتها. وهو قرار من ضمن سلسلة قرارات اتخذتها اللجنة العسكرية لإدارة جبهات القتال في عموم فلسطين.
مثلما قدمت يافا نموذجاً متميزاً في إدارة شأنها الداخلي، تميزت المدينة عن معظم مدن وقرى فلسطين الأخرى إثر قرار اللجنة العسكرية العربية العليا في فبراير/ شباط 1948 بالنظر إلى المدينة باعتبارها «القلعة المحصورة»، وربط حاميتها باللجنة العسكرية بشكل مباشر. تبع هذا القرار مباشرة، إرسال الضابط العراقي الرئيس عبد الوهاب الشيخ علي كأول آمر للحامية.
حضر العلي إلى المدينة بصحبة عدد من الجنود والضباط، وبدأ باستكشاف حاجات الحامية، وأصدر سلسلة من القرارات التنظيمية، لكن لم يطل مقام العلي في المدينة، إذ غادرها عائدا إلى دمشق التي وصل إليها في 14 فبراير/ شباط عبر عمان. وبعد تقديمه تقريراً قيّم فيه قدرة مجاهدي يافا وتدريبهم بشكل إيجابي، أعلن العلي استنكافه عن العودة إلى يافا لأسباب مجهولة، لكنها بعيدة، بكل تأكيد، عن أي انقسام داخلي واجهه العلي، أو لعدم تعاطي اللجنة العسكرية مع رغبات العلي لتطوير أداء الحامية بإيجابية.