من دون جوان إلى كازانوفا ومن جيمس دين حتى جورج كلوني. ومن مارلين مونرو إلى مونيكا بيلوتشي. عرفنا أبطالا وبطلات كثر للغواية، تلك الغواية التي تتوجه عادة نحو إسقاط الجميلات في حبال الرجال أو الرجال في مصيدة النساء. لكن لم نتوقع أن يظهر كاتب يسقطنا في حبائل النشاط الإنساني الأكثر هشاشة والمهدد اليوم من راهن ما بعد الحداثة وانجازاته: القراءة. لم يكن هذا الدون جوان سوى صاحب “فن القراءة” و “يوميات القراءة” و”تاريخ القراءة” و”مدينة الكلمات” و”المكتبة في الليل” و”قاموس الأمكنة المتخيلة” و”في غابة المرآة” و”الفضول” وذاكرة القراءة”… ذلك الرجل الملتحي ذو الشعر الأبيض الكاتب الكندي الأرجنتيني ألبرتو مانغويل.
“لم يعش مانغويل حياة عادية ليكون مثلنا. مازال في ذهني رجل خيال”. فكرت بذلك وأنا أخطو نحوه في مطار تونس قرطاج لمصافحته. قد يتبخر الرّجل وأجدني أمسك الوهم كما حصل مع دون كيشوت فنحن نتحلل في الأشياء التي نقضي حياتنا نمارسها ولم يمارس مانغويل طوال حياته إلا قراءة الكتب الخيالية وتقليب صفحاتها. فهل يتحول إلى شخصية خيالية ووحش من وحوش كتابه «وحوش خرافيون: دراكولا، أليس، سوبرمان، وأصدقاء أدب آخرون»؟
مانغويل شخصية خيالية
كانت آخر رسالة وصلتني من مانغويل بعد أن أعلمته بتغيير برنامج استضافته من استضافة رسمية إلى استضافة شطارية من قرائه في تونس: “عزيزي كمال. ليس لسلطة القرّاء من حدود. نلتقي”. كانت رسالة صريحة وغامضة في آن ولكن المقالات الكثيرة التي نشرت بكل اللغات تتحدث عن منع دخوله تونس بطلب من وزير الشؤون الثقافية قد وصلته وراسلني قبل يوم يشد أزري ويقول إنه يتفهم أن الأمر ليس بيدي وأنه مستعد ليأتي إلى تونس إذا ما تعثرت الاستضافة، في أي وقت آخر. وضعت في اعتباري إمكانية أن يحذر من بلد ربما لا يعرف عنه شيئاً، بلد حديث عهد بالديمقراطية وثورته مازالت طرية تعيش مشاكل كبيرة. كل ذلك كان هاجساً يطرق ذهني وأنا أنظر إلى البوابة بعد أن حطت طائرة الخطوط الفرنسية المتوقع وصوله فيها. لم يكن من الممكن الاتصال به من داخل المطار فألبرتو مانغويل لم يملك هاتف جوال طوال حياته. لا هاتف غبي ولا ذكي. فقط يتواصل عبر الإيميل بجهاز اللاب توب. ولكنني في لحظة تذكرت أن القراءة تجعل القارئ أقوى ولا يمكن للخوف أن يجد مدخلا للقارئ الحقيقي والكاتب الحقيقي فما بالك بالرجل المكتبة. تذكرت أيضاً حبه الاستثنائي لدون كيشوت ومن يحب دون كيشوت لا يمكن إلا أن يكون فارساً نبيلاً. وهذا ما كان فقد أطل مانغويل من البوابة يجر حقيبته الصغيرة كما تخيلته لكن بدا أكثر شباباً عما توقعت خاصة بعد أن حدثني عن وضعه الصحي منذ أشهر.
صافحني ومن معي وبادر بالاعتذار على ما سببه لنا من مشاكل وإرهاق. كان يعتذر كما شخصية روائية أتعبت عشاقها في استحضارها في الواقع. لم يعد مانغويل شخصية متخيلة. فقد وقف معنا مبتسماً مازحاً أمام المطار ينتظر السيارة الغارقة في إجراءات الحركة المعقدة، كان يسأل طوال ذلك الوقت عن هوية كل الذين من حوله من الكتاب واهتماماتهم. لم يسأل مانغويل عن وضع البلاد والعباد والأمن. كأنه لا يرى العالم إلا قراء وكتب. في السيارة واصل أسئلته الكثيرة عن الكتاب و”بيت الرواية” وفي الفندق وقع لي رواية “عودة” تلك النوفيلا الكابوسية التي تناول فيها الديكتاتورية في أمريكا اللاتينية. سألني لماذا هذه الرواية بالذات؟ أجبت: إنها الرواية التي أكدت لي أنك ستحضر رغم كل الظروف. لم أفسر له المزيد، تركناه يصعد إلى غرفته. صار مانغويل في تونس. انتهى.
لم أقل لحظتها لمانغويل أنني شرعت في كتابة نوفيلا هو بطلها.
من أين جاء بابا نوال الكتب؟
يبدو ألبترو مانغويل بلحيته البيضاء ولطفه أشبه ببابا نوال وإن لم يحمل زيه الأحمر الشهير، لكنه أيضاً يبدو محملاً مع كل كتاب بهدايا كثيرة للقراء فلا يمكنك أن تخرج من كتاب مانغويل بيدين فارغتين بل في الغالب ستخرج محملاً بعشرات الكتب، أو بالأحرى عناوين كتب وملخصات ستذهب مباشرة للبحث عنها لتقرأ من جديد. وهذا الطابع البابنوالي لألبرتو مانغويل هو الذي جعله محبوباً من كل قراء العالم الذين يبدون باختلاف مستوياتهم العلمية والثقافية مثل الأطفال الذين ينتظرون ليلة الميلاد هدايا بابا نوال. ظل بابا نوال في ذاكرة الأطفال حتى بعد أن يكبروا يأتي من مجهول مقدس أشبه بالأحلام، وكذلك يأتي مانغويل إليهم من الأحلام، من القراءة التي شبهها جان بول سارتر بالحلم الخاص. لكن ولئن ظل بابا نوال متكتما على اسم وطنه الأم فإن مانغويل بدا أكثر كرماً عندماً ينعطف كل مرة إلى سيرته ليحدثنا عن الطفل وعن المراهق وعن الشاب، تلك السيرة المبثوثة في كل كتبه عبر قوة الذاكرة التي تحرك إنتاج نصوصه. ولعل أبرزها كتبه في الأوتوبيوغرافيا “يوميات القراءة” و”مع بورخيس” وفي “غابة المرآة” و”ذاكرة القراءة” و”الفضول”.
يحدثنا مانغويل في كتابه “مع بورخيس” عن أهم حدث شكل حياته منذ كان مراهقاً يتمثل في تحوله إلى قارئ للكاتب الكبير خورخي لويس بورخيس من سنة 1964 إلى 1968 يقول : “كنت محظوظاً حد الكفاية بأن أكون من بين العديدين الذين يقرؤون لخوخي لويس بورخيس، اشتغلت بعد المدرسة في “بيغماليون”، وهي مكتبة أنغلو، ألمانية في بيونس آيرس، حيث كان بورخيس زبوناً دائماً… كان يأتي إلى بيغماليون أواخر الظهيرات، وهو في طريق عودته من عمله كمدير للمكتبة الوطنية. ذات يوم، بعد اختياره عناوين من الكتب، سألني إن كان لدي شيء آخر أفعله، وما إذا كنت أستطيع أن أحضر وأقرأ على أسماعه في أوقات المساء، حيث أن والدته، وقد بلغت التسعين، أصبح التعب ينال منها بسهولة. “كان ذلك عندما كان مانغويل في سن السادسة عشر وأصبح يتردد على بيت بورخيس “ثلاث أو أربع مرات في الأسبوع” ليقرأ عليه ما يشير عليه بورخيس.
لم يحدثنا مانغويل عنه بل كان حديثه عن بورخيس لم يحدثنا يوماً عن مشادة بينهما أو عن مضايقة أوعن حالة توتر بين القارئ المراهق والكاتب العجوز.
أشعر وأنا أعيد قراءة مؤلفات مانغويل أنه خدعنا كما كان يخدعنا بابا نوال فنحن رغم كل الكلام الذي حبره مانغويل والكتب التي توحي بأنه يتحدث عن نفسه لم يكن في الحقيقة يكتب إلا غموضه فلم نعرف من مانغويل إلا القارئ، وحكاية السيرة الذهنية التي يمكن أن نخلص إليها من خلال قراءاته لا تعني أبداً أننا نجحنا في التجسس على ذهنه فالرجل يعرف ما هي الأبواب التي يفتحها لنطل على أفكاره، أما حياته الخاصة فقد ظلت غامضة.
حتى ابنته أليس التي ذكرها في” يوميات القراءة” لم نتأكد منها إلا في جولاتنا معه بتونس عندما أخبرنا أنه زار معها تونس منذ سنوات طويلة وله ابن آخر يعيش في أنجلترا هو روبرت الذي ذكره، أيضاً عرضاً في “يوميات القراءة”.
تعرفت أيضا على أوقات الكتابة عند مانغويل صدفة عندما سأله صديقي الإعلامي والروائي ماهر عبد الرحمان متى تريد أن نمر عليك لنقوم بزيارة متحف باردو فرد: “متى تريد”، فأردف ماهر عبد الرحمان: “متى تنهض أنت من النوم ؟” فأجاب: “الثالثة صباحا”. كنا نعتقد أنه يمزح لكنه أكد ذلك عندما واصل “إنه الوقت الأفضل للكتابة بالنسبة إلي”. إجابة ماهر هي التي كانت نهاية النكتة: “عند تلك الساعة أكون أحاول أن أنام فليكن موعدنا العاشرة والنصف”. في مؤلف “الفضول” يكشف أنه اشتغل صحافياً في شبابه ببوينس آيرس. خلاصة الأمر إذن: مانغويل؛ رجل يحب الكتب منذ طفولته، كان قارئاً لبورخيس، أب لطفلين صارا رجلاً وامرأة يرسل إليهما بطاقات بريدية من أي مكان بالعالم. اشتغل بالصحافة وبتأليف الكتب. مازال ينهض الثالثة فجراً للكتابة. لا ليس هذا فقط.
اليهودي الخيالي؟
كشفت لنا تصريحاته وحواراته ويومية من” يوميات القراءة” ومقالة له بعنوان”أن تكون يهوديا” أنه من عائلة أرجنتينية يهودية وكان عرف ذلك صدفة وهو في السابعة من عمره عندما ناداه تلميذ بالمدرسة الانجليزية في بيونس آيرس: “هيه، يا يهودي، يعني، أبوك يحب المال؟” يقول مانغويل أنه صدم من تلك اللهجة التي فيها إهانة مبطنة ودهش أن ينادى باليهودي فوالداه لم يكونا متدينان ولا يمارسان أي شعائر. سنكتشف بعد ذلك عبر كتابه “ذاكرة القراءة” أنه ابن لدبلوماسي أرجنتيني قضى سنوات قليلة من عمله في تل أبيب في بداية الخمسينات أين أنشأ أول مكتبة منزلية خاصة به. يحاول مانغويل بعد ذلك أن يفهم ما معنى أن يكون يهوديا من خلال الكتب نفسها وخاصة من خلال كتاب”اليهودي الخيالي” لألان فنكلكروت، فمانغويل لا يحمل ذلك الإرث اليهودي الأوروبي الذي شكلته الأساطير المختلقة سياسياً فنحن بالنسبة إليه لا تشمل كل اليهود ولا يشعر بذلك الانتماء كالآخرين. يقول: “عندما كنت أراقب جدتي توقد شموع السبت وتردد الصلوات الطقوسية وهي ترسم بيديها من فوق الأضواء المتراقصة دوائر متقابلة لم أكن أشعر بأدنى ارتباط بالمناطق الغابية القاتمة والغابرة، ذات الضباب الشتائي واللغات العتيقة التي كانت أصولها تعود إليها.” ويضيف بعد أن يورد حديثاً عن الهولوكوست: “وحتى هذه الصورة، لا أشعربأنني مرتبط بتلك الفظائع الرهيبة إلا بالوكالة: فحسبما أعرف، لم نفقد بسبب النازيين أي فرد من عائلتنا؛ لأن أهل والدتي ومثلهم أهل والدي كانوا هاجروا قبل الحرب العالمية الأولى بفترة طويلة نحو إحدى المستوطنات التي أقامها البارون هيرش في شمال الأرجنتين… ولم أسمع بخبر الهولوكست إلا في حقبة متأخرة من مراهقتي، وكان ذلك حصرا بقراءة أندريه شوارتز بارت وأنّا فرانك” وينهي مانغويل مقاله “أن تكون يهوديا”، وبعد سلسلة من التساؤلات إن كان فعلاً ينتمي للشعب اليهودي في العالم، يكتب: “إننا أيضاً العصر الذي فيه نعيش، وهو عصر لا يمكننا أن نتغيب عنه. فلنا وجودنا الخاص، ولسنا مستعدين للبقاء خياليين”.
ويؤكد عدم عصبيته لليهودية في ما كتبه في “يوميات القراءة” متحدثاً عن احتفائه بعيد الميلاد فيقول: “توضيب ما بعد عيد الميلاد. اتبعت عائلتي (مع كونها يهودية، لا سبب يدعوها إلى الإبقاء على مظاهر الميلاد) تقليد رفع زينة الميلاد في الصباح التالي لليلة الثانية عشرة، وإلا فسوف تستجلب لنفسها سوء الحظ.”
عندما قدمت له ابنتي أليسار رواية “عاشق مولع بالتفاصيل” ليوقع لها رسم طفلة تشبهها ورسم نفسه في شكل بابا نوال يقدم لها كتاباً.
مانغويل الداعية
يدعونا مانغويل للقراءة، وإعادة القراءة أساساً، وهنا نفهم منه أن القراءة الواحدة لا تكفي فنحن نقرأ الكتب باستعداداتنا المعرفية والنفسية. ولا يمكن أن يكون إدراكنا للكتاب الذي قرأناه ونحن صغار كما استعادته ونحن كبار. يقول مانغويل في مقاله “قارئ في غابة المرآة”: “إن الكتاب يصبح كتاباً آخر في كل مرة نعيد فيها قراءته. “أليس” الأولى من أيام الطفولة كانت تعني لي رحلة. مثل “الأوديسة” أو “بينوكيو”، ولقد شعرت دائماً بأنني أفضل حالاً برفقة أليس مما أنا عليه برفقة أليس أو دمية من خشب. ثم جاءت من بعد ذلك أليس المراهقة فعلمنا حق العلم ما عانت منه عندما قدم إليها الأرنب مارس خمراً… أو عندما أرادت اليرقة أن تقول بالضبط من تكون وما يعني لها ذلك… وفي فترة لاحقة من العشرينات من عمري، اكتشفت قضية شاب الكبار في “مختارات من الفكاهة السوداء” من تأليف أندريه بروتون وانجلى أمامي بوضوح أن أليس كانت شقيقة السرياليين وعقب حديث لي مع سرفيو ساركوزي في باريس، تنبهت بسهولة إلى أن همتي دانتي كان مديناً بالكثير للمذاهب البنيوية المعروضة في مجلتي Change و Tel Quelوفي فترة أبعد وأبعد…”.
هكذا يعدد لنا مانغويل حياة النص مع كل قراءة جديدة بتقدمنا في السن وتقدمنا في المعرفة. فالكتاب الحي هو الذي يتحمل قراءات مختلفة ومستويات من القراءة عديدة وهذا ما يذكرنا بما قاله جان بول سارتر في كتابه “ما الأدب ؟” عندما يكتب: “العمل الأدبي خذروف عجيب لا وجود له في الحركة. ولأجل استعراضه أمام العين لا بد من عملية حسية تسمى: القراءة. وهو يدوم ما دامت القراءة، وفيما عدا هذا لا يوجد سوى علامات سود على الورق.”
يهتم البترو مانغويل بالقراءة لا بوصفها ترفاً بل نشاطاً إنسانياً ضرورياً للقارئ من ناحية وللكاتب أيضاً، وهنا يذكرنا بجان بول سارتر: “وحيث إن الخلق الفني لا يتم إلا بالقراءة، وحيث إن الفنان يكل إلى آخر مهمة إتمام ما بدأ، وحيث إنه يستطيع إدراك أهميته في تأليفه إلا من ثنايا وعي القارئ، إذن كل عمل أدبي دعوة… دعوة موجهة من الكاتب إلى حرية القارئ لتكون عوناً للكاتب على إنتاج عمله.”
لا ينصحنا ألبرتو مانغويل كثيراً بالقراءة ولا بطرق معينة لها فيقول في أحد الحوارات: “لا أحبّ إعطاء القواعد. إلى جانب ذلك، لا يوجد أي قاعدة. لا توجد طريقة صحيحة أو خاطئة للقراءة. كل قارئ يعرف أفضل طريقة للقراءة. ”كما أنه يحسن بنا الظن ويعتبر القراءة أمراً مفروغاً منه فيقول إنه لو توقف عن القراءة لمات. إنما يلح مانغويل على إعادة القراءة لذلك كتبه تستعيد أحياناً ما قد تناوله من روايات وشخصيات سبق وقد تحدث عنها، وهنا يمكننا أن نفهم كيف يكتب مانغويل وأن التكرار هو إعادة خلق المعنى و”تحيير وإيقاظ” الأرانب والخنازير من صياد عنيد في غابة كثيفة. ألم يطلق على كتابه عنوان “في غابة المرآة”. يقول في “يوميات القراءة”: “أفتح وأنا في الطائرة نسخة من اختراع موريل لأدلفو بيوي كاساريس، إنها قصة شخص محتجز في جزيرة يعتقد أنها مسكونة بالأشباح، وقد قرأتها للمرة الأولى منذ ثلاثين أو خمس وثلاثين سنة”.
يفرق ألبرتو مانغويل بين القراءة الموجهة والقراءة المغامرة فيعتبر القراءة الأولى بالقراءة المنظمة والتي “لا تقدم كبير فائدة” ويمثل لها بقائمة الكتب المعترف بها رسمياً كقائمات الكتابات الكلاسيكية والتاريخ الأدبي وفهارس المكتبات المبوبة، ويعتبر أن عفو الخاطر قد يجود باسم مفيد لم يرد في تلك القائمات، ولكنه يرفع الرغبة الذاتية إلى أعلى درجات الاستراتيجيات المفيدة في القراءة، أي الرغبة التي تنتج اللذة الخاصة، والتي تضعنا أحياناً “في حالة النعمة وتتيح لنا تحويل الكتان إلى خيطان من ذهب” فتنهض القراءة فعلاً شبقياً وممارسة أيروسية.
ولئن كانت القراءة حلم يحلمه القارئ بكل حرية من وجهة نظر سارتر ففي كل قراءة عملية تخريب من وجهة نظر مانغويل فنحن نقرأ لنعيد تشكيل العالم وفق عملية احتجاج على المعطى. ذلك المعطى الذي كرسته المؤسسات الدينية والأخلاقية والسياسية والإشهارية والتربوية والإعلامية. القراءة الحرة حرب على المعاني الموثوق بها وحرب اللحظة على التاريخ فاللحظة جارحة حية بينما التاريخ ملفوف باليقين وعبر اللحظة التي سماها سارتر بالحركة نعيد تخيل شكل الخذروف الذي يدور.
دون جوان المكتبات
إن ارتباط مانغويل بالكتب والمكتبات يشي بأنه مكتبي كبير خاصة بعد أن تقلد منصب مدير المكتبة الوطنية بالأرجنتين. غير أن الحقيقة غير ذلك. لم يكن مانغويل سوى دون جوان المكتبات، أي مجرد غاوي ومحرض على الكتب وكما الدون جوان لا يظل أبداً مع من يغويه فيتنقل من فريسة إلى أخرى ظل مانغويل كائناً مترحلاً يؤسس المكتبات ويتركها ليؤسس غيرها. فبعد أن كانت الولادة في الأرجنتين أخذه والده الدبلوماسي إلى تل أبيب وعمره أشهر ثم يعود إلى بوينس آيرس ثم يغادرها إلى كندا وأماكن مختلفة من العالم ثم يستقر في فرنسا ثم يغادر إلى نيويورك ويستعد الآن لمغادرة أمريكا إلى بيونس آيرس من جديد. كان في البداية سفراً اضطرارياً بسبب مهنة الأب وصار جزءاً من هويته الخاصة. وربما ما يدفعه إلى العودة إلى بوينس آيرس هو ما ذكره هو نفسه: “أتذكر الزهو الغريب الذي أحسست به عندما أخبرنا أستاذ التاريخ أن تدشين بيونس آيرس قد بدأ بمكتبة.”
يكتب في كتابه “ذاكرة القراءة” وفي نفس اعترافي: “لم أكن مكتبياً حقيقياً، رغم توضيب وتفريغ الكثير من المكتبات طوال حياتي كقارئ. كانت مكتباتي (حتى الأخيرة في فرنسا) تفتقد إلى الفهارس، وكانت أقسامها متفردة تفرد المجانين، ذات ترتيب اعتباطي، أبجدي في جزء منه، أما الآخر، فدواعيه خافية وقد لفها النسيان غالباً، ولكني أعرف دائماً كيف أهتدي إلى أي كتاب لأنني كنت المستخدم الوحيد.”
إن الصفة الأولى لدون جوان أنه خائن، لذلك يخون مانغويل دائماً المدن التي يقيم فيها، فقط يبقى وفياً لــ”مدينة الكلمات”.