وسط حالة من الدهشة والغضب من قرار وزير الشؤون الثقافيّة في تونس محمّد زين العابدين، بإلغاء لقاء الكاتب الأرجنتيني-الكنديّ ألبرتو مانغويل المحدّد ليوم السبت 22-2-2020، يردّ بيت الرواية، ممثلا بمديره الروائيّ التونسيّ كمال الرياحي، ببيان أصدره للصحافة مشدّدًا على الصياغة الهلاميّة لوزير الشؤون الثقافيّة بـ “إرجاء النّظر في الموافقة على هذا اللقاء، وإحالة هذا المطلب على أنظار وزير الشؤون الثقافيّة للحكومة المقبلة” والتي ظهرت في الإعلام كشبهة تطبيع مانغويل مع إسرائيل.
الأزمة التي أثارها مطلب الوزير زين عابدين بإلغاء لقاء مانغويل، والذي ردّ عليه الرياحي واصفًا إياه بالقرار المسيء لسمعة تونس وصورتها في العالَم، لم تقف عند هذا الحدّ، ليواصل مدير بيت الرواية التشبث بموقف المثّقف الذي يدافع عن حقّ الجمهور والقرّاء وعموم المثقّفين بتوضيح كافّة تفاصيل الموضوع وحيثيّاته بعيدا عن حسابات ومناورات وخطط سياسية خفية تجري في دهاليز وزارة الشؤون الثقافية. أعلنَ الرياحي يوم الخميس 20-2-2020 عن تنظيم بيت الرواية ندوة صحفيّة انعقدت اليوم الجمعة في مكتبة البشير خريف في بيت الرواية، والتي كشف فيها عن تطورات وانعكاسات هذا القرار في خطوة جريئة بتجاوز قرار الإلغاء وزفّ بشرى قدوم مانغويل إلى تونس في الموعد المحدد لإلقاء محاضرته يوم السبت 22-2-2020 في تمام الساعة الثالثة في المكتبة الوطنيّة.
في وقت قياسي لا يتجاوز ساعات على الأزمة المفتعلة حول زيارة مانغويل، والتي استمرّ التّحضير لها شهورًا طويلة وتمهيد الجمهور والمكتبات في تونس، إضافةً إلى تكاليف الدعاية والإعلان والتزام مانغويل بتسليم مادّته قبل الموعد بفترة طويلة، تم تشكيل خلية صغيرة من الشخصيات المؤثرة في المشهد الثقافيّ من المثقفين والإعلاميين والأكاديميين التوانسة الّذين تجندوا لتأمين اللقاء بشكل سلميّ وذلك بعد انتظار ردّ الوزير النهائيّ ورفض الذرائع السطحيّة، الشفهيّة والخطيّة، التي لم تبرر سبب هذا القرار الذي ترنّح بين شبهة التّطبيع عبثيّة الطابع، وبين طلب تأجيل اللقاء وإحالته للوزير القادم للنّظر فيه!
فريق عمل بيت الرواية، ونخبة من المثقفين والإعلاميين التوانسة ردّوا على هذا الموقف السّخيف، بطريقة راقية ومنسجمة تماما مع مطلب الجمهور حيث عملوا على تأمين فضاء مناسب لاستضافة مانغويل، وتمويل تكاليف الاستضافة ليكون جمهور بيت الرواية على موعد الكاتب كما كان مقررا.
لقد كَشف التّاريخ عن معضلة المثّقف أو المفكّر وأساليب انسجامه مع السّلطة أو تصدّيه لها وفق النّسق الثقافيّ الذي تواجد فيه المثقّف أو المفكّر على مرّ المراحل التاريخيّة والأزمات التي واجهتها المجتمعات. تعود المعضلة في الأساس إلى طبيعة الخصوصيّة الدكتاتوريّة/الهلامية/المنفعية العربيّة المتمثّلة في أشكال قمع صاحب السلطة للمثّقف بقتله أو حبسه او عزله أو، او احتوائه بتنصيبه في بلاطه، وإلى ممارسات المثقّف أو الفيلسوف أو المفكّر التي انحصرت في خط التّماس بين التواطؤ مع الحكام وبين الانتصار للعامة وقضاياهم في اللحظات التاريخية المفصلية.
حادثة مانغويل- زين عابدين، تذكّرنا بأنّ لا شيء تغيّر في هذه الجدليّة، جدليّة القلم والسّيف، ولا في ممارسات الإرهاب الفكريّ وحيويّته في مجتمعاتنا السوريالية التي يحدّد مصائرها مزاج الحاكم وسطوة منفعيته التي تسمح له بإدارة المهزلة كيفما شاء ومع من شاء.
ردّ فريق بيت الرواية وداعميه في تونس في أوج هذه الأزمة يؤكّد الفعل الحقيقيّ الثوريّ للدور التوعويّ والحركيّ الذي يلعبه المثقّف الحقيقيّ، وإعلان عن فشل وإجهاض دور السلطة في إقصائه في ظل واقع الأزمة وأزمة الواقع.
في مشهدٍ تاريخيّ يرويه ابن خلدون، يقبّل العالِم الجليل يدَ الزعيم تيمورلنك تجنّبًا للهلاك، وكان هذا شكلا من أِشكال التواطؤ النّاعم مع صاحب السّيف. لا يمكننا أن نجزم بشكلٍ واضحٍ ما هو الدّافع من وراء هذا التواطؤ، أهوَ تواطؤٌ حبًا للمحتلّ أم هو تواطؤ “حسن التخلّص”.
وفي مشهدٍ آخر يرويه أيضًا ابن خلدون، يُعجَب تيمورلنك ببغلة العالِم ويقرر شراءها منه. يكشف تيمورلنك بعمله هذا عن عقدة صاحب السّيف من صاحب القلم. ولعلّ هذا يحيلُنا الى التأويل الحتميّ بمعرفة صاحب السّيف في قرارته أنّ امتلاك عقل المثقّف أمرًا مستحيلاً، فليملُك على الأقل بغلته. المقصود من وراء التمثيل بهذه الحادثة، أن جدليّة القلم والسّيف، تنتصر فكريًا للمثقّف من جهة، وتبيّن تواطأً مبررا أو غير مبرر من جهة أخرى. الأمر كلّه منوط بيد المتحوّل، لا الثابت.
نحن في زمن الثورات الشعبيّة وانتفاضة بغلة المثقّف على يد الحاكم.