في عملية السيطرة الإسرائيلية على كل ما هو فلسطيني، والممتدة من عام النكبة إلى اليوم، وفي كل الممارسات المنهجية وحتى العشوائية لذلك، لم يجد الفلسطيني نفسه سوى خاسرٍ أمام منتصر، وإن لم يكن هذا الخاسر مسلّماً بخسارته، وهذه طبيعة الشعوب المضطهَدة التي تقاوم، كالعَين، المخرز.
سياسياً واقتصادياً وأمنياً وحربياً، الفلسطينيون اليوم في أسوأ مراحلهم التاريخية. وهذه السياقات كلّها تحتكم بحكم القوي، القادر على الاضطهاد والممارس له، هذه طبيعة العلاقات الدولية وهذه طبيعة العلاقة التي تشكّلت بين حاكم الفلسطينيين (السلطة الفلسطينية) وحاكم هذه السلطة، والفلسطينيين من خلالها (الدولة الإسرائيلية).
الثقافة هي السياق الوحيد الخارج عن منطق العلاقة تلك، الثقافة بما تعنيه من فنون وآداب، من نتاج أفراد هذا الشعب ومؤسساته بما يحفظ الهويّة الفلسطينية، بأصالتها وحداثتها، كواحدة من أساليب المقاومة، كواحدة من الحالات الخارجة عن السيطرة الإسرائيلية، العصيّة عليها لأسباب تخص طبيعة الثقافة وتمايزها عن السياقات الأخرى التي خضعت أخيراً، من خلال السلطة الفلسطينية، إلى الاحتلال الإسرائيلي.
الثقافة، إذن، هي مساحة الفلسطينيين التي لا سيطرة للاحتلال عليها، أو لا سيطرة مباشرة إذ هنالك دائماً السلطة الفلسطينية والمجتمع الفلسطيني الذي شكّلته هذه السلطة، تراكمياً، منذ أكثر من ربع قرن. أقول: الثقافة هي معركتنا الأخيرة مع الاحتلال. هي فرصتنا حيث لا تفيد الاحتلالَ كافةُ عناصر قوّته التي فعلت في سياقات كالسياسة والاقتصاد.
ولأنّ السلطة، في توصيفها النّظري وتعريفها الإجرائي، هي موظّف لدى الاحتلال: في بنك، في مخفر، في مكتب… كان لا بد أن تتكفّل هي في ما لن يقدر عليه هو: إسكات الفلسطينيين ثقافياً. تجسّد ذلك في منع وزير الثقافة الفلسطيني قبل أسابيع عرضَ فرقة “الأمل” القادمة من الناصرة، لافتتاح مهرجان فلسطين الوطني للمسرح، بسبب ما قال إنّه ملابس أفرادها التي لا تليق بالمهرجان. وهذا وزير روائي ومثقّف ولم يأت إلى الوزارة كرجل أمن ولا كإمام جامع!
مرّت الحادثة باستهجان استحقّه الوزير، وبتمنٍّ بأن ينحصر المنع -إن كان لا بد منه- بالمشايخ والضّباط والوزراء (من غير المثقفين!)، ونمنا لنفيق على منع آخر، للأسباب ذاتها، لحالة مماثلة تماماً، فما تغيّر هو الأسماء: نستبدل فرقة “الأمل” بفرقة “عشتار”، مسارح المهرجان (الافتتاح كان في قصر رام الله الثقافي) بمسرح جامعة النجاح في نابلس، وزير الثقافة بعميد كلية الفنون الجميلة. الثابت أمام كل هذه المتحولات الشكلية كان السبب: الملابس النسائية غير الملائمة!
في تصرّف هو أقرب لشرطة دينية أو لعناصر أمن أو لشبّيحة ملثّمين، اقتحم العميد خشبة المسرح ليُنزل الفنانة عشتار معلم ويوقف عرض «إنهيدوانا» لمسرح عشتار الذي أتى ضمن حملة مناهضة العنف ضد المرأة! فكان انتصاراً غير مباشر للاحتلال، ومباشراً لوكيل الاحتلال الآتي غالباً في لباس ذكوري.
تُحدّد الحالتان أعلاه طبيعة المعركة الثقافية لشعبنا مع الاحتلال (معركتنا الأخيرة معه)، وهويّة “العدو” في هذه المعركة، فكما يمارس الاحتلال عملية السيطرة اقتصادياً وسياسياً بالأصالة عن نفسه، تُمارس له ثقافياً بالوكالة. وكي تتحدّد هويّة الوكيل أقول: هو صاحب سلطة في هذا المجتمع، منتفع من النظام السائد ضمن السلطة الفلسطينية وطبيعة علاقاتها مع دولة الاحتلال، وهو، حيث لا صدفة في ذلك، ذكر.
أيّ فعل ثقافي فلسطيني سيكون غالباً في مواجهة تلك المنظومة، وأي فعل ثقافي فلسطيني نسائي سيكون حتماً في مواجهة تلك المنظومة. وحين أتحدث عن الفعل الثقافي أقصد الثوري والتغييري والرافض للحالة السائدة في فلسطين، وليس المتعاوِن والمهادِن والباحث عن انتفاع (أكثر) ضمن حالة الاحتلال.
إلى أن نتحرّر من الوكيل وسيّده، لا بد من إدراك أن أي فعل ثقافي ثوري هو نسوي بالضرورة، وأي نسوي هو ثوري، وهذه معركتنا.