تقديم
تواصلت اللقاءات والنقاشات على امتداد السنوات الماضية ما بين رافعي رايات النضال من أجل “الدولة الواحدة” دون أن تسفر عن اتفاقات فعلية لتوحيد هذه المجموعات وذلك لبروز عدد من القضايا الخلافية وكان آخرها بمناسبة إصدار بيان مشترك في “يوم النكبة ” بتاريخ 15 أيار 2020.
وهنا، وإن كان هناك اتفاق حول ضرورة اشتقاق برنامج نضالي يضع بناء “الدولة الديمقراطية” في فلسطين كهدف مركزي له برز إلى السطح قراءات متضاربة وتقييمات لشكل الوحدة المُفترضة إضافة إلى بروز بعض مسلكيات الهيمنة ذات الجذور الفصائلية والتي تُشكِلُ جزءاً هاماً من تراثنا السياسي والفكري البائد والتي لم تكن، نظرياً على الأقل، لتظهر لدى حاملي لواء التغيير والتجديد للمشروع الوطني المتهالك.
بعيداً عن التفاصيل، كان هناك جذراً فكرياً وايديولوجياً يغذيّ هذا الخلاف الجديد-القديم ألا وهو قضية الموقف من الطرح العلماني والذي يعتبره البعض كترف لا داعي له وتفصيل يمكن نقاشه لاحقاً ولا موقع له من الإعرابِ في اللحظة الراهنة لكونه عنصراً قد يُعكِر الوحدة المنشودة بإثارته لخلافات نحن بغنىً عنها.
هنا، سوف نعود إلى نقاش هذه النقاط الخلافية ببعض التوسع.
دولة فلسطين الديموقراطية العلمانية الواحدة: الخلاص للفلسطيني ولليهودي “المتأسرل”
لن نقدم هنا بحثاً في “الاقتصاد السياسي” للجريمة ولنتائجها، ألا وهي جريمة تشويه الوعي الوطني الفلسطيني وحرف مسار النضال الفلسطيني وتدجين الفعل الفلسطيني المُقاوِم فمنذ برنامج النقاط العشرة وصولاً لاتفاقيات أوسلو المشؤومة، استمر التراجع الفلسطيني لكي يتراكم كماً ونوعاً مؤدياً لِصفقة القرن المدعوة للمزيد من التمدد لالتهام ما تبقى من الأرض الفلسطينية ومن الحق الفلسطيني بالعودة للوطن السليب.
في ظل أكذوبة المفاوضات السلمية للوصول إلى “حل الدولتين” ارتفع عدد المستوطنين من 200,000 مستوطن في 1994 إلى 700.000 مستوطن في يومنا هذا ممن يعيشون في ظل أمن نسبي يضمنه لهم “التعاون الأمني” اللا- مقدس برعاية السلطة الأوسلوية، فيما شهدنا تراجع عدد سكان الأغوار الفلسطينية من 300.000 عام 1967 إلى 60.000 مواطن فلسطيني ممن سيواجهون قريباً خطة الضم الصهيونية بمباركة أميركية وتواطئ أوروبي ورسمي عربي.
أمام هذا الخطر الداهم، لا تملك سلطتي أوسلو في غزة ورام الله برنامجاً للمواجهة فهما ومجمل فصائل العمل الوطني أسرى للفخ الذي نصبوه لأنفسهم ولشعبهم وذلك في يوم لن تنفعهم فيه ربطات العنق وألقاب السيادة والفخامة والسجادات الحمراء وكواليس وأبواب السفارات الخلفية منها والامامية.
في ظل هذا العجز الفلسطيني الرسمي المُعلَن، تتعالى الأصوات الداعية للتحرك لاستعادة المبادرة الفلسطينية ولوقف الانحدار المريع والذي أوصلتنا له سياسات وكيانات أوسلو الوهمية والتي لن تتحول يوماً إلى “دولة” ذات سيادة بل يمكن لها في أفضل الأحوال أن تمارس دورها كإدارة ذاتية لبانتوستان هزيل على الشاكلة الجنوب-افريقية إبان عهد الأبارتهايد.
هذا السقوط المدوي لحل الدولتين يجعل من حل “الدولة الواحدة” تجسيداً لإعادة التأكيد على الثوابت الفلسطينية في الحرية والتحرير والعودة وبناء “دولة فلسطين” كدولة عربية وديمقراطية تضمن حق العودة للاجئين من أهل فلسطين كما تضمن لسكانها من التجمع اليهودي “المتأسرل” (بفعل الأيديولوجية الصهيونية العنصرية والامتيازات المادية الممنوحة للمستوطن اليهودي)، حقوقهم المدنية والاجتماعية والثقافية واللغوية دون نقصان ودون أي سلوك ثأري لا يليق بثقافة التسامح العربي الأصيلة.
وهكذا، سوف يتقدم الفعل السياسي الفلسطيني تحت راية النضال لبناء الدولة الديمقراطية كاقتراح انساني وتقدمي لحل المشكلة اليهودية في فلسطين عِبرَ ترميم الوعي اليهودي وتخليصه من شوائب الفكرة العنصرية الصهيونية والتي سطت عليه واستعمرته محولةً من أتباع الديانة اليهودية أداة للاستعمار الاستيطاني الإحلالي وللتطهير العرقي.
إن النضال من أجل قيام دولة فلسطين-المواطنة، دولة القانون والعدالة الاجتماعية هي تأكيد للحق الفلسطيني الغير متعارض مع حفظ حقوق التجمع اليهودي وإن كان تجمعاً استعمارياً قام ولا يزال يقوم بممارسة أبشع أنواع الاضطهاد والقتل والتشريد بحق فلسطين وأهلها، وسوف يكون هذا النضال نضال مزدوج لتحرير الأرض والانسان الفلسطيني ومن اجل تحرير اليهودي من صهيونيته ومن امتيازاته المترتبة على مكانته كمستعمر “أبيض”.
“الدولة الديمقراطية الواحدة” هي دولة فلسطين العربية أولاً وأخيراً
قد نتفهمُ حساسية بعض دعاة الدولة الواحدة من اليهود المتأسرلين والمتخلصين من الأيديولوجية الصهيونية بدرجات ما، من طرح قضية “دولة فلسطين الديمقراطية الواحدة” وذلك لاقتران اسم الدولة بفلسطين بمجالها العربي والإسلامي مفضلين اللجوء إلى تعبير يُلغي هذا البعد الدال على ارتباط فلسطين ببعدها العربي والإسلامي العميق والضارب جذوره في التاريخ والجغرافيا والفضاءٍ الثقافي المشترك لجميع شعوب المنطقة العربية. حضور هذه الحساسية لدى هؤلاء تدلُ على عمق الاختراق الصهيوني للوعي اليهودي من جهة كما تدلُ من جهة أخرى على ضرورة النضال لنبذ التطرف القومي والديني في الجانب الفلسطيني وذلك لتبديد مخاوف من قَطَعَ الشوط الأول في رحلة نبذ الصهيونية وايديولوجيتها العاملة على تحويل أتباع الديانة اليهودية إلى أتباع إثنية-قومية مصطنعة.
الانتصار الأخلاقي والتفوق على الصهيونية يستلزم خوض هذا النضال المزدوج على الجبهة الفلسطينية الداخلية كما على الجبهة اليهودية للمتأسرلين من “اليهود – الشركاء” في المواطنة في الدولة القادمة. ومن أجل التقدم على جبهة هذا الانتصار الأخلاقي، لا بدّ من ان تتحول “فلسطين” إلى فكرة مرادفة للعدالة بكل أشكالها وأبعادها ومواضعها ومواضيعها وكرمز عالمي للعدالة والحرية العابرة للحدود القومية والاثنية إلى الفضاء الإنساني الرحب. فلسطين -العدالة الاجتماعية، عدالة توزيع الثروات، العدالة الجندرية والعدالة ما بين الجنسين وما بين الأكثرية والأقليات.
فلسطين العربية الديمقراطية هذه كوطن يقع في إطاره الإقليمي العربي والإسلامي وإن كانت تُخيف اليهودي الأشكنازي بناءً على خلفية بنيته الذهنية الأوروبية المعادية لكل ما هو شرقي ، عربي وإسلامي، لن تُخيف الشركاء اليهود بفضل ديمقراطيتها وعلمانيتها من جهة ومن جهة أخرى بفضل بثها لخطاب عصري، ديمقراطي، متسامح وتعددي لكي تنتزع من مخيلاتهم التاريخية وتحديداً لدى اليهود من أصول عربية مشرقية أو مغاربية تلك الصور النمطية المازجة لعناصر “التسامح الإسلامي” مع “دونية” ما تفرضها شروط معاملة “أهل الذمة” والذي كان “نظام الملة “العثماني هو آخرها.
إن النضال لنزع هذه الحساسية وهذه الهواجس لدى اليهودي المتأسرل المبتعد عن صهيونيته لن يكون عبر تقديم تنازل يتمثلُ في نزع الصفة العربية عن فلسطين، بل سوف يكون عبر مواجهة شجاعة لحقائق التاريخ وإشكالاته وذلك لتقديم بديل عصري وانساني للتغلب على الجوانب المظلمة من هذا التاريخ لضمان مستقبل ديمقراطي لمواطنة حقة.
دولة المواطنة: دولة الديموقراطية والعلمانية
هنا، تقترن فكرة المواطنة ببنية الدولة الديمقراطية العلمانية بما هي في الجوهر فصل السياسة عن الدولة ومحاربة كل أشكال التمييز القائمة على عوامل الدين، القومية، الإثنية، الجنسية والجندرية وهي بذلك تلبية لانتظام البنية الاجتماعية لما فيه فائدة للسلم الأهلي وللعدالة الاجتماعية والمساواة.
وهكذا تتقدم العلمانية كنظام سياسي واجتماعي يقوم على فصل الدين عن الدولة وكجوهر تأسيسي لدولة المواطنة الديمقراطية المتعالية على الانتماءات الاثنية والقومية والدينية للمواطن المنظور له بصفته الفردية وليس بصفته عضواً في مجموعة قومية أو دينية أو طائفية.
هنا، لا بدّ من القول بأن هذا النظام السياسي والاجتماعي العلماني لن يُضمِرَ عداءات ضد الدين و/أو ضد المعتقدات الروحية والفلسفية، ففي فصله للدين عن الدولة، يقوم أولاً بإقرار حقيقة حيادية الدولة بمواجهة معتقدات المواطنين على تنوعها إذ لن تنحاز لمعتقد ما أو لدين ما أو تحارب معتقد أو دين آخر. ثانياً، حيادية الدولة هذه تعني احترامها لكل المعتقدات بما فيها المعتقد الديني بشرط ألا يتحول الدين والمعتقد إلى مشروع سياسي للتعبير عن مجموعة خصوصية وبذلك، احترام الدولة الديموقراطية للمعتقدات الدينية وبفصلها الدين عن السياسة تقوم بتقديم خدمة جلى للمعتقدات الدينية لصونها إياها من تقلبات السياسة والمصالح الدنيوية.
دولة المواطنة العلمانية برفضها لتصنيف المواطنين بناءً على انتماءاتهم المعتقدية والدينية والروحية احتراماً لخصوصيتهم وحريتهم بالمعتقد كخيار شخصي لا يعني سوى صاحبه ولا علاقة للدولة ومؤسساتها والمجال العام بهذا الحق الأساسي والجوهري، تقوم باستبعاد تلك النزعات نحو المطالبة بتحويل الدولة الديموقراطية إلى “دولة ثنائية القومية” حيناً وإلى “دولة دستورية” حيناً آخر. هذا الاستبعاد يقوم على النظر للمواطن بصفته مواطناً أولاً وأخيراً دون الأخذ بعين الاعتبار لديانته أو لقوميته الخصوصية فمشاعر الانتماء لدين ما أو لقومية ما هي شأن من شؤونه الشخصية في مجاله الخاص.
هذا المواطن والذي تحمي الدولة خصوصية خياراته المعتقدية وحريته في استخدام اللغة التي تناسبه والثقافة التي يتماهى معها، حريته في ارتياد المسارح ودور السينما الناطقة بلغته، حريته باختيار المدارس والمناهج لأطفاله، حريته باستخدام لغته وثقافته في المجال العام دون أي رقابة، حريته بالانتساب إلى الجمعيات المدنية والأحزاب السياسية بكل منوعاتها وممارسة حقه بالتصويت وبالانتخاب وبأن يكون مُنتخباً أيضاً، هذا المواطن والتي تصون الدولة كل حقوقه الفردية وتمنحه حرية الانتماء إلى مجموعته وجماعته اللغوية والثقافية والدينية، هذا المواطن المحفوظة حقوقه الفردية والجماعية ضمن هذه الترسيمة الدقيقة للنظام الاجتماعي والسياسي العلماني، لن يكون بحاجةٍ إلى تعبيرات وأحزاب ومنظمات قائمة على اُسُسٍ اثنية أو دينية أو طائفية لتمثيله سياسياً، وبالتالي فإن الحاجة إلى نظام دستوري لحماية “الأقليات ” الخصوصية تكون لاغيةً بحكم الواقع ولا موقع لها في هذا النظام القائم على المواطنة المجردة من كل انتماء سياسي آخر.
هنا، سوف يحفظ القانون حرية التنظيم للحياة الدينية والثقافية واللغوية لكل الجماعات الخصوصية، دون أن يكفل لها حق تشكيل أحزاب سياسية دينية وطائفية حصرية ودون ان يكفل للمؤسسات الدينية أو الطائفية الحق الحصري بممارسة حصرية لمهام ووظائف اجتماعية لأبناء هذه الطوائف ممن هم مواطنون قبل أن يكونوا أبناء هذه الطائفة أو تلك.
هنا، سوف يتراجع دور المحاكم الشرعية والكنسيّة والحاخامية في “دولة فلسطين الديمقراطية” للعب أدوار ثانوية فالكلمة العليا هي للمحاكم المدنية غير الطائفية وهي المُقرر الأخير للقضايا والوظائف المنوطة بها من معاملات طلاق وزواج وحضانة الأطفال والإرث وصولاً لجميع قضايا الأحوال الشخصية وقوانين العائلة.
“مواطن” الدولة الديمقراطية ليس “مواطناً” في طائفة ما وهو لا ينتمي لها حصراً فانتماؤه هو للمجتمع الكلي الذي تمثله الدولة وعقدها الاجتماعي الرابط ما بين الفرد والمجال العام. “المواطنة – المرأة” لن تفقد حريتها الفردية التي ستكفلها لها الدولة باسم الانتماء إلى مجموعتها الاثنية والطائفية وقوانينها الخصوصية والتي قد تحد من حرية اختياراتها بفعل “ثقافة” أبوية وذكورية سائدة في أوساط هذه المجموعة الخصوصية او تلك.
لن تفرض الطوائف قوانينها على الفرد باسم الحقوق الجماعية والتي قد تفرضها بنية “الديمقراطية الدستورية”، بنيةً لا تعرفها الدولة الديمقراطية والعلمانية والتي لن تتنازل عن وظيفيتها في حماية الفرد وحقوقه وحريته بالدرجة الأولى مع مُحافظتِها على احترام الحقوق الثقافية والدينية للمجموعات الخصوصية ولأفرادها.
العلمانية اليوم وليس غداً
يمكننا ختام هذه المقالة باستحضار مثال قديم-جديد حول ضرورة الربط ما بين قضايا “التحرير” و”الحرية”، ما بين القضايا السياسية والاجتماعية بل والفكرية إذ أن هناك رابطاً وثيقاً وعضوياً ما بينها. تحرير الأرض يتطلب تحرير الإنسان والفكر والثقافة لكي ينال الفرد حريته ولكي يستطيع استعادة انسانيته وكرامته، وهذا الانسان الحر هو ضمانة إنجاز عملية التحرير.
في الثورة الجزائرية، جرى التخلص من الاستعمار الفرنسي وبناء دولة الاستقلال الوطنية بفضل نضال الشعب الجزائري رجالاً ونساءً ولكن، جرى إعادة النساء إلى مطابخهن بعد أن كُنَ على الخطوط الأولى في حرب التحرير.
“قانون الأسرة” الذي سنته الدولة الوطنية قام باستبعاد الجماهير النسوية من الحقل العام وفرض عليهن الخضوع للثقافة الذكورية الموروثة دون أي اعتبار لنضالهن من أجل جزائر حرة.
هذا المثال الجزائري جرى تكراره في الحركة الوطنية الفلسطينية بيمينها وبيسارها وذلك بالنظر إلى تلك القضايا وكأنها تفاصيل لا تليق بالنضال الوطني ويمكن تأجيل نقاشها إلى ما-بعد التحرير وهذا ما نجده مجدداً في النظر إلى قضية طبيعة الدولة الديمقراطية المنشودة. وغالباً ما جرى تكرار هذه المعزوفة: طرح العلمانية يتناقض وثقافتنا المُحافِظة مما سيُدخلنا في معارك جانبية تشغلنا عن المعركة الرئيسية، ونحن في غنىً عن ذلك. وتبعاً لذلك يجري القول” نحن نتفق مع الطرح العلماني ولكن لا نتفق مع توقيته فلنأجل هذه القضية الخلافية لما بعد-قيام الدولة”.
بالمقابل، يمكن اتهام هذه الطروحات برغبتها في إزاحة الطرح العلماني من حقل السياسة بحجة تأجيل البحث فيه إذ نعتقدُ بأن قضايا الحريات المدنية تحتاج إلى نظام علماني ضابط لحركتها ومنظماً للعلاقات الاجتماعية على أرضيتها وقضايا الحريات هي قضايا راهنة ومستقبلية لمرافقة جميع مراحل النضال قبل وما-بعد قيام الدولة الديمقراطية.
أهمية العلمانية للدولة المنشودة تتصل بطبيعة المجتمع المدني ونظامه الاجتماعي وهي قضية سياسية بامتياز وليست قضية محض اجتماعية وفكرية. المجتمع الفلسطيني في غد الحرية والتحرر هو مجتمع الحريات الفردية منها والجماعية وهو مجتمع التسامح الديني والعقائدي والتعددية وقبول الآخر وقبول اختلافه وتمايزه. وحري عن القول بأن علمانية الدولة الديمقراطية هي سلاح فعال لمواجهة الفكر الظلامي والعنصري والصهيوني وستكون أمضى الأسلحة في عملية نزع الأيديولوجية الصهيونية وترسباتها من وعي ولا-وعي الجمهور اليهودي المُتخلِص من عقدة سيطرة وتفوق “الرجل الأبيض”، اليهودي هذه المرة.