1
استناداً إلى يوميات الدكتورة أماني، إحدى أبرز شخصيات فيلمه الوثائقي الأخير، “الكهف” (2019)، يؤسّس السوري فراس فياض سردية سورية تبتكر شكلاً بصرياً يُغلّف نصّاً إنسانياً ـ أخلاقياً. والنص نفسه يعكس عنف نظامٍ مُتحالف مع قوّة دولية لمواجهة البلد وناسه، ويتناول أحوال اجتماع وموروثات ومسالك، وانعكاساتها على راهنٍ وتصرّفات آنيّة، بلغة سينمائية تمنح الصورة بلاغةَ قولٍ وبوحٍ، وتصنع من التفاصيل متناً يتساوى والمتن الحكائيّ في توثيق لحظة وواقع وحقائق وحكايات وانفعالات.
فـ”الكهف”، المُرشّح رسمياً لـ”أوسكار” أفضل فيلم وثائقي طويل (توزّع جوائز النسخة الـ92 في 10 فبراير/ شباط 2020)، معنيّ أولاً بمشفى، ينكبّ عاملون فيه على إنقاذ جرحى حربٍ أسديّة روسيّة (كما يعكس تعريفه)، ومهمومٌ بقراءة وقائع العيش في بيئة مستمرّة في التزام ثقافة متزمّتة اجتماعياً وتربوياً، إذْ يكشف تمسّك طبيبات وممرّضات بحقّ فرديّ في أنْ يختَرْن نمطَ عيشٍ وعلاقات، يختلف عن ذاك المفروض عليهنّ منذ سنين. وفراس فيّاض، إذْ يجهد في توثيق لحظات الجريمة الأسديّة الروسيّة بأداوت السينما الوثائقية، يبحث في وقائع اجتماع وانفعال، مُلغياً بذلك كلّ حدّ بين الجريمة والوقائع، كمن يُنبّه إلى أنّ ثقافة الانغلاق الاجتماعي، وبعضها معنيّ بموقع المرأة ومكانتها، مؤذية كالجريمة أيضاً.
إلى أماني، هناك سليم وسَمَاهر، الذين يُغادرون سورية “محاصَرين بقلق الهجرة الدائم” (بفضل صفقة إخلاء تفرض على السكّان هجر منازلهم، بعد الهجمات الكيماوية على الغوطة الشرقيّة في مارس/ آذار 2018)؛ وآلاء، “التي تُتابع عملها كطبيبة داخل سورية، مع مستقبل مجهول”. شخصيات أساسية، يرتكز “الكهف” عليها، ويروي معها فصولاً من سيرة “أطول حصار مستمرّ في التاريخ الحديث”، كما في تقرير لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدّة (حصار الغوطة ممتدّ على 5 أعوام)، تُصنّف (اللجنة) الحصار نفسه “جريمة حرب ضد الإنسانية”. هذا يكشف النواة الدرامية لفيلمٍ، يُمرّر في ثناياه تفاصيل عن علاقة الرجل بالمرأة، وعن نظرته إلى موقعها ومكانتها في الاجتماع والعلم والعمل، وعن مقاومةٍ، يستند جانبٌ منها إلى الموسيقى والطبخ.
ذلك أنّ أماني تواجِه نظرة ذكورية يستعين رجلٌ بها عند وصوله إلى المشفى لعلاجٍ، إذْ يواجهها بكلامٍ رافضٍ لها كامرأة تعمل؛ وتواجِه نساء منقّبات تزورهنّ في منزل إحداهنّ، إذْ تتمنّعن جميعهنّ من العمل “بسبب رفض الرجال لعمل المرأة”؛ وتواجِه ثقافةً تُختَزل بجملةٍ مكتوبة على جدار شبه مهدّم: “لن يفلح قومٌ ولّوا أمرهم لامرأة”. عنادها متأتٍ من إيمانها بحقّ المرأة في العمل والعلم والعيش والاختيار، وهذا لن يحول دون ارتدائها حجاباً، سيكون ملبساً لها يُعبّر عن إيمانٍ خاصٍ بها، ينبثق من قناعة واختيار. كما أنّها تسعى إلى تغيير المنغلِق، لقناعتها بمنطق يقول: “طالما أنّ المرأة قادرةٌ على العطاء، عليها أنْ تُعطي”.
هذه حربٌ أيضاً، تخوضها أماني، تماماً كمواجهتها اليومية حرباً تُدمّر وتُنهك وتُلغي. لسليم أسلوب آخر في المواجهة، يُضيفه إلى عمله كجرّاحٍ يُجري عملياته في ظروف صعبة، وبحدّ أدنى من المتوفّر، على أنغام موسيقى فنانين سوفيات يكرههم ستالين ويحاربهم وينفيهم ويلغيهم. وتماماً كانغماس سَمَاهر في الطبخ، فهذا فنّ أيضاً، ينخرط في تحدّي الموت، إذْ يقول فراس فيّاض إنّ الطبخ “فعلُ مقاومةٍ”.
2
ينضمّ “الكهف” إلى نمطٍ سينمائي وثائقي عربي، يخطو خطوات هادئة وبطيئة في تثبيت مشروع بصري فني ثقافي تأمّلي، ينبثق من غياب المخرج عن “بلاتوهات” التصوير، فيتعاون مع أفرادٍ آخرين لتحقيق ما يبتغيه، كي يصنع من الصُور والتسجيلات التي يحصل عليها فيلماً يضع فيه بعض انفعال وتفكير ورؤية وموقف وحالة. ومع أنّ اشتغالاً كهذا يواجه تحدّيات، لانعدام كلّ احتكاكٍ مباشرٍ بين السينمائي الوثائقي وموضوعه والحيّز الذي يحتوي على ما يريده من أدوات وفضاءات وأمزجة؛ إلاّ أنّ تجربة فراس فيّاض تمرين سينمائيّ، يُثير نقاشاً يبدأ باللغة والأسلوب والمتتاليات البصرية والاشتغال التوليفي (المونتاج)، ويتوقّف عند عناوين السياق الحكائيّ، المفتوح على مسائل عديدة، تندرج في إطار الحرب الأسدية الروسية على سورية والسوريين.
نمط كهذا يوازن بين صُور وتسجيلات ـ يحصل عليها من يُعنى بموضوع الصُور والتسجيلات نفسها ـ وصنيعٍ سينمائي يبتكره مخرجٌ يميل إلى اشتغالٍ على معنى الصورة وشكلها، وعلى آلية تحويلها إلى شهادة ترتكز أساساً على مفردات السينما وفضاءاتها. ورغم أنّ اشتغالاً كهذا لا يزال نادراً في السينما العربية، إلاّ أنّ التجارب القليلة تُثير نقاشاً حول علاقة السينمائيّ بالمكان وناسه، وبما ينبثق من المكان وناسه من انفعال وأحداث وحكايات وحالات وأمزجة.
حصول السينمائيّ الوثائقيّ على صُور وتسجيلات توثّق لحظاتٍ يصنعها حدثٌ معيّن، والسينمائيّ الوثائقيّ نفسه بعيدٌ جغرافياً عن الحيّز الجغرافي وفضاءاته وناسه وانفعالاتهم وأمزجتهم، دافعٌ له إلى إيجاد معادلات مطلوبة في صنع فيلمٍ، يرتبط بحدثٍ لن يكون السينمائيّ الوثائقي نفسه بعيداً عنه، نفسياً ومعنوياً وتأمّلياً وتفكيراً وانفعالاً. هذا يختبره فراس فيّاض في تحقيقه “الكهف”، تماماً كاختبار السوريّ أسامة محمد واللبناني محمد سويد. فالأول (أسامة محمد) يحصل على صُور وتسجيلات من وئام سيماف بدرخان، من قلب حمص، ويبني عليها “ماء الفضّة” (2014)، مُضيفاً تأمّلاته وانفعالاته وتساؤلاته، وهذه الأخيرة منبثقة من الحرب الأسديّة ضد سورية والسوريين، ومنفتحة على فنّ الصورة، وتاريخ المواجهات الحادّة مع نظام الأسد، أباً وابناً، كما على سلوك الجلاّد وعلاقته بالصُور، هو أيضاً. بدوره، يحصل الثاني (محمد سويد) على صُور وتسجيلات من شبابٍ سوريين مُقيمين في حلب المحاصرة، هم محمود الباشا وميزر مطر ومهند الخليل النجار، فيُنجز معهم وبفضلهم “بلح تعلّق تحت قلعة حلب” (2013).
3
في “الكهف” معلومات يُفترض بوثائقي سينمائيّ أنْ يتحرّر منها قدر المستطاع. لكن ثقل الحرب السورية، التي تُنتج أشكالاً مختلفة من مقاومة عنفها وتخريبها وإقصائها اجتماعاً وأناساً وتاريخاً وحاضراً، يتطلّب شيئاً من المعرفة، خصوصاً أنّ كثيرين مُنفضّون عن تلك الحرب، وعن مآسيها الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية. وإذْ تُقدّم المعلومات بعيداً عن معطياتها الجافّة، فإنّ ورودها على الشاشة، في بدايات الوثائقي ونهاياته، أو على لسان الراوي، أو في مرويات إحدى الشخصيات، تمنح المُشاهِد إمكانية إضافية لولوج عالمٍ تختلط فيه تناقضاتٍ تظهر، عادة، في ظروفٍ كتلك، أو ربما تلك الظروف نفسها “تُسهّل” اختلاطها. ففي عالم مشفى الكهف، في الغوطة الشرقيّة، أفعالٌ تتداخل وتتساوى في أهميتها، كمقاومة الموت، ومواجهة العقل المنغلق، والتأكيد اليوميّ على موقع المرأة ومكانتها، في الاجتماع والعلم والمعرفة والمقاومة. وأيضاً: عيشُ فرحٍ واحتفال بعيد ميلاد واستماع إلى الموسيقى.
تقول المعلومات إنّ للسكّان المحليين دوراً أساسياً في “إنشاء شبكة مُعقّدة من الأنفاق والملاجئ، أملاً في أنْ تكون آخر متنفّسٍ لحماية السكّان المحاصرين”. تُشير إلى أنّ المشفى، الواقع تحت الأرض، والمُسمّى بالكهف، أحدّ تلك الملاجئ. تُضيف أنّ أطباءً قليلي العدد، بينهم طلبة، مُصرّون على البقاء “في عتمة ذلك المكان”، يحدوهم أملٌ بـ”إنقاذ أرواح الجرحى”. تذكُر أنّ الدكتورة أماني وفريقها يُشكّلون “الأمل الأخير للمُحاصرين في ذلك المكان”.
إنّها الدكتورة أماني، ويومياتها ركيزة “الكهف” (كتابة أليسار حسن وفراس فيّاض) وعوالمه وفضاءاته وأسئلته، وبعض تلك الأسئلة منبثقٌ من ثقافة اجتماع وتربية وسلوك وعادات، تستقي من الدين تفكيراً وممارسة، وتُضيف عليهما (التفكير والممارسة) موروثات اجتماعية قديمة. إسعافُ الجرحى أساسيّ في المشفى والمتابعة السينمائية، فـ”الكهف” نتاج رغبة في فهم كيفية العيش في مكان منغلق على نفسه، والانغلاق مفتوح على الحيّز الجغرافيّ، كما على المفاهيم المُسيطرة على أفرادٍ كثيرين، رغم اشتداد حرب الإبادة ضدهم.
في هذا كلّه، تفلح الصُور (محمد خير الشامي وعمار سليمان ومحمد أياد) في مدّ التوليف (بيرك كيركغارد ودينيز كول بيرتسلن) بمادة بصرية، تخرج من فعلها التوثيقي إلى رحاب السينما. لقطات عديدة تعكس شيئاً من دمار جغرافيا، وخراب نفوس، واضطراب مسالك، وآمال عيش. ألوان غامقة، واشتغال على الصوت (مشرف مونتاج الصوت ومُصمّمه: بيتر ألبرتْسِن) يتناغمان في التقاط نبض المخبّأ في طيات السرد أيضاً، ويُساهمان في إظهار انفعال وموقف وحكاية.