تقديم
عقد في بروكسل في 18 آذار 2024 مؤتمراً حول قضايا “نزع الاستعمار”(١) في فلسطين وكانت حرب الإبادة الجماعية في غزة حاضرةً بقوة إذ طرح توحش “القبيلة” الصهيونية المُقادة بأساطير تلموديه، جملة من التساؤلات حول مصداقية وواقعية الاقتراح الفلسطيني بخصوص الدولة الديمقراطية الواحدة فيما جرى اعتبارها دليلاً اضافياً على فشل المشروع الصهيوني برمته.
“إيلان بابيه”، ضيف المؤتمر، ذَكّر الحضور بأن هذا التدمير الوحشي لغزة إنما يُسلط الضوء على فشل المشروع الاستعماري الصهيوني الآخذ بالتصدع والذي سوف يُسفر عن سقوطه عاجلاً أم آجلاً. وقد حلّل هذا الانهيار المُحَتَم لدولة إسرائيل اعتمادا على عنصر ضعفٍ بنيوي كامن في أساسها منذ تشكيلها مما يجعل منها تتسم بضعف هيكلي اتضحت معالمه قبل 7 أكتوبر، فإذا ما قمنا باستبعاد القاسم المشترك ما بين مكونات هذه الدولة، ألا وهو اقتلاع السكان الأصلانيين في فلسطين للحلول محلهم، لا يتبقى من عناصر وحدة هذه المكونات المتنافرة سوى القليل لدى من يعرِّفون بأنفسهم على أنهم يشكلون “الأمة اليهودية” في “إسرائيل”. ففي إسرائيل معسكران يهوديان في «حرب» متواصلة وقد شهدنا اشتباكاتهما في شوارع تل أبيب والقدس وصولاً ليوم 6 أكتوبر 2023 وذلك كمؤشر على تصدع المشروع الصهيوني بفعل هذه الحرب ما بين المعسكر العلماني والمعسكر الديني والذي يُطور نسخة جديدة من الصهيونية المسيحانية في مستوطنات الضفة الغربية.
“إيلان بابيه” أشارَ الى أن هذه اللحظة المظلمة للغاية، هذه اللحظة الرهيبة لتصفية الفلسطينيين والتي وصلت إلى مستوى غير مسبوق، إنما هي أيضاً لحظة إعلان انهيار الصهيونية وهي ليست مجرد لحظة أمل، بل هي أيضاً تعلن عن الفجر الذي سوف ينبلج بعد هذا الظلام الدامس، وهي الضوء في نهاية النفق. من جهتي، أوضحت للحضور أن الخروج من النفق لن يكون إلا من خلال مواصلة النضال لتفكيك الدولة الصهيونية كدولة يهودية حصرية وكخطوة باتجاه بناء دولة ديمقراطية وعلمانية للجميع على أنقاض الدولة العنصرية، وبأن هذا الاقتراح يبرز من جديد في هذه اللحظات المأساوية ليؤكدَ وبقوة على أنه الحل الوحيد لهذا الصراع الاستعماري ما بين المجتمع الفلسطيني والحركة الصهيونية. ولذلك، يمكن اعتبار هذا الاقتراح السياسي الفلسطيني التاريخي لبناء دولة ديمقراطية واحدة بمثابة نظرية سياسية وبرنامج نضالي ميداني وقوة تعبئة للشعب الفلسطيني ولجميع الحلفاء على المستوى العربي والإقليمي والدولي.
في هذا السياق، أشرتُ إلى أن “المبادرة لدولة ديمقراطية واحدة”(٢)، كحركة سياسية تعمل على بناء دولة فلسطين الغد، إنما هي امتداد لتراث وإرثٍ سياسي فلسطيني بدأ عام 1943(٣)، مروراً بعام 1968(٤)وصولاً الى عام 1974(٥)، تاريخ أولى هزائمه والتي أسفرت عن الوصول بالحركة الوطنية الفلسطينية للدخول في حقبة “أوسلو” المشؤومة لعام 1994 وما سُمي زوراً بحل الدولتين.
“المبادرة لدولة ديمقراطية واحدة” تلتزم بذلك بالثوابت الوطنية الفلسطينية الثلاث ألا وهي “التحرير” و”العودة” وبناء “دولة فلسطين الديمقراطية والعلمانية” من النهر الى البحر. هذه الرؤية السياسية تميزها عن مجموعات أخرى ترفع شعار الدولة الديمقراطية الواحدة إذ تعتبر “المبادرة” أن هذه الدولة هي دولة ديمقراطية وعلمانية إذ لا انفصال ما بين الديموقراطية الحقة والعلمانية السياسية وهي تمتاز أيضاً عن بعض تلك المجموعات بخصوص رفضها لمقولة الدولة الديموقراطية كَدولةٍ “ثنائية القومية” فدولة فلسطين هي دولة المواطنة المتساوية وليست دولة قوميات متعايشة. كما تمتاز “المبادرة” أيضاً برفضها لتلك الأفكار المتداولة من هنا وهناك حول “دمقرطة” دولة اسرائيل و”اندماج” ما بين إسرائيل وفلسطين في صيغة كونفدرالية…الخ.
الدولة الديموقراطية العلمانية كنقيض للدولة اليهودية
للإجابة على عدد من الأسئلة والتعليقات للحضور، كان لا بدّ من التوسع بالشرح لمكنونات هذا الاقتراح السياسي وتحديداً للحديث عن المستقبل في هذه الدولة المُتوخاة، إذ أن المستقبل المتحرر من الاستعمار في فلسطين يعني التحرر من هذه الدولة الصهيونية من خلال تفكيكها كدولة عنصرية يهودية حصراً، أي تفكيك أجهزة تلك الدولة التي تمارس الإبادة الجماعية لسكان فلسطين الأصليين وفقاً لمراحل مدروسة منذ النكبة عام 1948 وصولاُ لحرب الإبادة الراهنة في غزة.
إن هذا التفكيك هو ما سيتمخض عنه انتقال حاسم من الدولة الإسرائيلية كدولة يهودية إلى دولة فلسطينية كدولة قانون، وكدولة تعددية، ما بعد-قومية، تقوم المواطنة بها على مبدأ الانتماء الى مجتمع سياسي من المواطنين المتساوين وليس وفقاً لانتماءات جزئية طائفية، أو دينية، أو عرقية، أو ثقافية. احترام تنوع وتعدد مكونات المجتمع المدني سوف يكون متمفصلاً مع مبدأ حيادية الدولة تجاه المكونات المختلفة للمجتمع الكلي.
هذه الدولة هي دولة علمانية سياسياً وهي من سيضمن حرية ممارسة الشعائر الدينية واحترام جميع المعتقدات الدينية والفلسفية دون تمييز. وهكذا، فإن نقيض الدولة اليهودية الحصرية الحالية هو الدولة الفلسطينية العلمانية والديمقراطية لجميع مواطنيها بغض النظر عن العرق، أو الدين، أو الثقافة، أو اللغة، أو الجنس، أو النوع الاجتماعي. وبهذا السياق، لن تكون هناك دولة ديمقراطية واحدة بدون النضال المشترك بين الشعب الفلسطيني والمجتمع اليهودي الإسرائيلي المنزوع من الصهيونية، أي المتخلي عن هذه الأيديولوجية العنصرية، مما سيجعل من تحرير فلسطين من الدولة الصهيونية تحريراً للمجتمعات اليهودية (في فلسطين وفي جميع أنحاء العالم) من الصهيونية. وهذا التحرير المزدوج هو الخطوة الضرورية لإنهاء استعمار فلسطين وبناء الدولة لجميع مواطنيها بدلاً من هذه الدولة “المسدودة الأفق” والمنغلقة على حد تعبير “آن لورا ستولر”(٦).
الدولة الواحدة : حلم بعيد المنال؟
عدد من الحضور استحضر ملامح حرب الإبادة في غزة لكي يتساءل عن مدى واقعية مثل هذا الطرح إذ أن الشريك النظري المأمول (المجتمع الإسرائيلي) يميل نحو المزيد من التطرف وليس نحو النضال المشترك ضد الصهيونية.
للإجابة على هذه التساؤلات كان لا بدّ من التذكير بأن اقتراح النضال الفلسطيني-اليهودي المشترك لبناء دولة المواطنة هو بالأساس، اقتراح فلسطيني باتجاه الطرف الآخر والذي نأملُ بكسب بعض قطاعاته للالتحاق بهذا النضال وهذا الاقتراح هو بمثابة العرض الفلسطيني الدائم بغض النظر عن تقلبات اللحظة السياسية إذ لا حل سواه على المدى البعيد.
هذا العرض الفلسطيني لتحقيق هذا التحرر المزدوج سيبقى وإن تعارضَ بشكل مؤلم مع هذا الاتجاه الفاشي الذي يسري في المجتمع الإسرائيلي بأكمله، فعندما شهدنا في الماضي مظاهرات فاشية تحمل شعار “اقتلوهم جميعا”، اعتقدنا أننا نواجه تعبيرات أقلياتية معزولة. اليوم وفي ظل حرب الإبادة أصبح هذا الشعار الفاشي شائعًا جدًا لدى المجتمع بأكمله من رأس هرم السلطة الصهيونية ونخبها بكافة منوعاتها وصولاً لأغلبية المجتمع الإسرائيلي. الأمثلة الصادمة لا تُعد ولا تُحصى. ونزع إنسانية الفلسطينيين وممارسة الإبادة الجماعية بحقهم هي الدليل القاطع على الطبيعة الكولونيالية الاستيطانية للمشروع الصهيوني في فلسطين إذ أن الإبادة الجماعية هي ذلك السلوك المألوف لجميع حالات “الاستعمار الاستيطاني” في التاريخ. “باتريك وولف”(٧) يرى في الإبادة الجماعية الرديف الدائم والمُصاحِب للاستعمار الاستيطاني، فهي عنصر “بنيوي” و”تأسيسي” في هذا المشروع وليست “لحظة” أو “حدثا” مُعطى في زمن مواجهة عسكرية ما وهكذا هي في فلسطين كما كانت عليه في “العالم الجديد” وأستراليا في الماضي. الإبادة الجماعية هي عنصر مكون في المشروع الصهيوني لأن خلق الدولة الاستعمارية الاستيطانية بقاعدتها المجتمعية تستوجب الاختفاء الجسدي عبر القتل والنفي للسكان الأصليين واستبدالهم بالمستوطنين كما لا يمكن إنشاء مستعمرة الغيتو هذه من الصفر إلا من خلال القوة التدميرية لدولة قوية ومجتمع استيطاني اسبارطي عسكريتاري بامتياز. وهكذا فإن هذا “التصعيد” الفاشي، الذي ينتشر اليوم على نطاق واسع، ليس في الواقع سوى عنصر أساسي وعضوي وعميق في المشروع الصهيوني منذ بداياته. وبمواجهة هذه الفاشية الفالتة من عقالها يبرز شعار الدولة الديمقراطية الواحدة كرد أمثل ووحيد عليها من أجل لجمها والقضاء عليها بإيداعها في مزبلة التاريخ كغيرها من الأيديولوجيات النازية والفاشية القاتلة.
رغم حرب الإبادة والظلام ينبثق نور الفجر
“التحليل التفصيلي الذي قدمه ايلان بابيه لكي يبرهن على تقييمه المتفائل بخصوص نهاية المشروع الصهيوني كان مقنعاً رغم تعارضه مع مأساوية اللحظة القاتمة التي تعيشها فلسطين وغزة على وجه الخصوص. في هذا السياق ورغم تقديمي لتصور “متشائل” (استعارةً من أميل حبيبي) لوصف الواقع بما هو عليه بالفعل كان لا بدّ لي من تقديم بعض المعلومات التي تشير الى بداياتٍ واعدة باتجاه الخروج من النفق المظلم الذي وضعت فيه الدولة الصهيونية الشعب الفلسطيني والتجمع الكولونيالي اليهودي في فلسطين. ففي 30 أكتوبر/تشرين الأول، وفي خضم الهجوم المميت الذي شنه الجيش الإسرائيلي على غزة، قامت مجموعة “المبادرة لدولة ديمقراطية” بصياغة “رسالة إلى حلفائنا اليهود” في أعقاب المظاهرات المناهضة للحرب والتي شهدت مشاركة واسعة النطاق من الشباب اليهود الأمريكيين. وقد تمكنت هذه الرسالة من الحصول على أكثر من 14 ألف توقيع فلسطيني بعد أسبوع من نشرها. هذا يشير من ناحية، الى أن مظاهرات هؤلاء اليهود الأميركيين الشباب هي تعبير عن تغييرً حقيقي في وعيهم السياسي وبداية ابتعادهم عن أكاذيب الأيديولوجية الصهيونية، ومن ناحية أخرى، فإن هذا الاستقبال الإيجابي بين الفلسطينيين يُظهر أن العداء الفلسطيني موجه أساساً للصهاينة وليس لليهود كيهود وبأن الفلسطينيين وعلى الرغم من الإبادة الجماعية، يواصلون تصور مستقبل مشترك مع أولئك اليهود المبتعدون عن الطرح الصهيوني.
هذه الرسالة ذاتها وجدت استجابة كبيرة على المستوى الدولي، وتم التوقيع على عريضة لدعم هذه الرسالة من قِبَلِ أكثر من ألف شخصية في 35 دولة. لذا، يمكننا أن نأمل، وأن نحلم بفلسطين الغد المتحررة من الصهيونية، فلسطين العلمانية والديمقراطية، بدون هيمنة استعمارية، بدون مذابح وبدون كراهية، فلسطين التعايش والسلام كما كانت عليه قبل إنشاء دولة إسرائيل: فسيفساء جميل ومتنوع يضج بالحياة.
هوامش
1- مؤتمر “نزع الاستعمار”، بروكسيل-بلجيكا، 18مارس 2024، تنظيم “آن فانِس” وبمشاركة إيلان بابيه، ناجي الخطيب، دومينيك فيريه، أيتان برونشتاين ،سهيل ياسين.
2- “المبادرة لدولة ديموقراطية واحدة” https://odsi.co/en/.
3- البرنامج السياسي ل”عصبة التحرر الوطني”، حيفا، فلسطين، 1943.
4- مقررات المجلس الوطني الفسطيني-1968.
5- مقررات المجلس الوطني الفلسطيني، 1974-البرنامج المرحلي-النقاط العشرة.
6- Ann Laura Stoler, Duress, Imperial Durabilities in Our Times – Duke University Press Books, 2016.
7- Patrick Wolf, Settler Colonialism, and the elimination of native, 2006, https://doi.org/10.1080/14623520601056240.