فرشاة أسنان واحدة

Morning Sun, 1952, Edward Hopper

حنان البدوي

كاتبة وباحثة مصرية

في فراق سابق، قال حبيب سابق: "الحياة تعوضنا بشكل ما... هناك دائماً فرصة أخرى تطرق الباب"، وقلتُ "لكن الخسارات تبقى خسارات، تترك ندوبها في الروح وتُضاعف هشاشة القلب، تكسر توقعاتنا إزاء الحياة وتسحب من رصيد الثقة المطلقة بشكل عام."

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

16/12/2019

تصوير: اسماء الغول

حنان البدوي

كاتبة وباحثة مصرية

حنان البدوي

لها مجموعة قصصية منشورة بعنوان «ما لا يقال»

“اتعودت اشتري لشخصين…ولاحظ البياع ان قلو

بدو يسألني وما إلو عين.. حاسس كان في ناس كانوا فلو”*

الصباحات التالية للفراق هي الأصعب. 

أفتح عينَي بين الصحو والنوم، أتحسس احتمالات أن ما حدث أمس لم يحدث. في كل مرة يتكرر السيناريو نفسه. أمني نفسي أن ما حدث كان كابوس سأصحو منه الآن لأكتشف أنه لم يحدث. تتكشف الحقيقة/الصدمة على مهل، وأنا أفتح عينَي ثم ستارة شباك غرفة النوم فستارة شباك المطبخ. تتسلل الحقيقة ببطيء مؤلم: أنا الآن وهنا وحدي.

في الحمام أحاول أن أنفض عن روحي ثقل الحقيقة تحت انهمار الماء الساخن. رائحة الفانيليا تربت على جسدي المنهك بعد نوم متقطع: سكنته الأحلام والكوابيس، ثم أيقظته الحقيقة. أنظر إلى فرشاة أسنانك الزرقاء التي تبدو لي كأنها تعانق فرشاة أسناني الوردية. كم أحتاج في هذه اللحظة إلى أن أدس رأسي المتعب في عنقك، كما تدس فرشاة أسناني رأسها في عنق فرشاتك أمامي. ثم لماذا تركت فرشاة أسنانك هنا أصلاً؟ 

ولماذا في كل مرة يرحل الراحلون تبقى تركة من تلك الأشياء الصغيرة المؤلمة التي لا نعرف ماذا نفعل بها؟ أتذكر أن فرشاة أسنان أمي تُركت في مكانها قرب العام دون أن أجرؤ على التخلص منها عقب رحيلها. أتذكر أني لازلت غير قادرة على الاقتراب من دولاب ملابسها، من نظّاراتها الكثيرة، من العصا التي تعكزت عليها في أواخر شهور حياتها. 

أتذكر شجارات قديمة مع أمي في محاولاتها التخلص من مقتنيات أبي التي توالت عليها الأعوام بعد رحيله دون أن تتزحزح عن أماكنها التي اختارها هو… كنت أتشبث برائحته في بقاء تلك الأشياء على وضعها. ثم أتذكر أن لا شيء يبقى على وضعه، وأن رأسي يؤلمني جداً، وأن الاشتياق يمكن أن يقتل كل مرة، المرة تلو المرة، ألف مرة.

***

“ذكرني دخلك ما كنا مناح… مش هني رشحونا للنجاح

يا ريتنا متل ما كنا من قبل … من قبل ما الوقت قطعنا وراح”

في فراق سابق قلت لحبيب سابق “لو أن على هذه الأرض عدل لتحددت لكل شخص حصة معروفة له سلفاً لجرعته المقسومة من وجع الانفصال، وسقف لا يتم تجاوزه لمرات الفراق التي عليه أن يتعرض لها، بصرف النظر عن أنواع الفراق.” كان حزني يختبئ كالمتعاد خلف ستار من السخرية اللاهية، بينما أحاول لجم دموعي قبل أن تنهمر على كتفه. قلت له -كاذبة- أني دربت نفسي على اعتياد القسوة على هذه الأرض، وأن قلبي بمرور العمر قد تحصن… قد زادت مناعته في مواجهة مرارات الفراق.

ها أنا أتجرع من جديد مرارة كوب القهوة الوحيد وخيبات القلب، وأنا استرجع حديث آخر صباح بيننا. كان حديث راقص بين كوبين من القهوة الدافئة، يتنقل بخطوات واثقة بين الجد والهزل في سلاسة دون أن يتعثر. يعجبني حديثك الذي يكون دائماً ذكي ولا يكون أبداً جافاً. يعجبني أنك مثلي تأخذ شئونك في الحياة بجدية، دون أن تأخذ الحياة في مجملها بأية جدية. يعجبني حين تفاجئني بملحوظة عابرة توحي بأنك تفهمني تماماً، حتى إن كنت بالطبع -في ضوء عمر علاقتنا القصير- لا تفهمني حقاً. يعجبني أنك حين ترتبت بكفك على ظهري تخف فجأة وطأة ثقل الحياة على كتفي. يعجبني أن وجودك يطمئن نوبات الهلع التي لازمتني في الأعوام الأخيرة.

في غيابك تعود نوبات الهلع، ثم تبدأ جلسة استجواب الذات المألوفة في الصباح التالي للفراق. 

هل أحببتك أنت أم أحببت حبك الجارف لي؟ هل الآن أفتقدك أنت أم أفتقد حنانك الغامر على كل ما حولك؟ هل أشتاق إلى حضنك أنت أم إلى حقيقة أنك تحتضنني تماماً كما أود، وطويلاً كيفما أحتاج دون أن تكل؟ وهل تركت فرشاة أسنانك هنا لأنك فعلا تنوي أن تعود؟ لا أعتقد. الأرجح أنك نسيتها فحسب. أعرف أنك قلت إن تلك لن تكون النهاية. لكنني قلت إنني أفضل أن أضع كلمة النهاية بنفسي الآن، قبل أن تأتي بها الأيام مغلفة بالصمت والنسيان، مبعثرة بين حقائق الجغرافيا والمسافات والظروف التي ستمضي بكل منا في طريق.

يعجبني أنك تعرف تلك القصيدة لروبرت فروست عن افتراق الطريق. أحب تلك القصيدة وأخافها. وأعرف أنك أيضاً تشاركني نفس الحب للقصيدة وللطريق، ونفس الخوف من افتراق الطريق.

***

“معقول يظل قلبي معلق بالمناطق

والايام تمر وشارع منو آمن

موضوعي باقي عالق… عالق”

في فراق سابق، قال حبيب سابق: “الحياة تعوضنا بشكل ما… هناك دائماً فرصة أخرى تطرق الباب”، وقلتُ “لكن الخسارات تبقى خسارات، تترك ندوبها في الروح وتُضاعف هشاشة القلب، تكسر توقعاتنا إزاء الحياة وتسحب من رصيد الثقة المطلقة بشكل عام.”

أحصي خساراتي وأعد على أصابعي مرات الفراق، محاولة قياس تدهور حالة القلب الهش. ولا أعرف هل التوقعات المكسورة إزاء الحياة هي التي تؤدي حتما لكسر القلب، أم أن بعض البشر قُسمت لهم حصتهم من الحب مغموسة دوماً في الألم. حصتهم شظايا كثيفة لقصص جميلة جدا لكنها مبتورة حتما… قصص تُحي القلب لتدميه، ثم تتركه يحتسي كوب وحيد من القهوة، ويفكر في مصير فرشاة أسنان واحدة.

 

* الاقتباسات هي من أغاني ألبوم “معلومات أكيدة”، لزياد الرحباني.

الكاتب: حنان البدوي

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع