“ليس هناك شرّ”… بل جمال في أن تقول لا!

صالح ذباح

صحافي من فلسطين

بصريّا وثيميّا، الانتقال من القصّة الأولى حتّى الرابعة هو انتقال من الظلمة والأماكن المغلقة إلى النور والبراح، من الانصياع إلى الرفض والتحرّر، فبعد نهاية المشاهد الليلية المظلمة لمطاردة بويا في القصّة الثانيّة، تبدو بداية القصّة الثالثة "عيد ميلاد" نوعًا من الهذيان الرومانسي: شابّ وسيم يسبح في بحيرة وسط أشجار خضراء،

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

02/03/2020

تصوير: اسماء الغول

صالح ذباح

صحافي من فلسطين

صالح ذباح

وباحث سينمائي. يتناول في كتاباته ومحاضراته السينما الفلسطينية والعربية وتقاطعاتها بالسياقات الاجتماعية والسياسية. قدم برنامج "كلاكيت فلسطين" على فضائية "التلفزيون العربي"، لخلق حوار سينمائي وثقافي حول السينما الفلسطينية من خلال لقاءات مع عدد كبير من صنّاعها. يحمل اللقب الأول في الصيدلة من الجامعة العبرية في القدس، وحاصل على الماجستير في دراسات الثقافة والأفلام من جامعة حيفا.

لم يكن مفاجئًا تواصل التصفيق الحارّ لدقائق عديدة وعدسة الكاميرا مثبّتة على كرسي أحمر شاغر ألصقت عليه ورقة بيضاء تحمل اسم المخرج الإيراني محمّد رسولوف بعد عرض فيلمه المؤثّر “ليس هناك شرّ ” في الدورة السبعين من مهرجان برلين السينمائي الدوليّ. بينما كانت المفاجأة الأكبر أن ينال الفيلم الذي عرض في اليومين الأخيرين من فعاليّات المهرجان الدولي جائزة “الدبّ الذهبي” بعد خيبة أمل نقّاد كثيرين من مستوى بعض الأفلام المشاركة في المسابقة الرسميّة للمهرجان.

رسولوف ممنوع من مغادرة إيران بتوجيهات حكوميّة وأحكام قضائيّة لاتّهامه بنشر بروباغندا معادية للنظام، ابتدأت ملاحقته قضائيًّا والتضييق عليه ومنعه من التصوير منذ عشرة أعوام، وصودر جواز سفره قبل ثلاث سنوات بعد عودته من مهرجان كان بعد أن نال فيلمه “رجل نزيه” جائزة أفضل فيلم عن فئة “نظرة ما”. 

يقدّم رسولوف في جديده ما يمكن وصفه بأنطولوجيا سينمائيّة رقيقة وأليمة تمتدّ على نحو ساعتين ونصف مكوّنة من أربع قصص بأربعة عناوين، رابطًا النسيج السرديّ للشريط بثيمة مركزيّة أفقيّة تصل ما بين الأجزاء الأربعة وتتمحور حول التعامل الفرديّ الأخلاقيّ للشخصيّات مع أحكام الإعدام في إيران، كلّ في عالمها وسياقها المختلفين.

استوحى رسولوف القصّة الأولى التي سبقها عنوان الشريط كعنوان لها أيضًا، من حادثة حقيقيّة عايشها عندما رأى أحد المحقّقين الذين استجوبوه في الماضي، خارجًا من أحد البنوك مستقّلا سيّارته، وخلال محاولة ملاحقة المحقّق استوعب رسولوف كم أنّ الرجل عاديّ وشبيه للناس من حوله، ويقول في أحد لقاءاته “إنّ ما من وحش أو شيطان في الحكاية (الترجمّة الحرفيّة لعنوان الفيلم عن الفارسيّة “الشيطان غير موجود”)، كل ما في الأمر أنّ ذلك الإنسان لم يسأل نفسه عن تصرّفاته”، أمّا في القصّة السينمائيّة فبطلها هشمت (إحسان مرحُسيني)، رجل هادئ في منتصف الأربعينات، رقيق وبارّ بأمّه المريضة، حنون مع طفلته، وحسّاس فوق العادة بالتفاصيل الأنثويّة، فلهُ ذوق خاصّ في فستان زوجته، ويصبغ شعرها بنفسه في البانيو، لكن تأتي الصاعقة الكبرى في أقل من النصف الدقيقة لنهاية الجزء حين نفهم مدى وحشيّة مهنته التي يقوم بها بشكل هادئ وروتيني كلّ يوم من خلال كبسة زرّ لا مبالية تسحب أرواح العشرات المتدليّة أرجلهم باستسلام قبل أن ينهمر سيلٌ لاإراديّ من بولٍ أخيرٍ لهم.

زرع رسولوف في هذه القصّة تحديدا رمزيّات بصريّة بليغة تحمل تضادًا بكبر حجم الفارق بين الحياة والموت من خلال ضوئين كالأحمر والأخضر، يسرح بهما هشمت في انتظاره أمام الإشارات ضوئيّة، أو لافتات المحلّات، ولا يتضّح معنى تلك الألوان تمامًا إلا من خلال المشهد الأخير من القصّة حين يتحكّم هشمت بحياة من ينتظرون أحكام الإعدام من خلال أزرار ضوئيّة مشابهة، وهو يحضّر الشاي لنفسه. 

“هنالك جمالٌ في أن تقول لا” يقول رسولوف في لقاء مصوّر عن طريق السكايب مع مهرجان البرلينالي، وهذا عمليّا ما عبّر عنه من خلال القصص الثلاثة الأخرى في الفيلم، ففي القصّة الثانيّة “هي قالت : أنت تستطيع فعلها” ذات الإيقاع التشويقي والمختلف كليًا عن إيقاع القصّة الأولى نشهد احتدام التخبّطات الأخلاقيّة لدى مجنّد شابّ يدعى بويا (كافيه أهانجار) في أوّل مهمّة تنفيذ حكم إعدام تلقى عليه، وهو على علم تامّ أنّ مخالفة تلك الأوامر وعدم إنهائه الخدمة العسكرية الإلزاميّة ستحرمه من الحصول على جواز سفر أو وظيفة، ينقل رسولوف (المحروم من جواز سفره) ذلك التوتّر من خلال مشاهد معتمة، أماكن ضيّقة، وتسارع إيقاع حركة الكاميرا تدريجيّا إلى أن يتحول هذا الجزء كليّا إلى جانر مطاردة بحت، ويثير أسئلة عديدة من خلال المحادثات التي تدور بين المجنّدين الذين يبدون للوهلة الأولى معتقلين، حول أخلاقيّة القوانين عمومًا، هل ما هو قانوني أخلاقيّ أو عادل؟ وتباعًا هل الخروج عن القانون هو بالضرورة فعل غير أخلاقيّ؟ الإجابة واضحة لرسولوف، لكن على بويا أخذ قراره الفرديّ في وجه منظومة كاملة، وعليه تخطّي هاوية شاسعة من المخاطرة وهذا ما يكسب الحبكة وقودها التشويقيّ بنجاح كبير. 
 

بصريّا وثيميّا، الانتقال من القصّة الأولى حتّى الرابعة هو انتقال من الظلمة والأماكن المغلقة إلى النور والبراح، من الانصياع إلى الرفض والتحرّر، فبعد نهاية المشاهد الليلية المظلمة لمطاردة بويا في القصّة الثانيّة، تبدو بداية القصّة الثالثة “عيد ميلاد” نوعًا من الهذيان الرومانسي: شابّ وسيم يسبح في بحيرة وسط أشجار خضراء، يرشّ عطره ويتفحّص وسامته في مرآته الصغيرة استعدادًا لرؤية حبيبته نانا التي تسكن في هذه المنطقة الريفيّة الساحرة (وهذا عمليّا ما أتاح للمخرج المحظور أن يصوّر براحة أكبر في أماكن بعيدة عن المدن ورقابة الأجهزة المخابراتيّة).

يخطّط ّهذا الشاب جافاد (محمّد فالزيديجان)، وهو مجنّد ينتظر بفارغ الصبر إنهاء خدمته العسكريّة، أن يتقدّم للزواج من نانا يوم ميلادها وزيارة عائلتها، لكن تتعقّد الحبكة تدريجيّا ويتضّح أنّ هنالك صلة ما تربط بين جافاد وإعدام أحد الأصدقاء المقرّبين للعائلة ذات التوجّه اليساري، يطرح رسولوف في هذا الجزء قسوة إدراك أن تكون مشتركا في جريمة بغطاء توفّره لك الدولة لتريحك من أي فرز أخلاقي محتمل قد تقوم به، تمامًا كأن تدخل إلى بيت دافئ يحتضنك فردًا جديدًا من العائلة، وترى صورة كبيرة معلّقة لشخص تحبّه هذه العائلة، قمت أنت بإعدامه. تتفوّق هذه القصص الثلاث المكتوبة والمصوّرة بإحكام لافت وبسلاسة لا تترك مكانا للشك في حرفيّة صانع هذا العمل، على القصة الرابعة “قبّلني” التي بدت أقلّ قوّة من الآخرين لاختتام الشريط بها لكن هذا لا يلغي بالطبع براعة رسولوف في قدرته على التنوّع في السرد روائيا وبصريّا والانتقال بين عوالم غريبة عن بعضها. في هذه القصّة التي تدور أحداثها في منطقة قاحلة وبعيدة عن العصريّة، ننكشف لمعنى أن تكون منبوذًا من قبل نظام سياسيّ، وأن تدفع أثمانا باهظة مثل الطبيب باهراد الذي يحاول أن يكشف أسرارًا عائلية للفتاة داريا (باران رسولوف ابنة المخرج التي تسلمّت الجائزة نيابةً عن والدها) وهي لا تدرك أنّ زيارتها لباهراد صديق والدها سوف تغيّر حياتها. 

على عكس ما قد يفهمه البعض بالسبب الترجمة الإنجيلزيّة لعنوان الفيلم (There Is No Evil/ ليس هناك شرّ)، وقد يُفهم أنّ رسولوف ينوي أن يمرّر من وراء قصصه الأربع معنىً مضادًا أي أنّ هنالك شرّ فعلًا وها أنا أريكم إيّاه، فإنّ فهم ترجمة عنوان الفيلم كما قصدها رسولوف عن الفارسيّة (شيطان وجود ندارد/ الشيطان غير موجود)، هي أخطر وأهمّ بكثير حيث أنّ الأفعال الشيطانيّة أو الشريرة يقوم بها أناس عاديّون وهم الأغلبيّة وما من كائن إبليسيّ موجود ليتجنّبوه ويحذروه، فهؤلاء يعتقدون أنّ ما يفعلونه أخلاقيًا وصحيحًا طالما تراه الدولة كذلك وتعرّفه على أنّه قانونيّ. 

عندما تحصل أفلام صنّاعها من دول قمعيّة أو على عداوة مع الغرب على جوائز في محافل دوليةّ غربيّة، تحوم دومًا تلك الشكوك حول صدقيّة وموضوعيّة تتويجات من هذه النوعيّة وسياسيّة القرار من خلفها، لكن حصول “ليس هناك شرّ” على جائزة الدب الذهبي في البيرلينالي، إنّما هو تتويج حقيقيّ للسينما المنسوجة بدقّة ورقّة متناهيتين، وتحاول أن تتحدّى القمع من خلال الفنّ، لذا أكّد رسولوف الذي أنجز فيلمه كاملًا بالسرّ ، أنّ هنالك بالفعل جمال في أن تقول لا! 

الكاتب: صالح ذباح

هوامش

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع