الجزء الأول… هنا
القلعة المحصورة
انتهت الاشتباكات بين العرب والعصابات الصهيونية، التي دارت منذ اليوم الأول للإضراب الذي دعت إليه الهيئة العربية العليا في 2 ديسمبر/ كانون الأول رداً على قرار التقسيم، بتدخل الجيش البريطاني، وفرض منع التجوال، وأظهرت الوثائق أن الاشتباكات خلال شهر يناير/ كانون الثاني كانت محدودة في حجمها وجغرافيتها، لكنها ستنضج بحلول شهر فبراير/ شباط 1948 مع نضج بناء حامية يافا. لكن يافا ستكون على موعد مع قرار استثنائي من الهيئة العربية العليا، وقائدها العسكري في يافا، حسن سلامة، ستسفر عن تغييرات أساسية في بنية حامية يافا وقيادتها. وهو قرار من ضمن سلسلة قرارات اتخذتها اللجنة العسكرية لإدارة جبهات القتال في عموم فلسطين.
مثلما قدمت يافا نموذجاً متميزاً في إدارة شأنها الداخلي، تميزت المدينة عن معظم مدن وقرى فلسطين الأخرى إثر قرار اللجنة العسكرية العربية العليا في فبراير/ شباط 1948 بالنظر إلى المدينة باعتبارها «القلعة المحصورة»، وربط حاميتها باللجنة العسكرية بشكل مباشر. تبع هذا القرار مباشرة، إرسال الضابط العراقي الرئيس عبد الوهاب الشيخ علي كأول آمر للحامية.
حضر العلي إلى المدينة بصحبة عدد من الجنود والضباط، وبدأ باستكشاف حاجات الحامية، وأصدر سلسلة من القرارات التنظيمية، لكن لم يطل مقام العلي في المدينة، إذ غادرها عائدا إلى دمشق التي وصل إليها في 14 فبراير/ شباط عبر عمان. وبعد تقديمه تقريراً قيّم فيه قدرة مجاهدي يافا وتدريبهم بشكل إيجابي، أعلن العلي استنكافه عن العودة إلى يافا لأسباب مجهولة، لكنها بعيدة، بكل تأكيد، عن أي انقسام داخلي واجهه العلي، أو لعدم تعاطي اللجنة العسكرية مع رغبات العلي لتطوير أداء الحامية بإيجابية.
أرسل مكان العلي إلى يافا، معززاً بأسلحة وبفصيل من الجنود اليوغسلافيين، الضابط العراقي المقدم عادل نجم الدين، وكما لوحظ، فإن الحضور العربي أسهم في تطوير بنية الحامية وهيكليتها. لكن معه أيضاً، ستواجه الحامية، عدداً من الإشكاليات، التي أثرت سلباً في أدائها في بعض الأحيان، مست البنية التنظيمية، مثلت في أحد جوانبها بسعي معظم المجموعات الوافدة إلى الحامية مع الحضور العربي للعمل كمجموعات مستقلة، وهو ما سيكون أحد عوامل تفكك بنية الحامية إثر معاركها الأخيرة.
رغم إشكاليات الحضور العربي، فإنه انعكس بداية، عدداً وعدة، بشكل جلي على فعل حامية يافا العسكري. وخلال فترة هذا الحضور (فبراير/ شباط – أبريل/ نيسان 1948) استمرت حرب الاستحكامات اليومية نمطاً شائعاً على مجمل فعل الحامية العسكري، وتعزز هذا النمط لتوافقه مع توجّهات اللجنة العسكرية العربية العليا التي قصرت مهمة حامية المدينة على الدفاع وحماية المدينة، إلى حين وصول القوات المؤهلة للهجوم. وتعزز أيضا بالنظر إلى طبيعة تسليح الحامية المعتمد بدرجة أولى على ما كانت ترسله اللجنة العسكرية العليا، وعلى بعض الأسلحة من السوق المحلي، ومما نجحت الحامية في تصنيعه.
مع ذلك، استمر مجاهدو الحامية بتنفيذ سلسلة من العمليات الاستثنائية، التي تكاثفت، وهدفت إلى تعزيز الموقف الدفاعي. وفي بعض الأحيان، لجأت الحامية إلى عمليات خاصة للرد على هجمات العدو المركزية المتزايدة. كما لجأت الحامية إلى سلسلة عمليات قصف باستخدام مدافع/ راجمات محلية الصنع، تحقيقاً لنوع من التوازن مع العدو والرد بالمثل، بعد نجاحه في تصنيع مدفع دافيدكا لاستهداف المناطق العربية في يافا.
استراتيجية هجومية متأخرة
لم تكن قوة حامية المدينة المعززة عربياً كافية لحسم معركة المدينة، واشتدت في عموم فلسطين المعارك خلال شهر أبريل/ نيسان مع قرب جلاء المستعمر البريطاني على فلسطين، وإثر التراجع النسبي في موقف الولايات المتحدة من مشروع التقسيم. إذ بدأ الصهاينة، الذين طوّروا قدراتهم العسكرية الهجومية منذ ذلك الحين بوصول أول دفعة من صفقات السلاح التشيكوسلوفاكية، سلسلة هجمات استهدفت احتلال عدد من القرى والمدن والمواقع الاستراتيجية، كان أبرزها سقوط طبريا وحيفا وبعض أحياء القدس، في ظل صمت بل تواطؤ من قوات المستعمر البريطاني.
وبالقرب من يافا، نجح الصهاينة في أبريل/ نيسان في نسف مقر قيادة القطاع الغربي في المنطقة الوسطى، واحتلال أحد أبرز المواقع الاستراتيجية في جوار يافا، معسكر تل لتفنسكي، كأول حلقة من حلقاتهم لفرض الحصار على المدينة. كانت قناعة مخططي «الهاغاناه،» كما يبدو، أن تنطلق المعركة على يافا من خارجها، باحتلال جوارها العربي، وقطع خطوط مواصلاتها الرئيسة، ومن ثم تشديد الخناق على المدينة إلى أن تعلن استسلامها. وبالنظر إلى طبيعة الاستراتيجية الدفاعية المفروضة على الحامية، لم يكن ممكنا أمام المدينة غير انتظار مصير مجهول.
سعت اللجنة العسكرية إلى تغيير استراتيجيتها في القطاع الغربي من المنطقة الوسطى، والبدء بتنفيذ عمليات هجومية، لكن الوقت كان قد فات، ولم تجد النداءات المتكررة لبعض سكان المدينة للفيلق العربي، من أجل تسريع تعزيز دفاعات المدينة وقدراتها الهجومية، آذانا صاغية.
الهزيمة
كان الملك عبد الله ملك الأردن عاجزاً عن تلبية طلب المدينة بتعزيز الحامية، وتحسين قوة ردعها بتوفير مدفعية ثقيلة، إذ كان الفيتو البريطاني حاضرا. ولم يكن إخفاق اللجنة العسكرية العربية في يافا بعجزها عن توفير السلاح للمدينة، وإنما أخفقت في الإدراك المبكر لضعف استراتيجيتها العامة في فلسطين، وفي المنطقة الوسطى بشكل خاص. كما أخفقت في توجيه قواتها الأساسية نحو معارك مؤثرة لا تستهلك أرواح جنودها وعتادهم ومعنوياتهم، ومعنويات عموم السكان. فالمعارك الجانبية ثبت، بشكل مبكر، أنها لم تكن إلا معارك لإشاعة الوهم. وكان تعيين فوزي القاوقجي قائداً الجبهة الشمالية الإشكالي قائدا للمنطقة، إخفاقا آخرا للجنة العسكرية، حين عجزت عن توفير قائد جدير بقيادة المنطقة الوسطى.
إثر الهجمات الصهيونية المتتابعة على معظم مناطق فلسطين، ونجاحها في احتلال مدن كبرى، كطبريا وحيفا وعدد من القرى والمواقع الاستراتيجية، وفي ظل اشتداد المعارك في عموم المنطقة الوسطى، خصوصا القدس ويافا، أدركت اللجنة العسكرية، وعلى رأسها طه الهاشمي وإسماعيل صفوت، ضرورة إحداث تغيير في الاستراتيجية العامة لقواتها، لكن هذا الإدراك جاء متأخراً، فقد استعدت “الهاغاناه” لتطويق المدينة واحتلال محيطها العربي، بينما هاجمت “الإيتسل” المدينة لاحتلالها.
استغاثت يافا، وحاول الهاشمي ترجمة اهتمامه بشكل فوري بدعم عسكري، وبأوامر لاحقة لضرورة نجدة يافا بقوى كافية، لفك الحصار عنها، ويمنع أي محاولة لخنقها مستقبلا، ويسهم في تعزيز مقاومتها لهجوم “الإيتسل”. لكن هذه الأوامر لم ينفذها القاوقجي إلا بعد نجاح “الإيتسل” في قطع المنشية، ونجاح “الهاغاناه” في احتلال تل الريش، وعدد من القرى العربية المجاورة ليافا، محكمة الطوق على المدينة.
تأخر أيضاً حضور هيكل الذي وصل إلى المدينة بسلاح عراقي وبسلاح اللجنة العسكرية، بالتزامن مع حضور قوة النجدة إليها، بعد تأخره في عمان بسبب أمله في الحصول على دعم عسكري من ملكها، خصوصاً المدفعية الثقيلة. وعلى الرغم من تأخر الدعم، نجحت الحامية في الصمود أمام الهجوم الصهيوني المزدوج، ونجحت في تحرير تل الريش، وصمودها في المنشية إلى آخر مجاهد وآخر رصاصة، لكن تقارير الموقف اليومي الأخيرة بدأت تبرز ملامح بداية تفكك للحامية في بعض المناطق في ظل محدودية أعداد المجاهدين، وسعة رقعة الاشتباكات، وهو ما كان ينعكس إرهاقاً على تكوينهم عموماً. وبدأوا يعانون من حركة نزوح مدنيي المدينة، التي ابتدأت مع القصف الاستثنائي بقذائف الهاون من “الإيتسل” يوم 25 أبريل/ نيسان كحركة نزوح داخلية. لكنها مع استمرار القصف العشوائي لليوم الثاني ثم الثالث، وبدء “الهاغاناه” بقصف الجبهات المختلفة بقذائف أشد فتكا منها “دافيدكا”، تحولت لحركة نزوح خارجية، مؤذنة بحالة فراغ في بعض الأحياء، ليبقى مجاهدو الحامية المرهقون من دون ظهر. وبالإضافة إلى ذلك، بدأ عدد من مجاهدي الحامية بالانسحاب منها بحثاً عن أمان عائلاتهم.
وفي ظل نجاحات الحامية النسبية، وإثر فرض الجيش البريطاني لوقف إطلاق نار عمم لاحقاً على عموم المدينة، ومع وصول النجدة، ظهر أن الحامية ستستعيد عافيتها، إلا أن الجو العام في المدينة كان محبطاً، خصوصا مع عدم توافر شخصيات قادرة، أو راغبة، في الحفاظ على المدينة قلعة مقاومة، حتى وإن غادر سكانها، وهو ما كان بالضرورة سينعكس سلباً على مجاهدي الحامية، فلماذا يقاتلون؟
أتت الضربة التي عجلت في تفكك الحامية بقرار فوزي القاوقجي، القائد الجديد للمنطقة الوسطى، بعزل قائد الحامية عادل نجم الدين، مكافأة له على صموده في ظل غياب النجدة، حيث استبدل به قائد قوة النجدة ميشيل العيسى. رغم اعتراضه على القرار، قرر نجم الدين، أخيراً، الانسحاب من المدينة مع الجنود العراقيين واليوغسلافيين. كان قرار القاوقجي الرصاصة الأخيرة في جسد الحامية، وعجز العيسى عن السيطرة على الحامية وإيقاف تفككها، وعلى فوجه الذي انسحب معظم جنوده بأسلحتهم مع المنسحبين. عجل ذلك في تفكك الحامية وضاعف من التأثيرات السلبية لتفككها، ولم يكن ممكنا في غياب القائد إعادة تأسيس الحامية، بالحد الأقصى، لتواصل الدفاع عن المدينة، أو حفظ مقاتلي الحامية وأسلحتها، وتوجيهها إلى موقع آخر من مواقع القتال. يئست معظم شخصيات يافا من الدفاع عن المدينة، ومالت إلى قبول إيحاء حاكم لواء اللد البريطاني بإعلان المدينة ومعاملتها بوصفها مدينة مفتوحة.
المسؤولية
يلاحظ شلش أن مجمل تذكّرات الهزيمة اليافية، والعديد من الأدبيات، قرأت تجربة حامية المدينة بأيامها الأخيرة عموماً، وحمّلت شخصيات، منها آمر الحامية عادل نجم الدين، وعضو اللجنة العسكرية الأبرز طه الهاشمي، ما لا تحتمل. ولم تقتصر على ذلك، بل أسقطت حوادث جرت في ظل الانهيار العام للمدينة بين 30 أبريل/ نيسان و3 مايو/ أيار، أو إشكاليات حدثت في أثناء معارك المنشية الأخيرة، كسطو بعض أفراد الحامية أو ضباطها على المحال التجارية والممتلكات الخاصة، أو على بعض الأموال والعتاد، للهجوم على فئات من الحامية كالجنود العراقيين أو اليمنيين، واتهامهم بما وقع وما لم يقع. متجاوزين في الوقت ذاته توجيه الاتهام لأنفسهم ولخياراتهم، أو بيان تقصير جهات وشخصيات أخرى. وهذا يدفع للحذر في قراءة هذه النصوص ومثيلاتها للتأريخ لحوادث الحرب والهزيمة. ويأمل الباحث أن تتوافر الفرصة قريبا لمناقشة استخدام تذكّرات الهزيمة عموما كمصدر لتأريخ حرب 1948-1947، خصوصاً في مرحلتها الفلسطينية (ديسمبر/ كانون الأول 1947 – مايو/ أيار 1948) في ورقة مستقلة، في ضوء القراءة النقدية التي أتاحتها وثائق حامية يافا، وبعض المصادر الأولية المهملة، كمخطوط يوميات طه الهاشمي الذي ينتظر من يستكمل تحقيقها.
وثائق حامية يافا
عومل الجزء الثاني من الكتاب معاملة الوثائق بشكل عام، حيث لم يجر عليه أي تعديل ما لم تفرضه الضرورة التي اقتضت إضافات لربط الجمل والكلمات بعضها ببعض أو تصحيح بعض الأغلاط النحوية. وتضمنت مجموعة وثائق حامية يافا التي جمعها الباحث، حتى لحظة صدور الكتاب، ثمانية عشر ملفاً مصدرها “أرشيف دولة إسرائيل”، التي إما نهبت من الهيئة العربية العليا، أو من جيش الإنقاذ، دون أن يتضح لدى الباحث المكان الذي نهبت منه.
ويقسّم هذا الجزء من الكتاب وثائق الحامية إلى:
1) نسخة من الموقف اليومي لجبهات الحامية المختلفة.
2) نسخة من بقية وثائق الحامية، ملحق بها عدد من بيانات الحامية المنشورة في الصحف، ووثائق الهيئات الوطنية المرتبط بنشاط الحامية.
3) قوائم بأسماء مجاهدي الحامية وشهدائها، استخرجت من وثائق الحامية، وتقارير الموقف اليومي، وقوائم المجاهدين، وقوائم الرواتب.
كان أول تقارير الموقف اليومي هو التقرير الذي أرسله عبد الباري الهس، قائد منطقة الجبالية، تحت عنوان “البلاغ الأول” يلخّص فيه أحداث منطقته، تبعه تقارير يومية بدأت ترسلها جبهة البصّة وشارع سلمة، منذ 8 فبراير/ شباط 1948، لتتوالى بعدها التقارير التي كان الدافع وراءها أما تنظيمياً؛ لاطلاع قائد الحامية على مجريات المعارك، ولتنظيم عملية صرف الذخيرة وتوثيقها، أو لتوفير مادة إعلامية رسمية للصحف التي بدأت، منذ 13 فبراير/ شباط، بنشر موجز يومي لسير المعارك استناداً إلى تلك التقارير.
تستكمل بقية وثائق الحامية التقارير اليومية، لتقدم صورة شاملة عن نشاط الحامية، وتضمنت: تعميمات إدارية صادرة عن الحامية، ومجموعة مراسلات بين قيادة الحامية وعدد من الجهات واللجان (لجنة يافا القومية، جيش الإنقاذ…)، تتعلق بمتابعة شؤون الجنود، ومجموعة شكاوى مرسلة من قادة الجبهات أو الجنود، بالإضافة إلى سلسة تقارير سجلها المفتش العام حسن حسون، تتعلق بمتابعة شؤون الجبهات.
يعتقد شلش أن أهمية تلك الوثائق تنبع من مصداقيتها ودقتها، مقارنة بالمصادر الأولية الأخرى (على سبيل المثال كتلك التي استند إليها نص عارف العارف “النكبة”، والتي اختزلت العديد من المعارك الهامة، السابقة واللاحقة، رغم أنها كانت أكثر تأثيراً وأهمية)، كما قدمت تطوراً تاريخياً لبنية الحامية بصورة دقيقة. ونظراً لكونها كتبت لأغراض داخلية فقد خلت من كثير من مبالغات المصادر الصحفية، باستثناء بعضها المتعلقة بتقدير خسائر العدو.
خاتمة:
الكتاب، بجزأيه، كما يراه صاحبه، محاولة أولية لدراسة تجربة حامية يافا (ديسمبر/ كانون الأول – إبريل/ نيسان 1948)، يأمل أن تكون فاتحة لدراسات أخرى تنتقدها وتصوّبها، وتستكمل التأريخ لهذه التجربة، وتعيد طرح النقاش حول ما بات مسلمات ترتبط بتأريخ تجربة يافا خصوصا، وتأريخ الحرب عموما. لايزال التاريخ الفلسطيني والعربي للحرب بكراً وقاصراً لاسيما في مرحلتها الأولى (ديسمبر/ كانون الأول 1947- مايو/ أيار 1948) التي كان فيها أهل فلسطين، عموما، هم عمود مقاومتها الأساسي، خاضوا المعارك الأكثر حسما في مصير فلسطين، والتي لو تغيرت نتائجها لتغير هذا المصير.
ويضيف شلش أن الفائدة المتوخاة من الكتاب هي الكشف عن الرواية العربية المغيّبة التي لازالت تنتظر لتتضح كشفاً عن وثائقها المتوفرة في الأرشيفات المحلية، وأرشيفات العدو، ويوميات بعض الجنود والقادة، محفوظة في المنازل، أو الأرشيفات، والتي يمكن لها الكشف عن حجم الهفوات والفجوات في كثير من الدراسات العربية والصهيونية المرتبطة بتأريخ الحرب.