قبل نحو مئة سنة، كرّر اليهود في ليلة الكريستال في ألمانيا الجملة نفسها، وهم يرون كيف كسّر وحرق النازيّون ممتلكاتهم. وهذا ما حصل، حرقهم هتلر في معسكرات الإبادة.
قبل أربعة أشهر نظّمنا في متجر فتوش في حيفا معرضنا الثالث للكتاب. وقبل أسبوع من انطلاق المعرض، عملنا بأنّ السلطات الإسرائيليّة أوقفت نحو ٨٠٪ من الكتب اللبنانيّة القادمة إلى المعرض على الحدود الأردنيّة الإسرائيليّة ثمّ أرجعتها إلى مصدرها؛ بيروت. ولعلّ في ذلك حظٌ حظيت به الكتب أن عادت سالمة إلى بيروت إلا من بصمات العسكر، في المقابل، أوقفت بعد شهرين شحنة كتب أخرى لمستورد آخر وتمّت مصادرتها، وأخرى تمّ إتلافها، أي إحراقها.
بالرغم من أنّ ظلاميّة التاريخ تبدو متكرّرة، إلا أنّ الحركة الصهيونيّة ربّما حرقت أجساد الفلسطينيين قبل أن تحرق كتبهم. واكتفت عام ١٩٤٨ بسرقتها من بيوتها، فسرقت على سبيل المثال نحو ٣٠ ألف كتاب من بيوت الفلسطينيين في غرب القدس وحدها. ثمّ أنجزت على كافّة الخيوط التي تربط الفلسطينيّ بالكتاب، من خلال إغلاق المطبعات ودور النشر في المدن المركزيّة، فمنع الكتاب العربيّ من الدخول إلى الأراضي المحتلّة، ثمّ تأسيس المنظّمة العماليّة الصهيونيّة (الهستدروت) لدار نشر عربيّة لقّمت الفلسطينيين بوجبة واحدة مما يراد لهم أن يقرأوا. وفي هذا علم استراتيجيّ مبكّر لضرورة إلغاء علاقة الفلسطينيّ بثقافته العربيّة وتجريده منها ليصير مواطنًا إسرائيليًا لا يُمايزه شيء غير لكنته العربيّة الفلاحيّة المحكيّة. “في العدد الأوّل الذي صدر عام ١٩٤٩ (من مجلّة الجمعيّة الشرقيّة الإسرائيليّة، الشرق الجديد)، نُشرت أوّل مقالة مشكّلة نافذة على مرحلة إنشاء “العربيّة” البنيويّ، وكانت بعنوان “دمج العرب في إسرائيل”، كتبها ميخائيل أساف، ويتطرّق إلى مكانة الفلسطينيين في إسرائيل وإلى طبيعة العلاقات بينهم وبين الدولة”*.
إنّ نزع الفلسطينيين في النكبة من مراكز قوّتهم الثقافيّة ونخبتهم وبنيتهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة، جعلتهم وجعلت الأجيال اللاحقة تبدأ من تحت الصّفر الحضاري، على مستوى التنظيم الجمعيّ والتأسيس المجتمعيّ. لم يكن الانتداب البريطانيّ لفلسطين بأقلّ تأثيرًا، فهو الذي سنّ قانون منع التجارة مع العدو عام ١٩٣٩، وهو القانون الذي لا يزال ساريًا وتستخدمه إسرائيل في منع دخول الكتب القادمة من لبنان أو سوريا أو العراق (الدول العدوّة) إلى الفلسطينيين في فلسطين التاريخيّة كلّها. وهو القانون الذي ندفع ثمنه غاليًا في عملنا في متجر فتوش وفي معارض الكتب التي نقيمها.
وبالرّغم من احتجاجنا الشخصيّ الذي لا يُسمن ولا يُغني من جوع، بكونه ليس جزءًا من أيّ نضال فلسطينيّ سياسيّ أو شعبيّ حزبيّ أو لا حزبيّ، ولم يكن أصلا. إلا أنّ وجود متجرٍ أو معرضٍ للكتب في حيفا يبدو ترفًا إن قابلت ذلك بمدن فلسطينيّة أخرى كبيرة في هذه الزنزانة التي تُسمّى أراضي ٤٨. نشأ معظمنا، الجيل الثاني والثالث والآن الرابع للنكبة، دون أن يرى متاجر للكتب أو مكتبات عامّة في مدننا إلا فيما ندر (دعونا لا ندخل في الحديث عن القرى)، وإن توفّرت، فهي فقيرة ومسكينة. إنّ سرقة الكتب ثمّ منعها من الدخول وتدمير دور النشر ليس “دمجًا للعرب في إسرائيل”، فالدمج قد يجعل منّي الآن أفضل متابعة للأدب والإنتاج المعرفيّ العالميّ مكتفيةً بما تُترجمه “دولتي” إلى العبريّة. لا يمكن اعتبار ذلك إلا اعتمالاً ممنهجًا لإنتاج مخلوقات “متخلّفة” تعيش في كهوفها المظلمة، فيما تمرّ عنها قطارات العالم المتحضّر. وفي ذلك تتجلّى أشرس أشكال الاستعمار.
المكتبات الوحيدة التي بناها الفلسطينيون هي المكتبات البيتيّة التي تعود في معظمها لعائلات شيوعيّة. حصل أن تعرّفتُ على الكثير منها. فكانت، تلك الرفوف الصفراء المتحجّرة، بالنسبة لتلك الفتاة المتخلّفة، كنزًا عظيمًا. ففي الوقت الذي تمتّع مجايليّ في القاهرة ودمشق بالوفرة والتنوّع والتجديد في متاجرهم ومكتباتهم البيتيّة. ظلّت تتصرّف كتب ماركس ودوستويفسكي أمامي مثل دكتاتوريّات أزليّة. قبل أيّام أعدت ترتيب مكتبتي في بيت العائلة، لأجد عشرات الكتب العبريّة البائسة التي اقتنيتها من معارض الكتب التي أقيمت أثناء دراستي في جامعة حيفا ومن دكاكين الكتب الإسرائيليّة في حيفا كالمستجيرة من الرمضاء بالنار.
تخيّل بورخيس الجنّة مكتبة. أما متجر فتوش الذي أسّسناه عام ٢٠١٦ في حيفا فأصبح جنّتنا الفعليّة. سبقته ولحقته متاجر قليلة لا يتعدّى عددها اليد الواحدة. لكن كيف ستصمد هذه الجنّة فيما يحرسها سجّانون يُدخلون إلينا الكتب بالقطّارة، وفيما الكثير من مرتاديها الذين أعمتهم إسرائيل يقفون قبالة الرفوف ويصفنون بأسماء المؤلّفين، إلا من أولئك الذين راجت أسماؤهم بعد وصول الإنترنت إلى أكبر زنازين القرن الواحد والعشرين؟
نحن نحارب تزوير الكتب، ولا نهاب الشّعر الذي “لا يبيع”، والكتب المتخصّصة الذي قد يأتي قارؤها بعد وقت طويل، لكنّه سوف يأتي. أخذ هذا الإيمان الجارف الذي تغذّى على ارتياد الناس وحماستهم في بداية عمل المتجر وفي المعارض التي أقيمت فجذبت الآلاف عبر وفرتها وغناها والأمسيات التي نُظّمت على هامشها والكتّاب والقرّاء الذين جنّدناهم، ينصحون ويُشجّعون الزّوار على اقتناء الكتب، أخذ يبهت. وسط هذه الحماسة ارتدت أصداء ٧٠ عامًا من الحصار، وصوت الدائرة المغلقة الذي يئزّ بين جدران المتجر؛ فالكتب التي نحلم بها لا يمكنها أن تعبر بسهولة، إلا إذا استطاعت الاختباء جيّدًا أسفل صناديق الكتب التي تُفتّشها الجمارك الإسرائيليّة، والقرّاء الهادرون الذين نحلم بهم كان يجب عليهم أن يعيشوا حياةً طبيعيّة كلّ هذه العقود حتّى تصير المكتبة جزءًا عضويًّا من أجسادهم وعقولهم.
معرض فتوش للكتاب، الذي يُقام داخل هذه الزنزانة، لا يمكنه دعوة أي كاتب عربيّ أو فلسطينيّ خارج أراضي الـ٤٨، فيخلق لهم طُرقًا إلكترونيّة تعويضيّة للحضور. في الدورة الأولى والثانية منه استطاعت كتبه أن تمرّ من تحت بساطير الاحتلال. أما الدورة الأخيرة، التي مُنعت ٨٠٪ من كتبه من عبور الحدود، فقد أقمناه بالقوّة، موفّرين كتبًا من مكتباتٍ وموزّعين في رام الله. وبالرّغم من أنّه لم يُشف فضولنا تجاه العناوين الجديدة والقديمة التي صدرت في بيروت وغيرها، إلا أنّ أهميّة إقامته جاءت لضرورة الإعلان عن منع الكتب وتوعية الجمهور بالقانون الإسرائيليّ المُضحك والخطير. صار قاموسنا بعده، وفي حديثنا عن أكثر متع الدنيا سلامًا؛ القراءة، قاموسًا سياسيًا واحتجاجيًا. فولّدت حرارتنا نوايا خوض معركةٍ قانونيّة شعبيّة مع مركز عدالة الحقوقيّ لإبطال القانون. يُلقي بعض الأصدقاء بجمل اعتراضيّة تُشجع القراءة الإلكترونيّة كبديل، وهذا أشبه بإجبار السجين على مسح جلده بخرقة بدل الاغتسال بالماء.
لكنّ متجر فتوش يغلق أبوابه الآن حتّى إشعار قريب. لكن ستظلّ الحدود الإسرائيليّة تعمل مثل مُحقان صدئ. ولن يتبدّد هذا اليُتم والحصار المحقّقين والماحقين إلا باجتثاث الفكر الصهيونيّ الذي تعلو جدرانه حولنا يومًا بعد يوم. ثمّة جهة، مجموعة، مؤسّسة، في هذا المجتمع اليتيم الذي لا دولةَ ولا سُلطةَ له، ينبغي أن تهدم جدران الزنزانة أو تُدخل، في الأقلّ، الماء إليها، أن تحارب هذا القانون الانتدابيّ وتسحق وجوده. فمثلما يُرى في غزّة سجنٌ كبير تكسر حصاره الأساطيل المحملّة بالطحين والأرزّ، على العالم أن يرانا كذلك، ويحمّل أساطيله بالكتب، فبطوننا محشوّة بالأرز وعقولنا جائعة.