كيف يمكن أن تساعد القراءةُ بالعربيّة ووجود مكتبات عربيّة المجتمع الفلسطيني داخل دولة إسرائيل مثلاً (كأقلية أصلانية) أو في الضّفة وغزة، على الحفاظ على وجودهم الثقافي؟
أوّلاً، أعتقد أنّه علينا وضع فكرة الأقلّيّات جانباً، لأنّه في اللّحظة الّتي تعرّف فيها مجتمعاً ضمن نطاق الأغلبيّة والأقلّيّة، تنسب أنت قوّة معيّنة للأغلبيّة ودونيّة ما للأقلّيّة. سواء كان ذلك المجتمع أصلانيّاً أم مثليّاً أم أيّ مجتمع آخر. أودّ اعتبارهم كجزء من المجتمع نفسه، بينما تتقاطع التّصنيفات الّتي تعرّف المجتمع بدوائرها. لذا، يمكنك أن تجد فلسطينيّاً أسود مثليّاً، حيث تتقاطع عدّة عناصر في الشّخص ذاته. لكنّني أعتقد أنّه على المجتمع، ذلك الّذي نسمّيه مجتمع الكتاب، مجتمع الكلمة المكتوبة، أن يخلق مكتبة بأيّ طريقة ممكنة، لأنّ المكتبات كينونات حيّة تحمل ذكرى قرّائها وتعكس لقرّائها هويّتهم. أعرف من أنا لأنّ المكتبة تمنحني الوثائق لفهم من أكون. صديقٌ لي في مكتبة بودليان في أوكسفورد، قال لي مرّة ضمن حديثٍ عابرٍ لنا: “المكتبة هي المكان للأدلّة”. وأعتبر هذا أفضل تعريف للمكتبة. كون المكتبة مكاناً لحفظ الأدلّة. في حال أردت فحص واقع تاريخيّ ما لمجتمع ما أو فرد ما، ستملك المكتبة تلك الوثائق. لا أدري إن كنت تعرف الصّحافيّ الإسرائيليّ جدعون ليڤي… حسناً، هو واضحٌ جدّاً في هذه النّقطة، وأظنّني ذكرت ذلك خلال حديثي. هو يقول إنّه يمكننا الحديث عن كلّ الأمور، لكنّ هناك أمر واحد لا جدال فيه: على إسرائيل أن تعيد الأراضي المحتلّة. نقطة. لا يوجد ما بعد ذلك.
أمّا المكتبة فستعطيك تلك الأدلّة. لا حاجة بك إلى السّياسيّين للجدال حولها ونقاشها. تذهب إلى المكتبة وتحصل على النّصوص والخرائط والقصص، تجدها كلّها هناك. لذلك باعتقادي أنّ المكتبة أمرٌ ضروريّ. ربّما أخبرتك عن المحاولة الّتي قمت بها في المكتبة الوطنيّة الأرجنتينيّة، لدعم المكتبة الوطنيّة الفلسطينيّة، لكنّها كانت محاولة صعبة جدّاً. لا أريد ذكر الأسماء المعنيّة، لكنّني أستطيع أن أفهم…
يمكننا ذكرها…
حسناً، أعتقد أنّ المجتمعات في المنفى، وأعرف أنّ ذلك ينطبق على المجتمع الأرجنتيني في المنفى خلال فترة الدّكتاتوريّة وما إلى ذلك… أوّلاً، حقيقة أنّك منفيّ لا تجعل منك قدّيساً. هنالك أناسٌ رائعون في المنفى وهنالك محتالون في المنفى. كما أنّ الطّموح إلى تقلّد السّلطة في المنفى لا يموت أبداً. لذلك، عندما تحاول تطبيق مشروع مشترك، تكون لديك عشرون مجموعة ذات مصالح متضاربة، فيفشل المشروع ولا يتحقّق. فيقول شخصٌ ما: “لا كلّا، عليّ الموافقة أوّلاً على…” والثّاني يقول “عليها أن تكون في هذا المكان في رام الله”… لا يهمّ، لكنّني أسترجع الفكرة الأولى: أعتقد أنّه من الضّروريّ أن تكون لفلسطين مكتبة وطنيّة، وستتمتّع بدعم العديد من المكتبات الوطنيّة. لقد سبق وتحدّثت إلى مدير المكتبة الوطنيّة الفرنسيّة، ومدير المكتبة الوطنيّة الإسبانيّة، ومدير المكتبة الوطنيّة الكولومبيّة، حتّى مكتبة الكونغرس، والمكتبة البريطانيّة. جميعها كانت ستكون راعيات للمكتبة الوطنيّة الفلسطينيّة، وكان بإمكانها أن تكون مكتبة افتراضيّة كذلك. العديد من المكتبات، إضافة إلى المكتبة الوطنيّة الأرجنتينيّة، كانت ستمنح مكتباتها الافتراضيّة للمكتبة الوطنيّة الفلسطينيّة. ولم أتوصّل حتّى للحديث مع الدّول العربيّة، الّتي، بين قوسين، أعتقدها جبانة للغاية في عدم مساندتها لفلسطين. أعتقد أنّ الأورغواي تدافع عن فلسطين أكثر من السّعوديّة أو… على أيّة حال، يمكن إتمام الأمر، وأتمنّى أن يتمكّن الأشخاص من وضع طموحاتهم الخاصّة جانباً واستثمار إيمانٍ حقيقيّ بقضايا أهمّ.
عند تحدّثك عن المكتبات في المنفى، خطر لي –بما يخصّ كونها غائبة لكنها حاضرة في الوقت ذاته– سؤال عن المكتبات الشّفويّة (أو التراث الشفوي) في حال كحال الفلسطينيين مثلاً.
طبعاً. حسناً، أقول دوماً عندما أتحدّث عن مجتمع الكتب بأنّنا نحتاج إلى التّذكّر أنّها جميعها مجتمعات قويّة جدّاً وتعمل بشكلٍ جيّد، ولديها مفاهيم مختلفة عن الزّمان والمكان، كما العلاقات بين المستمع والقارئ، وإلخ. المشكلة هي، وهنا عليّ التّطرّق إلى الدّعاية السّياسيّة، أنّ الأمر سيلائم ويريح كثيراً الموجودين في السّلطة في عدّة أماكن. مثلاً، سيريح حكومة نتنياهو القول إن قصص ولقاءات وأحاديث الشّعب تكفيهم… يكفيهم ذلك. بالطّبع، فكريّاً، للشّفويّ ذات القيمة والقوّة المنسوبة للمكتوب، لكن سياسيّاً، الأمر مختلف. فنرى الأمر يتكرّر طول الوقت، في المجتمعات الأصلانيّة في الأمازون -الّتي هي مجتمعات شفويّة- تُصرف قضاياها الّتي تأتي بها للمحكمة في البرازيل: عليكم بوضعها على الورق.
لذلك، استراتيجيّاً، سيكون من الخطأ اتّباع تلك الفكرة. طبعاً، في اللّحظة الّتي تُنشأ فيها المكتبة، يكون على المكتبة الوطنيّة دمج قسم هامّ من التّقليد الشّفويّ. طبعاً، يجب فعل ذلك. لكن لا يمكن اقتراحها كبديل، فسيُحطّ من قدرها.
هي ليست بقوّة المكتوب…
للأسف، لأنّه في الواقع يجب أن تكون بقوّة المكتوب. كان يجب أن تكون كذلك، لكن ثبت أنّها ليس كذلك… لا في أستراليا، ولا في شمال كندا، وما إلى ذلك. لهذه المجتمعات تقليد شفويّ مهمّ. هذه المجتمعات أكثر تعقيداً بكثير ممّا نتصوّر، لكنّها لا تُؤخذ بعين الاعتبار، لا تتواجد على نفس مستوى الملعب العالمي، كمجتمع يتعامل مع الكتب المطبوعة. كما أنّه ما من سبب يمنع فلسطين من الحصول عليها. فهي موجودة لديها. لا نتكلّم هنا عن الحاجة إلى فرض لغة مكتوبة ومطبوعة على مجتمع لا يحتوي عليها، كما في حال قبائل الأمازون، تلك ليست حالة فلسطين. لفلسطين تقليد أدبيّ غني. أنتما أدرى منّي. لذا لن أنصح أبداً بقبول فكرة “يسمح لكم بالحفاظ على تقليدكم الشّفويّ لكنّكم لا تستحقّون المكتوب.”
ماذا عن دمج التراث الشّفويّ في المكتوب؟
طبعاً. يجب فعل ذلك. في أستراليا، المكتبات الوطنيّة حريصة جدّاً على دمج التراث الشّفويّ، ولديها نظام كامل لاستشارة الحضارات الأصلانيّة. لقد حاولت فعل أمرٍ مشابه في الأرجنتين، لكنّني لم أستطع بسبب السّياسة هناك. أردتُ إنشاء مركز للدّراسات الأصلانيّة، فهناك العديد من الأشخاص الأصلانيّين المستبعدين عن التّصوير السّياسيّ. لذلك اتّبعت بعض الأمثلة من كندا، فلكندا محاولات جيّدة جدّاً، لن أقول مثاليّة، لكنّها أفضل من لا شيء. وأستراليا كذلك، لديها أنظمة تتّبعها. لكن مرّة أخرى، ليست تلك الحال بالنّسبة لفلسطين. الفلسطينيّون ليسوا قبيلة صحراويّة صغيرة.
وحالتها أحدث تاريخيّاً…
هي أحدث ولكن لفلسطين كذلك تقليد أدبيّ وفلسفيّ طويل الأمد. لن أعرّفه لكما، فأنتما تدركانه أفضل منّي.
في حديثنا عن السردية الفلسطينية -المكتوبة بشكلٍ خاصّ- لطالما قال محمود درويش إنّه يرغب بأن يكون شاعر طروادة. لأنّنا نجهل سردية طروادة، ونعرف عن السردية أو النسخة الأخرى فقط..
طبعاً.
هل يحتاج الفلسطينيّون إلى شاعر طروادة؟
آمل ألّا يصل الأمر إلى طروادة. كان على عوليس التّوجّه إلى المنفى لأنّهم أحرقوا المدينة واغتصبوا نساءها وقتلوا رجالها، ولذا، انشالله [يقولها بالعربيّة] لا يحصل ذلك. لكن علينا أن نتذكّر أنّ الشّعراء الإغريق، التّراجيديّين الإغريق، منحوا الطّرواديّين أصواتاً. لذا نجد صوت المهزوم في “نساء طروادة” وفي “أجاكس” وفي غيرها من المسرحيّات. تلك هي عظمة التّراجيديا الإغريقيّة، أنّها لم تهلّل للإغريق. في الواقع، لقد عوقب يوريبيدس لأنّه مدح الفرس في إحدى كتاباته. لذا، صحيح، بالنّسبة لشاعر طروادة، لأنّ الفلسطينيّين لم يعطوا صوتاً من خلال شعراء غير فلسطينيّين. مع العلم بوجود البعض الّذين تكلّموا أو كتبوا عنهم.
هل تعرف شاعرة تدعى روث پاديل؟ شاعرة بريطانيّة؟ إنّها رائعة، ولديها قصيدة بعنوان “تعلّم صنع عود في النّاصرة”. هي قصيدة طويلة، شبه ملحميّة، عن صناعة… هنالك حرفيّ يبني عوداً ويتحطّم العود… هي قصيدة جميلة جدّاً. لكنّ درويش سبق وأصبح شاعر طروادة. دائماً ما يذكرون أدونيس وتقدّمه لجائزة نوبل، حسناً، يتحجّم أدونيس أمام درويش. درويش شاعرٌ هائل، هو شاعرٌ ملحميّ، بذكاء وإدراك عميق، فهو ليس بوقاً للبروباغندا بأيّ معنى للكلمة. هو يقف جنباً إلى جنب مع دايدو. لديه شعرٌ رائع عن… لا أذكر اسم القصيدة، لكنّه كان يتحدّث إلى صديق والصّديق يمانع الحوار، ودرويش يحاول الضّغط من أجل الحوار.
هل تقصد “سيناريو جاهز”، قصيدة يجد إثنان نفسيهما فيها عالقين في حفرة مع ثعبان؟
نعم، هذه هي.
في الحقيقة، وفي موضوع آخر، لديّ فضول حول ما يجعلك تقتني كتاباً لا تعرف كاتبه؟
[يضحك] الغلاف، العنوان، دار النّشر، الجملة الأولى، الجملة الأخيرة…
قبل بضعة سنوات، اقتنيت ما تحوّل إلى إحدى كتبي المفضّلة. وهي قطعة إنشائيّة قصيرة كتبها فيلسوف هنغرايّ. قرأتها بالإسبانيّة لأوّل مرّة -وقد كلّفت أحدهم بترجمتها للإنكليزيّة بعدها- عنوانها كان “دوستويفسكي يقرأ هيغل في سيبيريا وينفجر بالبكاء”. كيف لك ألّا تقرأ كتاباً كهذا؟
هل القراءة مهنة؟ هل هي هواية؟ كيف تعرّفها؟
هي كلّ تلك الأشياء، لكن قبل أيّ شيء، هي فنّ. نحن مخلوقات قارئة، أي أنّنا طوّرنا، أكثر من أيّ حيوان آخر، حسّاً لقراءة العالم، ولقراءة النّاس حولنا -لذا نقرأ المشهد الطّبيعي حولنا، السّماء، نقرأ وجوه الآخرين، ومن ثمّ طوّرنا المخطوطات في بعض المجتمعات لتدوين وقراءة تجاربنا. هي جزء من تركيبتنا الجينيّة من أجل البقاء. وبنفس الطّريقة الّتي يبني بها الرّياضيّون أجسادهم للتّمكّن من الصّمود في الماراثونات أو رفع الأثقال، يتمكّن القارئ المتمرّس من الغوص أكثر في عمق النّصّ والاستفادة منه بشكلٍ أكبر. لكن مرّة أخرى، نحن نعيش في مجتمعات، وقد أصبحت برمّتها تقريباً، استهلاكيّة لدرجة أنّ المجتمع نفسه لم يعد يريد احتضان القراءة أو تشجيعها. لأنّ القراءة ليست فعلاً مستقلّاً عن الوظائف الفكريّة.
لقد حلّل بعض علماء الأعصاب عمليّة القراءة وقالوا بصددها إنّها “معقّدة جدّاً، ولو نجحنا في فهم ما يحصل في الدّماغ عندما نقرأ، ما يحصل بالضّبط، سنتمكّن من فهم فعل التّفكير”. فالقراءة والتّفكير مرتبطان ببعضهما البعض. لذا، يشكّل المواطن الّذي يقرأ بشكلٍ فعّال مواطناً متأمّلاً مفكّراً ويطرح الأسئلة. أمّا المجتمع الاستهلاكيّ، فلا يريد لذلك أن يحصل. كلّما طرحت المزيد من الأسئلة، كلّما قلّ قبولك للدّعايات. إنّ الدّعاية… لغة الدّعاية مركبّة بطريقة تجعلك تستقبل رسالتها كالمانترا، وأحياناً لا يكون لها أيّ منطق، لكنّها تتردّد في العقل، وتزرع فكرة الاسم أو الشّيء الّذي عليك شرائه. لكن، في ٩٠ بالمئة من الحالات أو أكثر، إن توقّفت للتّفكير بالأمر، فتسأل نفسك، هل أحتاج حقّاً لهذا الشّيء الّذي يكلّف ٢٥ مرّة مبلغ كتاب؟ هنالك الكثير من هذه الأمثلة.
على فكرة، كان كتاب “بدون لوغو” لنعومي كلاين يصلك مع إبرة صغيرة تمكّنك من إزالة العلامات التجارية عن الملابس. لكن في جميع الأحوال، هذه المبادرات الصّغيرة لن تفعل شيئاً لتوقف المجتمع الاستهلاكيّ. تواجه العديد من الأسئلة حول كيفيّة العيش بطريقة أفضل ومحاولة الانخراط نحو مجتمع أكثر عدلاً، تواجه مشكلة فصل نفسها عن السّياق العام. لا تعتبر القضيّة الفلسطينيّة، ومسألة الافتقار إلى القراءة، ومسألة المليون لاجئ على أبواب تركيّا مواضيع منفصلة. لو كانت هذه رواية، كان مؤلّفها سيجعلها متضافرة في كلّ من فصولها -سيكون على تولستوي أن يحكي القصّة– فلا يمكنك فصلها لأنّ المشكلة والحلّ مرتبطة بعدّة جوانب من المجتمع، بحيث لا توجد طريقة لحلّ قضيّة واحدة بدون حلّ جميعها، أو أقلّه قسم كبير منها.
لديّ حفيدتان، إحداهما تبلغ ٨ سنوات من العمر والأخرى ٤. وأنا أحاول أن أكون متفائلاً من أجلهما، لكنّهن لا أعرف كيف، لا أرى ما يشجّع على التّفاؤل بطريقة ذكيّة.
هل تؤمن بفكرة غرامشي ” تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة”؟
بالتّأكيد، ولدينا جميعاً مسؤوليّات فكريّة، لكن تأتي لحظة يكون فيها ضغط المياه كبيراً جدّاً فينفجر السّدّ. يمكنك محاولة تثبيته مكانه، يمكنك محاولة تقليد الولد الهولنديّ الصّغير وإدخال إصبعك في شقّ السّدّ، لكن تأتي لحظة لن تتمكّن أكثر من احتوائه.
في أكثر لحظاتي حلكة، أفكّر بالبشريّة بأنّنا نتمتّع بنزوة انتحاريّة، أنّ تدمير أنفسنا هو جزء من إرادتنا. ولعلّ الأمر سيكون جيّداً للكوكب، فنحن سرطان لهذا الكوكب، وسيكون الكوكب بحالٍ أفضل من دوننا، لحسن الحظّ، أو لسوئه، لحسن حظّ الكوكب ولسوء حظّنا نحن. كلّ ما نفعله الآن هو سامّ لنا لكن ليس للعديد من المخلوقات الأخرى. فالصّراصير ستبقى على قيد الحياة، أعشاب البحر ستبقى… لا تهمّها السّموم، لكن الأمر مختلف بالنّسبة للمخلوقات الأخرى.
هنالك كاتب أرجنتينيّ يدعى ماركو دي نيڤي، ولديه كتاب من النّصوص القصيرة، جميعها مختلقة، ويدعو الكتاب “فالسيفيكاسيونس” [أي “فبركات”]. وفي إحدى القصص المختلقة من الكتاب المقدّس، نجد نوح، الّذي طلب منه بناء الفلك وإحضار اثنين من كلّ أصناف الحيوانات، يقول إن بعض المخلوقات كانت أرقّ بكثير من أن تتمكّن البقاء على قيد الحياة، مخلوقات، يقول، يبدو إلى جانبها الغزال كمخلوق متوحّش. ولذا، هذه المخلوقات آخذة بالاحتضار الآن أو قد سبق واحتضرت. لذلك هي لن تنجو. لكنّ الصّراصير ستنجو. إذاً ربّما كان كافكا على حقّ.
نعم، قد نتمنّى يوماً أن نستيقظ لنجد أنفسها صراصير. كي لا نأخذ المزيد من وقتك، أطرح عليك سؤالاً أخيراً: هل لديك طقوس للكتابة والقراءة.
طاقتي في الصّباح تختلف عن طاقتي في المساء. أصحو في ساعة مبكّرة جدّاً، الخامسة أو السّادسة صباحاً، وأحبّ الكتابة في الصّباح حينما يكون عقلي منتعشاً. كذلك، عندما أخلد إلى النّوم وأعرف أنّني سأكتب في اليوم التّالي، أحاول التّفكير فيه، لأنّه بشكلٍ ما، تعمل الشخصيات الصّغيرة في دماغي خلال اللّيل، وفي الصّباح أستيقظ لأجد فيه بعض الأفكار لوضعها على الصّفحة. لكن بعد الغداء، أكون شبه عاجز عن الكتابة. يمكنني القراءة وأستطيع كتابة الملاحظة وربّما التّرجمة، لكنّ طاقتي المسائيّة تختلف جدّاً عن تلك الصّباحيّة.
لا يوجد مكان معيّن حيث أقوم بالقراءة. أقرأ في جميع الأوقات وجميع الأمكنة. وكنت أعتقد أنّني عاجزٌ عن الكتابة بعيداً عن مكتبي، لكن الآن، مع سفري المستمرّ، أجدني قادراً على الكتابة في الطّائرات والمطارات، الأمر الّذي كان يبدو لي مستحيلاً في السّابق. لقد خطّطت لهذه الرّحلة إلى باريس لأنّه كان عليّ إلقاء محاضرة في كوليج دو فرانس لكنّها ألغيت لأنّ المنظّم كان في مدينة ميلانو، وهو يخضع الآن للحجر الصّحّي لمدّة أسبوعين بسبب الڤايروس. أتدري، نحن نتكلّم عن مشكلات سياسيّة وفكريّة، وها هو ڤايروس صغير يغيّر كلّ شيء.