في أواخر عام 1975 كنت موفَداً، من قبل وزارة التعليم العالي، لدراسة الإخراج المسرحي في بودابست. مع بدء العطلة الصيفية عام 1976 عدت مع كثير من الطلاب الموفدين لنقضي العطلة في ربوع “الوطن” بين أهلنا وأصدقائنا.
مع نهاية العطلة، عاد جميع الطلبة إلى بودابست باستثنائي، إذ ألغت السلطات إيفادي وساقتني لأداء الخدمة الإلزامية. كان السبب الرئيس هو إدانتي لتدخّل الجيش السوري في لبنان، إثر الحرب الأهلية التي رسمتْ إشارةَ بدئها حادثةُ بوسطة عين الرمانة في 13 نيسان 1975.
في تلك الفترة كنت أحد المحرضين والموقعين على عريضة أرسلناها إلى القصر الجمهوري، والقيادة القومية لحزب البعث، ووزير الدفاع طلاس. تقول العريضة إن المسؤولين في السفارة تحدثوا مع طلاس حين زار بودابست، وأخبروه بتفاصيل قصة مداهمة السفارة واحتلالها لساعات من قبل شباب لبنانيين وفلسطينيين، وبالتالي فإن خطورة الوضع تقتضي أن يكون لديهم بضعة مسدسات لحماية السفارة وأنفسهم. وهكذا تحدّث وزير الدفاع السوري إلى وزير الدفاع المجري الذي أوعز بتأمين المطلوب. يبدو أنه لا وزير الدفاع السوري حدد عدد المسدسات، ولا وزير الدفاع المجري سأل عن العدد، وهكذا حين سُئلت السفارة عن حاجتها من المسدسات، كان الرقم المطلوب 80 مسدساً.
علمتُ أنا وبعض الطلبة بتفاصيل القصة من خلال أحد موظفي السفارة السورية، وعلمنا لاحقاً أن السفير والقنصل والملحق الثقافي باعوا المسدسات في النمسا القريبة من بودابست. بعد شهور جاء سفير وقنصل جديدان، وبقي الملحق الثقافي فايز مطلق على رأس عمله، ولأنه هو المسؤول عن شؤون الطلبة فقد قرَّر سحب اسمي من قائمة الطلبة الذين هم تحت إشراف الملحقية الثقافية، الأمر الذي ترتب عليه إلغاء تأجيلي الدراسي وسحبي إلى الخدمة العسكرية.
في تلك الفترة التقيت بكُتّاب شباب من جيلي: وائل السواح، بشير البكر، جميل حتمل، رياض الصالح الحسين، خالد درويش، حسان عزت، فادية لاذقاني وموفق سليمان، وأسسنا نشرة أدبية للشعر والقصة، رسَتْ مع التداول على اسم “الكرّاس الأدبي”. كنا نحن محرريها وطابعيها وموزّعيها، وقد شاركَنا كتّاب آخرون عبر نصوص لا تقبل الصحف والمجلات الرسمية نشرها كقصيدة تل الزعتر لممدوح عدوان، وقصة نار البراءة لمحمود شاهين، وقصيدة لعلي الجندي لا أتذكر اسمها الآن، ولكنها خلقت ضجة في ذلك الحين.
أتذكّر أن الفنانين ألفريد حتمل ويوسف عبدلكي تبرّعا لنا برسم لوحات أغلفة الكرّاس، وأن أول قصيدة نُشِرت لرياض الصالح الحسين كانت في الكراس تحت عنوان “إطلاق”، وربما أول قصيدة لخالد درويش أيضاً.
كنا نبيع الكرّاس بليرة واحدة (وكان ذلك كثيراً – جريدة تشرين كانت بربع ليرة).
كنا كهيئة تحرير نأخذ قرارات النشر بالتصويت، ثم نترك المهمة الصعبة لفادية التي أخذت على عاتقها كتابة المواد بخط يدها، حين لا تتوفّر الآلة الكاتبة، ثم نذهب بالكراس إلى مكاتب الخدمات الجامعية، ونطبعه باعتباره “أُملية جامعية”.
أخذ الكرّاس صدى طيباً في أوساط الطلبة في جامعة دمشق. ولكن بعد صدور ثمانية أعداد اعتقلت المخابرات الشاعرين رياض الصالح الحسين وخالد درويش لبضعة أيام، إلى أن اتضح أن رياض لا يسمع، وأن خالد لا يعرف شيئاً عن أمور طباعة الكرّاس، فأفرجوا عنهما. رغم ذلك أصدرنا العدد التاسع من الكراس، وكان الأخير، لأني بعده تعرّضت للاعتقال وانقطعت أخباري.
ذلك هو أوّل اعتقال أتعرّض له، وقد كان مترافقاً مع الاستفتاء الثاني على رئاسة حافظ الأسد عام 1978.
قبل الاستفتاء بيوم، دعا قائد الكتيبة التي أتبع لها إلى اجتماع العناصر في الساحة العامة القريبة من مكتبه.
كل ما في هيئة وملامح وتصرّف قائد الكتيبة كان يوحي لي أنه ضابط نازيّ. كانت أساريره تتهلل فرحاً وتربّصاً وهو يشرح لنا كيف سنأتي غداً، لنصطفّ بالتسلسل وفق القِدَم العسكري لكلِّ منا، وبعدها سينزل كل واحد منا بورقته الانتخابية إلى الغرفة السرية، ليسجّل هناك رأيه بالإشارة إلى الدائرة الخضراء التي تعني نعم للرئيس، أو إلى الدائرة الحمراء التي تعني عدم الموافقة، وبعد ذلك على كل واحد منا أن يضع الورقة الانتخابية داخل أحد المغلّفات الموجودة قرب الصندوق، ثم يضع المغلّف داخل الصندوق ويعود إلى ساحة الاجتماع.
لا أدري إن كان قائد الكتيبة يسهب في خطابه وفي تكرار التفاصيل لاعتقاده أن استيعابنا ضعيف أم لأنه مجنون عظمة.
سألني أحد العساكر: ماذا ستكتب في الورقة غداً أستاذ فرج؟
ضحكتُ كثيراً على كلمة أستاذ، ثم قلت له: هل تعلم أن كلمة أستاذ في الجيش تعني شتيمة.
قال: دعك من الجيش.. أنت بالنسبة لي أستاذ عن جد، فماذا ستقول غداً؟
كنت أعرف أن الرجل يثق بي، وخفت أن أورِّطه في أمر فوق طاقته، فأجبته: لا يجوز أن تسأل أحداً عن مثل هذا الأمر. كل واحد ينتخب ما تمليه عليه مصلحته وقناعاته، وإن شئت ضميره.
شعرتُ كأني ورّطته في موضوع أكثر تعقيداً، ولكن ما الذي كان عليّ أن أفعل؟
في اليوم التالي للاستفتاء أذاعوا اسمي مع ثلاثة آخرين من أجل التوجّه إلى مكتب قائد الكتيبة.
قدّرت أن الأمر متعلّق بالتصويت بـ “لا” في الاستفتاء. ولكن كيف يمكنهم كشف من قال لا ممن قال نعم خلال هذا الزمن القصير؟
أنا حين نادوا على اسمي البارحة وأعطوني ورقة الاستفتاء، أمسكتها بين الإصبع الوسطى والسبّابة لكي لا أترك أي بصمة تدلّ عليّ.
وحين دخلت إلى الغرفة السرّية للتصويت، ورأيت أمامي الصندوق السرّي الذي سأضع فيه الورقة، دقّقت جيداً إن كان هناك أيّ شقّ أو ثقب أو كاميرا مراقبة، وكان كل شيء عادياً ولا شيء يحول دون أن أسجّل على ورقة الاستفتاء “لا” أنيقة نظيفة صادقة وتحترم نفسها.
أحاط بي وبالثلاثة الآخرين حرَسٌ مدجّجون بالأسلحة والذخائر، وساقونا إلى شاحنة عسكرية من نوع “زيل” روسية.