روايات وأفلام “شَرَوي غَرَوي” 

Prisoners Exercising, Vincent van Gogh, 1890

فرج بيرقدار

شاعر سوري

قلت: لا عليك. نتصور قصصاً غرائبية مليئة بأبطال ومجرمين وبنساء جميلات ومؤامرات وكمائن، أو حكايات "شَرَوي غَرَوي " نقدّمها على أنها أفلام أساعده في تذكرها وتدقيق بعض تفاصيلها. المهم أن نخفف وطأة الإحساس بالوقت عند الشباب.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

04/05/2020

تصوير: اسماء الغول

فرج بيرقدار

شاعر سوري

فرج بيرقدار

 مع بداية شباط 1988 بدأ يتحرك ملف معتقلي حزبنا، حزب العمل الشيوعي، لنقلهم من فرع فلسطين إلى السجون. كانت الأخبار المسرّبة تقول إنهم ينقلونهم إلى سجن صيدنايا الذي افتُتِح حديثاً، غير أن دفعتنا المؤلفة من ستة عشر رفيقاً لم يكن اختيارها اعتباطياً.

قبلها بأيام قال لي العميد مظهر فارس، رئيس الفرع: سأرسلكم إلى مكان لا يعرف بكم فيه حتى “الذبَّان” الأزرق.

في الواقع كانت مجموعتنا بصورة عامة إمّا أعضاء لجنة مركزية أو عسكريين محترفين. نقلونا بكامل مستلزمات الأمان من كلبشات وطمّاشات وكرابيج، مشيَّعين من فرع فلسطين إلى فرع التحقيق العسكري، وبعد أيام منه إلى تدمر، المشهورة بحضارتها الراقية في عهد الملكة زنوبيا، والتي لم يعد يتذكّر منها الناس في عهد الطاغية الأسد سوى العار، أعني سجنها الذي يمثل واحداً من أفظع ما عرفته البشرية من سجون.

كان يحزنني ويؤرقني تساؤل يدقّ رأسي كحفّارة بترول: أتكون بدايتنا بلا إلياذة، ونهايتنا بلا أوديسة؟

كانت طريقة استقبالهم لنا في تدمر، بسياطهم التي هي في الأصل أقشطة مراوح الدبابات، وما تلا ذلك من ضرب انتقامي مجنون عند إدخال الطعام والتفقد الصباحي والمسائي، مؤشراً على أن دم مجموعتنا مهدور. فكّرت طويلاً، وربما فكّر غيري مثلي: إن أسوأ ما يمكن أن نتعرض له هو القتل، ولكن كيف يمكن لنا في هذه الحالة أن نحافظ على رمق من كرامة عندما تأزف اللحظة. كنت أتفاءل أحياناً فأتصور أنهم سيقتلوننا بطرق محترمة وسريعة، بطلقات مباشرة في الرأس مثلاً، أو بالشنق بدون شتائم أو تنكيل.

لشهور ونحن ننتظر قرار التصفية، غير أنه لم يصل.

في لحظة طيش أو يأس أو صحو فكّر أحدنا بموضوع الإضراب عن الطعام احتجاجاً على سوء أوضاعنا. اعترض البعض وحذّروا من عواقب الأمر، ووقفتُ وآخرين مع الفكرة: إذا كان غرضهم تصفيتنا، فما جدوى مماطلتهم أو مماطلتنا، وإذا كان ليس هذا هدفهم فلنختبره.

نكّلوا بنا كثيراً كي نفكّ إضرابنا، وكان أغلبنا يعتبر ذلك مؤشراً على أنهم لا ينوون تصفيتنا.

كسبنا الجولة وحققوا لنا مطلب أن يكون مهجعنا في مكان له باحته الخاصة، لنتحرك فيها نهاراً بدون أي إهانات من عناصرهم الذين يأتون إلى المهجع عند التفقد وإدخال الطعام، أو أولئك الذين يتجوّلون على سطوح المهاجع المتصلة من أول السجن إلى آخره ليراقبوا السجناء من “الشرّاقات” المفتوحة في سطوح المهاجع. كما وافقوا على إيصال إحدى الجرائد الرسمية يومياً، غير أننا للأسف لم ننجح في فرض شرط زيارات الأهل ولا السماح بالأقلام والأوراق والراديو.

بعد شهور عادت الأمور إلى سابق عهدها، فعادت الإهانات، ومنعوا الجرائد عنا، فقررنا الإضراب عن الطعام من جديد. كنا حينها أقلّ توتراً مما كنّا في الإضراب الأول، فخطّطنا كيفية جعل الإضراب وثقل الوقت أقلّ مضاضة. اكتشفنا في الإضراب الأول أن الوقت مع الجوع يمضي بطيئاً وثقيلاً وحجرياً، ولا بدّ من طريقة ما لتخفيف وطأته. اتفقنا أن نمضي الوقت بسماع روايات قرأها بعضنا ولديه إمكانية لعرضها، وقدّمتُ في إحدى الليالي فكرةً عن الشعر الفلسطيني في الداخل وختمتها بالحديث عن قصيدة توفيق زياد “سرحان والماسورة” التي لحنها حسين نازك وغنتها فرقة “أغاني العاشقين”. تلك القصيدة التي كسَوتُها بحبكة درامية ورويتها على مدى ما يقارب ثلاث ساعات. القصيدة التي غنتها فرقة “أغاني العاشقين” خلال ما لا يزيد عن 20 دقيقة، صارت عندي فيلماً ترافقه مقاطع القصيدة وألحانها كما لو أنها موسيقا تصويرية. كنت أغنّي بعض المقاطع وألقي بعضها حسب ذاكرتي وما اختزنته من أداء فرقة “أغاني العاشقين”.  

انتهت الروايات وانتهت عروضي الأدبية وما زالت نهاية الإضراب غير معروفة.

قلت للرفيق محمد الصمودي، وكان عسكرياً وأستاذاً مدرِّباً في دورات الصاعقة للوحدات العسكرية الخاصة، ويمتلك فوق ذلك بديهة وملكات تمثيلية وذخيرة من الأفلام المصرية والهندية: ما رأيك أن نبدأ بعرض محفوظاتنا من الأفلام. 

بعد بضعة أيام نفد المخزون، فقلت للصمودي: علينا أن نؤلِّف أفلاماً من اليوم إلى أن ينتهي الإضراب.

قال لي مندهشاً: نؤلِّف.. وكيف؟

قلت: لا عليك. نتصور قصصاً غرائبية مليئة بأبطال ومجرمين وبنساء جميلات ومؤامرات وكمائن، أو حكايات “شَرَوي غَرَوي ” نقدّمها على أنها أفلام أساعده في تذكرها وتدقيق بعض تفاصيلها. المهم أن نخفف وطأة الإحساس بالوقت عند الشباب.

قال لي بحسه الكوميدي المعهود: لله الحمد أن الجميع هنا شباب. تخيَّل لو كان معنا صبايا الآن. 

ألّفنا على الأقل عشرة أفلام طويلة جداً، بعض حقوق تأليفها محفوظة له وبعضها لي، وبعضها كان مشتركاً.

بعد انتهاء الإضراب قررت أنا والصمودي أن نبلغ الرفاق بأن الأفلام العشرة الأخيرة على الأقل، كانت من تأليفنا.

واجهنا تصفيقاً من البعض، وخيبة أمل من البعض، واستفسارات من البعض حول تفاصيل التفاصيل.

الكاتب: فرج بيرقدار

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع