حدث ذلك قبل عدة سنوات. دعاني صديق لي على العشاء في نيويورك، زاعما أنه وجد مطعما يقدم مسخّنا فلسطينيا. أجبته باستحالة ذلك، نظرا لما أعرفه من غياب المكونات اللازمة لهذا الطبق في نيويورك. أصرّ صديقي وأقسم أيمانا مغلظة وطلب مني أن أتجهز للمفاجأة. وصلنا المطعم وطلبنا. جاءتنا النادلة مبتسمة بشيء ما، عليه شيء ما، وبجانبه شيء ما. نظرت إلى صديقي. “شو هاد؟” لم يفهم سؤالي. “مسخن. شو مالك؟ خبز وعليه بصل وجنبه قطعة جاج.” أزحت الكرسي وقمت واقفا. أمسك بي صديقي ورجاني أن أجلس منعا للإحراج. نظرت إليه شزرا. سألني: “لكن عن جد، شو المشكلة؟ مش المسخن خبز وعليه زيت وبصل؟” أجبته بنوع من الاستعلاء: “لأ، خبز مشروح وعليه زيت وبصل”.
من بين جميع الأطباق التي نشأنا على تناولها، فإن الجزء الأهم من المسخن تحديدا يجب أن يحدث خارج البيت، في رحلة البحث عن الخبز المشروح. المسخن ليس بصلا وزيتا. هو خبز مشروح أولا وأخيرا، وبين البداية والنهاية قطع من البصل وشيء من زيت الزيتون.
لا أدري من أطلق على هذا النوع من الخبز اسم “المشروح”. التسمية الشائعة الأخرى هي خبز “الطابون”، نسبة إلى الفرن الذي يخبز فيه. الطابون أصلا هو الفرن الطيني الذي ابتكره الفلاحون في بلاد الشام لصناعة الخبز، وهو يشبه فرن التنور في العراق. في الأردن يفرق بعض الناس بين خبز الطابون والمشروح عبر حجارة الرضف التي توضع في الفرن. الطابون هو الخبز الذي يطهى على هذه الحجارة، وينتج عنها تجاويف في الرغيف، أما المشروح فهو الذي لا يوضع على الحجارة. ثمة من يستخدم المصطلحين دون تفريق: الطابون هو المشروح، والمشروح هو الطابون.
قد يكون أصل تسمية المشروح لخلو الرغيف من التجاويف. هو مشروح، منبسط، متسع، بلا فواصل. هو مشروح لأن العجينة شرّحت بيد الخباز وتمددت وتضخمت قبل وضعها في الفرن. هو مشروح لأنه دائري. لماذا المشروح دائري؟ لا أدري. كان يمكن، على المستوى النظري، أن يكون مربعا أو مستطيلا، لكنه يأخذ دوما الشكل الدائري. لكنه المشروح أيضا لأنه “يشرح النفس” كما نقول في العامية. هنا يصبح “المشروح” بمعنى “الشارح”. الخبز مشروح من قبل الخباز، لكنه شارح لنفوسنا وقلوبنا.
تبدأ طقوس المشروح من المخبز الخاص الذي يعجن ويطهى فيه. مخابز صغيرة تقليدية لاتزال منتشرة رغم سطوة المخابز الآلية. في الأردن هناك سيمياءات متشابهة لأفران المشروح. المخبز عادة مظلم، داكن، يفتح صباحا ويغلق قبل الغروب، ومن النادر أن تجد فرن المشروح مفتوحا في الليل. يحتوي الفرن على كمية هائلة من العجين وموظفين أو ثلاثة. يتولى واحد مهمة العجن والآخر مهمة رق العجين وتشريحه بتقليبه بين كفيه، لكن الشخص الأهم هو الذي يقف أمام النار. غالبا ما يكون هناك درجتان أو ثلاثة تفصل الخباز عن الزبائن. يمنحنا الخباز ظهره. لا نرى وجهه وهو يتأمل في النار. صورته ونحن صغار تلتصق بسيجارة بين أصابعه وعصا طويلة يستخدمها لانتشال المشروح من الفرن وكأس شاي إلى جانبه، وحين كنت أذهب لشراء المشروح في نهار رمضان كنت ألاحظ أن بعض الخبازين مفطرون، الأمر الذي منحهم صفة مختلفة بوصفهم يمارسون أعمالا شاقة تضطرهم إلى الإفطار في رمضان.
يخرج الخبز من الفرن لهبا، وحينها يطرح الطقس الثاني للمشروح: أين نضعه في رحلة العودة من الفرن للبيت؟ جرت العادة في زمن مضى أن نأخذ معنا إلى الفرن سدرا مستديرا لوضع المشروح فيه، نظرا لسخونته الرهيبة وكبر حجمه الذي يجعله غير مناسب للأكياس البلاستيكية. توضع الأرغفة فوق بعضها على السدر، ونمسك السدر من أطرافه كي نتجنب الحرارة. أما إذا نسينا السدر فسنضطر لوضع الأرغفة في الأكياس البلاستيكية التي تكاد تسوح عند ملامستها للرغيف. حين نصل البيت تبدأ ضرورة “فرد” الخبز كي لا تتعرق الأرغفة فوق بعضها. نبحث عن قطعة قماش، أو جريدة، أو سطح نظيف، ونضع الأرغفة فوقه متباعدة، ثم نعود ونغطيها بعد دقائق كي لا “تنشف”.
لكن الطقس الأهم للمشروح هو أن تبدأ باقتطاع أطراف منه والتهامها بمجرد أن تغادر الفرن إلى البيت. تبدأ أصابعنا بمغازلة تلك الأطراف الدائرية للرغيف، الممتلئة بإغراء لا يقاوم. نقطع ونضع في أفواهنا، وحين نصل البيت تكتشف أمهاتنا أن الرغيف تشوه وغدا مثل متاهة لا تعرف لها بداية ونهاية. المشروح يمكن أن يؤكل وحده، دون شيء إلى جانبه: نقتطع أجزاء الرغيف ونلتهمها على الطريق، وأمام باب البيت، ونحن نفرد الخبز على الطاولة، بحيث نكون قد أكلنا نصف رغيف أو حتى رغيف قبل أن تبدأ الوجبة التي ذهبنا لشراء الخبز من أجلها.
رغم ذلك نواصل الأكل بالخبز وننضم للوجبة العائلية. والمشروح خلق لكي يغمّس به. استخدام المشروح في عمل الساندويشات كارثة وطنية، فخبز الساندويشات كثير متوافر ولسنا مضطرين لحرف المشروح عن مساره الطبيعي كي نجعله ساندويشة. المشروح يعني التغميس، والتغميس يعني، في أساسه، زيت الزيتون. نضع صحن زيت الزيتون، وقطعا من البندورة، وصحن شطة حارة لمن أحب، ورغيف خبز مشروح، ونتحدى أضخم مطعم فرنسي من ذوي نجوم ميشلان الشهيرة أن يملأنا بتلك اللذة النادرة. ثمة شيء عجيب يرافق تغميس قطعة الخبز المشروح في زيت الزيتون. المشروح يمتص الزيت كما لا يفعل رغيف آخر: يصبح الزيت غلافا للقطعة، غطاء لعريها، لحافا يحيط بها. التغميس بالحالة التي أصفها بعيد عن الأناقة والاتيكيت. من أراد الاتيكيت فلا يقترب من الخبز المشروح. المشروح حالة توحد مع الطعام، قفز فوق القواعد جميعها بغية الوصول إلى سرّ من أسرار هذه الحياة المدهشة.
تلك العلاقة الخاصة مع زيت الزيتون هي التي جعلت المشروح مرادفا لطبق المسخّن. من جاء أولا؟ سؤال يشبه سؤال البيضة والدجاجة. هل فكر الفلاحون بالمسخن فصنعوا المشروح لأجله أم جاء المشروح أولا واستخدم لاحقا في المسخن؟ ليس مهما. المهم أنه لا يجوز شرعا ولا عقلا ولا منطقا ولا أخلاقيا أن يستخدم خبز آخر في تحضير المسخن. لو امتلكت سلطة لفرضت غرامة على من يستخدم أنواع خبز أخرى للمسخن. وحتى حين نكون في الغربة التي تفتقد للمشروح فعلينا تجنب اللجوء لخبز آخر، كالخبز الهندي مثلا أو ما يسمى بخبز “بيتا” أو غيره. أنواع الخبز الأخرى لا تشرب الزيت بالطريقة ذاتها. يصبح الرغيف كعكة، أو شيئا مقرمشا، وينساب الزيت من جوانبه. حين نستخدم خبزا آخر للمسخن فإننا نكون قد صنعنا بيتزا بالبصل مثلا، رغيفا زيتيا، تخبيصة معينة، أي شيء آخر إلا المسخن. وحده المشروح ما يجعل المسخن مسخنا.
يؤكل المشروح في كل الأحوال، صيفا شتاء، صباحا مساء، فطورا أو غداء أو عشاء. حين يكون المشروح طازجا ساخنا فإنه لا يتفتفت، لا “يهرهر” كما نقول بالعامية. اقطع من أي اتجاه في الرغيف وابدأ وستبقى الاتجاهات الأخرى متماسكة. وحين نضعه في البراد ونخرجه بعد أيام ونسخنه فإنه يظل محتفظا بأجزاء كبيرة من روعته، خلافا لكثير من أنواع الخبز الأخرى. أما حين ينفد فجأة، ويكون الطبق في ذاك اليوم تغميسا، فإن الحزن يتسرّب إلى النفوس. تخيلوا أن نغمّس صينية الكفتة بخبز غير المشروح؟ تخيّلوا؟
يملك المشروح رائحة: حين نحضر المشروح من المخبز إلى البيت فإن رائحته تعم المكان. نادرا ما تملك أنواع الخبز الأخرى رائحة. الخبز عادة يؤكل، ولا يشم، لكن المشروح يؤكل ويشم معا. المشروح لذة كاملة للحواس الخمس: نلمسه، نراه، نشمه، نتذوقه، وأكاد أقول نسمعه أيضا. وإذا كان الخبز “عيش”، كما يقول المصريون، فإن المشروح هو خلاصة هذا العيش وذروته واختصاره.