عن الشعر الحر والحديث وقصيدة النثر

Ali Omar Ermes, The Sixth Ode

فرج بيرقدار

شاعر سوري

بعد عقود على تسمية "الشعر الحر أو الحديث" للدلالة على شعر التفعيلة، وعقود على تسمية "قصيدة النثر"، وقبل ذلك تسمية "الشعر الكلاسيكي أو التقليدي"، أما آن لنا أن نتوافق على تسميات أقرب إلى بُناها وخصائصها ومضامينها ودلالاتها؟

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

19/07/2020

تصوير: اسماء الغول

فرج بيرقدار

شاعر سوري

فرج بيرقدار

في بداية سبعينيات القرن العشرين قرأت كتاب “قضايا الشعر المعاصر” لنازك الملائكة، وكنت حينها قد انتقلت من كتابة القصيدة العمودية إلى قصيدة التفعيلة.

أكثر ما أربكني في الكتاب هو إطلاق تسمية الشعر الحر على ذلك النوع من الشعر المؤسَّس على التفعيلة، الذي كتبتْه ونظّرتْ له الرائدة المبدعة نازك الملائكة، وقد واكبها السياب زمنياً إلا أنه كان شعرياً أكثر حضوراً وتكريساً لهذا النمط في مجمل نتاجه الشعري، ثم انضمّ إليهما عبدالوهاب البياتي، وتلاه صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي ونزار قباني وخليل حاوي وفدوى طوقان وأدونيس، إلخ.

كنت أدرك أن لشعر التفعيلة ضوابطه وقيوده، وبالتالي لم يكن شعراً حراً، وإن كان أكثر تحرراً من كثرة القيود التي يقتضيها الشعر العمودي. أعتقد أن المبرر الذي اعتمدته نازك الملائكة للتسمية لم يكن موفقاً، فحرية الشاعر، التي تحدّثت عنها الملائكة، في طول الأشطر وقصرها أو عدد التفعيلات غير الثابتة في كل شطر، لا تكفي لوسم القصيدة بالشعر الحر، إذ لو تحرر الشاعر من التفعيلة أصلاً وليس فقط من عدد التفعيلات، فماذا كان يمكن للملائكة أن تسميه. من جهتي أفترض أن ذلك لم يخطر في ذهنها، فإن خطر فلن تعتبره شعراً، وبالتالي كانت ستبقى عند تسميتها لشعر التفعيلة بالشعر الحر، ولكنها لو عادت الآن ووجدت أن هناك شعراً متحرراً من الأوزان والتفعيلات والقوافي، وصار شعراً معترفاً به عند غالبية الشعراء والنقاد، فلا بد لها أن تعيد النظر في إطلاقها تسمية الشعر الحر على ذلك الشعر الملتزم بالتفعيلة.

ولمزيد من بلبلة المصطلاحات هناك من أطلق على شعر التفعيلة تسمية الشعر الحديث، لنجد أنفسنا لاحقاً أمام شعر أكثر حداثة من ذلك الذي سُمّي حديثاً، فماذا نسمي هذا الأكثر حداثة، وماذا نسمي ما يمكن أن يأتي بعده مما هو أحدث من سابقيه؟!

في تلك الأيام بدأت أتخيل وأتأمّل الممكنات لكتابة جديرة بأن تسمى شعراً رغم تحررها من الوزن ومن أية ضوابط خارجية لا تنبع من داخلها، غير أنني لم أجرؤ على الدخول في التجربة، أو حتى على الركون إلى قناعة راسخة بإمكانياتها.

قراءتي للشعر المترجم كانت تحبط عندي الأمل بإمكانية شعر عربي حرّ، أو ما اصطُلح لاحقاً على تسميته “شعراً منثوراً أو قصيدة نثرية”. لكني حين قرأت كتاب جاك بريفير المترجَم إلى العربية تحت عنوان “كلمات”، تهاجستْ في داخلي إمكانية كتابة شعر حقيقي بمعزل عن الأوزان والموسيقا الشعرية التي ألفناها..

ولكن النقلة الحاسمة في هذا الميدان جاءت لاحقاً مع قراءتي لبعض المتصوفة ولا سيما النفَّري.

شعرت أن كتاباتهم لا تقلُّ، عمقاً وإلماحاً وبلاغة ورهافة، عما في عيون الشعر العربي قديمه وحديثه.

نقطة واحدة كانت تؤرقني قبل أن أحسم رأيي في مشروعية الشعر الحر، أو ما يسمى اليوم قصيدة النثر، وهي تسمية تنطوي على قدر كبير من التناقض الدلالي والمنطقي، الأمر الذي يربك نسق ثقافتنا العربية التي نهلنا منها، والتي ترى الموزون شعراً وكل ما عداه نثراً. تلك النقطة التي كانت تؤرقني هي الموسيقا. إذن كان علي أن أستقصي ما يقدمه النقد والدراسات بشأن أوزان الشعر و موسيقاه والإيقاع، وما تعنيه الموسيقا الداخلية حروفاً وتراكيب وتوزيع أشطر وتضاداً وتدويراً ومعماراً وتدرُّجاً في أطوال الجُمل وحتى في تناسبات وإيقاعات البياض والسواد على صدر الصفحة. كما حاولت استقصاء العلاقة بين المقامات الموسيقية والميلودي والتقاسيم، إلى أن وجدت نفسي مهيأ للتعاطي مع القصيدة، حين تحضر، على النحو الذي تحضر فيه. ثمة مواضيع وثمة أبنية لها إملاءاتها. ما أكتبه من قصائد نثر لا يمتلك عندي قابلية لكتابته على التفعيلة، والعكس صحيح أيضاً. تنبع القصيدة من الداخل ثم تختار مجراها الذي تريد. كل ما أحاوله معها هو مراعاة اقتصاد الجريان بعيداً عن العقبات الخارجية وبأقل ما يمكن من الهدر.

وإذا كانت قصيدة النثر متأبية، حتى الآن، على أية معايير أو روائز ثابتة ومتفق عليها، كما هو الحال مع بعض المعايير المتعلقة بالعمود أو التفعيلة، فإن القارئ المتذوق لا يعدم معيار الحساسية الداخلية في تمييز طبيعة الأثر أو الصدى الذي يتركه النص، ليقول بعدها: هذا شعر أو قريب من الشعر أو لا علاقة له بالشعر. بالنسبة إلي هناك معايير إضافية مستبطنة في كامل تجربتي مع الكتابة الشعرية على اختلاف أنواعها وأشكالها، وهي على أية حال معايير شخصية لا أدعي أنها نهائية أو قابلة للتعميم، ولكنها تمكنني من أن أميز إذا ما كان صاحب القصيدة متمكناً من أدواته الفنية أم لا، وإن كان أحسن استثمارها في قصيدته أم لا، تماماً كما يستطيع الموسيقي أن يميز العازف الحقيقي أو الموهوب من غيره، مهما كان نوع العزف، إيقاعياً أم تقاسيم حرة وارتجالية. التقاسيم هي المكافئ الموسيقي للشعر الحر حيث لا إيقاع سوى ما تعكسه خلجات الداخل الذي تشبَّع بروح كل ما سبقه، فاحتفظ بالروح وتأبّى على القوالب.

ولكن المفارقة المحزنة أن عدداً ليس قليلاً من شعراء “قصيدة النثر”، ممن لديهم عدة مجموعات شعرية مطبوعة، لا يدركون الأصول ولا الفوارق بين “قصيدة النثر” وقصيدة التفعيلة، فتراهم يزوِّقون قصائدهم النثرية ببعض القوافي السجعية!

بعد عقود على تسمية “الشعر الحر أو الحديث” للدلالة على شعر التفعيلة، وعقود على تسمية “قصيدة النثر”، وقبل ذلك تسمية “الشعر الكلاسيكي أو التقليدي”، أما آن لنا أن نتوافق على تسميات أقرب إلى بُناها وخصائصها ومضامينها ودلالاتها؟

الشعر التقليدي يمكن أن نجده لدى شعراء العمودي كما لدى شعراء التفعيلة، ولكنّ الذين أطلقوا عليه تسمية “الشعر العمودي” كانوا موفّقين في تلك التسمية التي لها تمايزها ولا تنطوي على أي اختلاطات مع غيرها من التسميات. كما أن الذين كرّسوا تسمية “شعر التفعيلة” أنقذونا مما تنطوي عليه دلالة “الشعر الحر أو الحديث”. بقي أن يتمكن ناقد ما أو حركة نقدية ما من تكريس تسمية “الشعر الحر” بدلاً من التناقضات المنطقية أو الإيهامية التي تنطوي عليها تسمية الشعر المنثور أو القصيدة النثرية. فللشعر ملامح وحقول وللنثر ملامح وحقول وإن كان ليس ممتنعاً أن يستفيد أحدهما من بعض خصائص الآخر.

الكاتب: فرج بيرقدار

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع