مؤسسة البرق والبريد والهاتف. هكذا كان اسمها في سوريا حسب ذاكرتي. وكان لهذه المؤسسة فروع وشُعَب في المدن والبلدات. كانت هذه المؤسسة تابعة لوزارة الاتصالات، ولكن في عهد الأسد الأب والابن صارت المؤسسة وشُعَبها والوزارة تابعة للمخابرات وما تمتلكه من تكنولوجيا متطورة للمراقبة والتنصت والتجسس، الأمر الذي يؤكِّد أن الأنظمة الاستبدادية المتخلّفة على كل الصعد، قادرة في هذا العصر على امتلاك أحدث التكنولوجيات التدميرية والرقابية والقمعية.
ليس في حديثي حتى الآن ما هو جديد، ولكنه توطئة لطرائف سأروي بعضها مما كان أسراراً في حينه.
في الأسابيع الأولى من اعتقالي حاولت التواصل مع الرفاق في زنازين فرع فلسطين. في العادة تهدأ حركة الحراس بعد منتصف الليل، فيبدأ تواصلنا لتنسيق اعترافاتنا وتبادل الأخبار والأفكار والهواجس. كان الهمس هو الوسيلة التي لا تحتاج إلى خبرات خاصة، وكان همس البعض في منتهى الوضوح بين الزنازين، ومع ذلك لا يمكن أن يلفت انتباه من يقف على بعد أمتار قليلة. تلك هي إحدى أهم خصائص الهمس. ولكن حين يكون هناك من يصعب عليك فهم حديثه العادي، فلك أن تتخيل كيف ستفهم حديثه المهموس. في إحدى الليالي اضطررنا إلى تجاوز الهمس، لإيصال بعض التفاصيل المهمة، ولكن فجأة انفتحت كُوَّة الباب “الشراقة” لأجد نفسي في مواجهة الرقيب أحمد خليل رئيس الدفعة المناوبة.
أحمد خليل ضخم الجثة، رعديّ الصوت، وتبدو عليه سيماء الحماقة. سألني مع مَن أتكلم، فقلت: مع لا أحد. قال: وصوتك الذي سمعته بأذني؟ قلت: أنا مجنون وأتحدث مع نفسي بصوت عالٍ. شتمني فرددت له الشتيمة. صار كالثور الهائج، وحاول فتح باب الزنزانة ثم تراجع وهو يقول: بسيطة.. أنا أعرف كيف أدبِّرك..غداً صباحاً سترى.
كانت عيناه تقدحان شرراً وشياطين، فلم أنم ليلتها خوفاً مما سيحدث في الصباح. ولكن لحسن الحظ مرّت الأمور بسلام، فقلت في نفسي ان أحمد خليل يوحي بأنه أهوج وأحمق ولكنه ليس كذلك في الواقع، وربما ليس سيئاً بالصورة التي يبدو عليها مظهره.
بعد شهور وصلت دفعة جديدة من الرفاق الذين يعرفون التواصل بالمورس عبر النقر على الجدران. إنه مورس خاص مستوحى من آلات المورس التي كانت ترسل البرقيات بين المحافظات أو بين الوحدات العسكرية من خلال شيفرات ورموز صوتية ذات أبعاد أو أطوال متباينة يرمز كل منها إلى حرف أبجدي. أما المورس الذي استخدمناه فكان مبنياً على المقاطع الستة ل (أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ).
سأفترض أني سأسلّم على أيمن الذي هو خلف الجدار، فكيف أنقر له: كيفك أيمن؟
أنا وهو نعرف مسبقاً أن النقرة أو النقرات الأولى، ثم التوقف لبرهة، هي إشارة إلى رقم المقطع، والنقرة أو النقرات التالية تشير إلى رقم الحرف. كيفك: ننقر 4 نقرات لنحدّد أن الحرف الذي نريده موجود في المقطع 4 الذي هو “كلمن”، ثم ننقر نقرة واحدة إشارة إلى الحرف الأول، أي الكاف. حرف الياء بعدها يقتضي 3 نقرات أي المقطع “حطي”، ثم 3 نقرات أي حرف الياء. حرف الفاء بعدها يقتضي 5 نقرات أي “سعفص” ثم 3 نقرات أي الفاء، وهلمّجرّا. للوهلة الأولى يبدو الموضوع مربِكاً ومعقّداً، ولكن الحاجة والمران والتركيز تجعل الأمور كجريان الماء. كان بيننا من هم متفوقون في استخدام المورس، يمارسونه بسرعة لا تأخذ زمناً أطول من زمن من يتحدثون ببطء. ولعل الحادثة التالية، التي يشهد عليها كثيرون ممن كانوا معنا في زنازين فرع فلسطين، تؤكد ما أقول.
تواصلت مرة مع الصديق أكرم البني، وكانت زنزانته وراء زنزانتنا المزدوجة مباشرة. سألني أن أسمعه شيئاً من قصائدي، فكتبت له إحداها. قال لي انها جميلة، فشكرته على لطف المجاملة، فقال: ليست مجاملة. لقد أعجبتني القصيدة إلى حدّ أني حفظتها، وسأكتبها لك الآن لتتأكد. الغريب أنه كتبها بدون أي خلل سوى حرف عطف زاده على إحدى الشطرات.
في سجن تدمر وجدنا أنفسنا خارج التغطية في كل شيء. لم يتواصل معنا أحد، ولم يردّ أحد على اتصالاتنا لا عبر المورس ولا عبر مواسير المياه الفارغة. لقد أعادونا إلى عصور تنخل رماداً كثيفاً لا ينفع معه همس ولا مورس ولا حتى حمام زاجل.
أمّا في سجن صيدنايا فقد كان لدينا أهم وأنشط وأسرع مؤسسة بريد في العالم. في الأحوال العادية يتم توزيع الرسائل على الأجنحة صباحاً ومساءً. في حالات الطوارئ التي تقتضي إرسال رسائل فورية هناك دقّات متفق عليها يستنفر على إثرها سُعاة البريد.
مبنى سجن صيدنايا مؤلف من ثلاثة طوابق، كل طابق مؤلف من ثلاثة أضلاع على شكل إشارة “المرسيدس”، وكل ضلع يضم عشرين مهجعاً، أي ما مجموعه 180 مهجعاً تلتقي كلها في نقطة مركزية اسمها المسدَّس، لأنها ساحة ذات شكل سداسي يسمح بمراقبة كل أجنحة السجن. شبكة البريد هي المَنَاوِر المعتمة إلى حد لا يتيح للحراس على السطح مراقبة ما يحدث في داخلها من حركة شحن نشيطة تنقل الرسائل والطرود ضمن أكياس مربوطة إلى خيطان مجدولة بعناية. وصلت أخبار مشوَّشة إلى مدير السجن عن حدوث تواصل ما عبر المَناوِر، فالتقى ببعض السجناء، وكان أحدهم أستاذاً لمدير السجن حين كان المدير في مرحلة الدراسة الثانوية. قال مدير السجن لأستاذه القديم: بو نسرين قللي.. شو مَ تدلدلوا لبعضكِن من المّناوِر؟
ردّ أبو نسرين بكل ما يمتلك من المبادهة والتورية وروح الدعابة: نحنا ندلدل؟
دّخلكْ في شي بقي عنّا حتى ندلدلو؟