شهدنا في السنوات الخمس الماضية نشوء عدد من المبادرات في مدن عربية هدفت إلى تسليط الضوء على تجارب الاشخاص اللامعياريين، مستخدمة السينما والأفلام كوسيلة، ولنقل قصص من يعيشون توجهات جندرية وجنسية مختلفة خارج ما هو معياري و”مقبول” في المجتمعات العربية. ففي عام ٢٠١٥ أطلقت “أصوات-المركز النسوي للحريات الجنسية والجندرية” مهرجان “كوز” للأفلام الكويرية في مدينة حيفا، وفي عام ٢٠١٨ نظم مهرجان “موجودين” في تونس من قبل جمعية “موجودين”. في عام ٢٠١٩ نظم عدد من الناشطين والمؤسسات الحقوقية مهرجان “سينما الفؤاد” في مدينة بيروت. ومؤخراً بادر كل من “سينما الفؤاد” و”موجودين” بالتعاون مع منصة “جيم” للإنتاج حول الجنس والجنسانية برنامجاً مجانياً عبر موقع “أفلامنا” والذي قدم ٦ أفلام كويرية خلال شهر الفخر ٢٠٢٠.
هذه المبادرات هي وليدة جهود الناشطينات والجمعيات التي التي عملت في المنطقة خلال العقد الماضي في مجال الحقوق الجنسية والجندرية في هذه البلدان، والتي باعتقادي مهدت الطريق لمثل هذه المبادرات وغيرها التي باتت أكثر جرأة وصراحة في طرح مواضيع الجنسانية والجندر. هنالك الكثير من النقد حول عمل الجمعيات وعلى ممارسات بعض من الناشطين، وهذا موضوع واسع يحتاج مقالاً بحد ذاته، ومع هذا لا يمكن الحديث عن نشوء مهرجانات الأفلام الكويرية بمعزل عن الإنجازات التي حققها الناشطون والمؤسسات في كل من فلسطين ولبنان وتونس، إن كان على صعيد مأسسة النضال والنشاط وحتى تغيير القوانين الشخصية وتحصيل الحقوق كما حدث في لبنان وتونس.
إضافة إلى ذلك، فقد بتنا في زمن لا يتيح تجاهل موضوع الهويات الجنسية والجندرية، خاصة في عصر السوشيال ميديا وتوفر كم كبير من المعلومات والمنصات المفتوحة لنشر الوعي حول قضايا الجنس والجدر مثل “جيم و”سينمجي” و”ويكي جندر بالعربية” وغيرها، وكثرة البرامج تلفزيونية الشعبية التي باتت تطرح موضوع الجنسانية والجندر وإن لم يكن بالشكل الذي نأمله كناشطاتين، فانتقلنا من حالة النكران “المثلية غير موجودة في مجتمعاتنا” إلى استضافة أشخاص لا معياريين في البرامج الحوارية والوثائقيات. هذه الخطوة وإن كانت متواضعة، تدل على إمكانية تغيير توجهات المجتمع من قضايا الجنسانية والجندر.
وتتشابه مهرجانات الأفلام الكويرية المذكورة في طرحها والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها من خلال عرضها للأفلام الكويرية وفي تبنيها التوجه الكويري، ويكمن أبرزها في الحاجة إلى فتح الحوار مع المجتمع وتناول قضايا الجندر والجنسانية وإتاحة مساحة لمخرجات/ين شباب عرب بعرض أفلامهم الكويرية أمام جمهور عربي. وفي الوقت ذاته هنالك اختلافات، إذ أن كل مهرجان ينظم ضمن سياق اجتماعي وسياسي وقانوني واقتصادي مختلف، مما يفرض هوامش عمل ونشاطات مختلفة، على باب المثال وليس الحصر فإن مهرجان “موجودين” قدم كمهرجان سري وتحت أرضي في الصحافة، بينما كان كل من “سينما الفؤاد” و”كوز” مهرجانين علنيين. كذلك اختيار صبغة الكويرية لوصف المهرجانات لها دلالات وأبعاد سياسية واجتماعية. فما هي السينما الكويرية إذن؟
سينما كويرية
ظهر مصطلح سينما كويرية بشكل رسمي عام ١٩٩٢. هذا لا يعني أنه لم يكن هنالك أفلام سابقة طرحت مواضيع الجندر والجنسانية، ولكن مع صعود النظرية الكويرية وتبنيها من قبل عدد كبير من الناشطين إلى جانب النسوية الراديكالية ومخرجين/لا قدموا المواضيع الكويرية بجرأة، كان هنالك حاجة في تسمية الموجة السينمائية الجديدة، وتعود التسمية إلى نظرية الكوير، وهو مصطلح، بحسب ويكي جندر، يشير إلى الأقليات الجنسية والجندرية المختلفة غير المغايرة الجنسية. ويعني اللفظ ذاته في الأصل كل ما هو”غريب” أو “مختلف”، إلا أن تم استخدامه بعد ذلك للتعبير عن كل ما هو خارج عن المألوف والمهيمن. كما ظهر لقب كوير كبديل راديكالي للمختلفين جنسيًا، كجزء من المشروع السياسي الغربي، ويكثر استخدامه عالميًا الآن. في الوقت الحالي، يُعد استخدام لفظة “كوير” من أصحاب الميول الجنسية المختلفة جزءًا من عملية استرداد واسترجاع قوة هذه اللفظة من أنظمة القهر، على عكس ما كان يحدث في الماضي حينما كانت تستخدم لذم أو سب لأصحاب الميول الجنسية المختلفة.
تختلف السينما الكويرية عن السينما المثلية جوهريا، فهي أكثر سيولة وشمولاً بما يخص الهويات وتعريف الأشخاص لذاتهم، وكذلك في دراستها لعلاقات القوى الموجودة في المجتمع ومنظورها التقاطعي للهويات والنضالات ضد دوائر القمع. وللنظرية الكويرية تأثير على النظرية النقدية الأدبية والنظرية النسوية وعلى مجال الدراسات ما بعد الكولونيالية والتحليل العرقي والإثنوغرافي. لهذا كان من السهل على المهرجانات في كل من فلسطين وتونس ولبنان، بلاد عانت ولا زالت تعاني من الاستعمار والرجعية الفكرية، أن تتبنى المنظور الكويري والذي يطرح حدودًا أوسع لفهم الجنسانيّة الذي لا يقتصرعلى الهويات والتوجهات اللامعيارية بل يخوض عميقا في الأبعاد السايسيًة والاجتماعية والاقتصادية، وتأثيرها المباشر وغير مباشر، على الحياة الشخصيّة للأفراد في المجتمع، وعلى حياتهم الجنسيّة، وجنسانيتهم، والأدوار والممارسات الجندريّة، وعلى الهويّة الجندريّة.
تجربة “كوز”، لكونه ينظم في ظل الاحتلال، وسياسات وممارسات الأبارتهايد، والنظم الأبوية، والرأسماليّة والعسكريتارية. ولكوني من المبادرين لهذا المهرجان ورافقته منذ بداياته فقد شهدتُ عن قرب التحديات والنجاحات التي مر بها المهرجان خاصة في مشهد سينمائي وثقافي وفني فلسطيني، قلّ ما يلتفت إلى قضايا الجنس والجندر. ومنذ نشأته طرح نفسه كبديلًا لسياسات وممارسات “الغسيل الورديّ” الإسرائيليّة، وفي الوقت يسعى إلى خوض نقاش جريء حول التابوهات الفلسطينيّة فيما يتعلق بالحرّيات والحقوق الجنسيّة.
“كوز” والقصة الفلسطينية
انطلاقا من الإيمان بقدرة السينما والأفلام على تجاوز المحرّمات الاجتماعيّة والحدود الماديّة وباعتبارها أداةً هامّةً للتّعبيرعن الذّات والسرد، وهي تعكس الواقع أحياناً، وأحياناً تفتح أفقاً للمشاهد تمكنه من تخيّل مستقبلٍ بديل، سعى “كوز” إلى تقديم الأفلام العربية والعالمية والفلسطينية، تعنى بالهوية الجنسية والجندرية، واضعاً نصب عينيه هدفين والعمل في “جبهتين” إن صح التعبير، الهدف الأول داخلياً يتحدى منظومات القمع الذكورية والأبوية والدينية ويسعى إلى فتح باب النقاش مع المجتمع الفلسطيني وكسر التابوهات حول الهويات الجندرية والجندر، العمل على رفع الوعي وعلى وتقديم صورة عن الأشخاص اللامعياريين وبعيداً عن الصورة النمطية.
الهدف الثاني هو خلق بديل لسياسات “الغسيل الوردي” الإسرائيلية والاستشراق، والتي تتجلى في معظم الأفلام الإسرائيلية والغربية التي تناولت صورة اللامعياريين العرب والفلسطينيين. فمن خلال إظهاره لوجهات نظر ومفاهيم دقيقة ومفهومة من داخل فلسطين والمنطقة، ومن حركات المقاومة الكويريّة في أرجاء العالم، يعمل “كوز” على تسليط الضوء على دور مقاومة الحركة الكويريّة الفلسطينيّة في نضالها من أجل الحريّة الجنسيّة والتحرّر الوطنيّ في تبنيه لطرح خطاب شمولي تقاطعي ونسوي. ويكمن التحدي في أصغر الأمور مثل إقرار “ثيمة” للمهرجان واختيار الأفلام بعناية وتنظيم النشاطات المرافقة كالندوات وحلقات النقاش وغيرها، في اختيار الشركاء والتمثيل دون الوقوع في فخ التطبيع والاستشراق الذاتي وأحيانا الذكورية المبطنة، والإدراك الدائم للاشكاليات المختلفة التي تكمن في عرض فيلم معين أو تنظيم نشاط عيني وما هي الطريقة الأنسب لتخطي هذه الإشكاليات دون الدخول في خانة الإقصاء والرقابة.
مثالاً على مثل هذه التخبطات كان في فيلم “بر بحر” لميسلون حمود، والذي يروي قصة ثلاث نساء فلسطينيات يعشن في تل أبيب ويقدم شخصيات كويرية يمكن القول إنها أصيلة، ولكن في ذات الوقت، الفيلم عُرّف كفيلم إسرائيلي ومن تمويل إسرائيلي كامل، وكان التخبط أن كان “كوز” المنصة الملائمة لعرض الفيلم وإن كان الجواب نعم فبأي صيغة يعرض؟ وهل سيؤثر عرضنا للفيلم على علاقاتنا مع حلفائنا في الدول العربية؟ في النهاية لم يتم عرض “بر بحر” ضمن مهرجان “كوز” مع دعم البعض واستهجان الآخرين وما هذا إلا جزء بسيط من التحديات التي تقف في وجه تنظيم مهرجان كويري في فلسطيني.
إلى جانب التحديات، كانت هنالك نجاحات، فمن البدايات شبه الخجولة لـ”كوز” الذي أخذ من الحانات والمساحات البديلة في مدينة حيفا منصة، انتقل المهرجان إلى “مسرح خشبة” فضاءً يتيح فرصة استقطاب جمهور أوسع لا يقتصر على الأشخاص اللامعياريين بل على حلفائهم والمناصرين لحقوق الجنسية والجندرية. وقد نجح كوز بالفعل في رفع السقف بما يخص الحديث والمرئية لمواضيع الجنسانية والجندر في وسائل الإعلام حيث حظي بتغطية كبيرة وغير مسبوقة في جريدة “حيفا” والقنوات الفضائية المحلية والمواقع الإخبارية والثقافية الإقليمية. كما ومثلت الشراكة مع “مهرجان حيفا المستقل للأفلام” نقطة مفصلية ساهمت في توسيع حلقة الجمهور وكشف الجمهور الفلسطيني وصناع الأفلام الفلسطينيين على السينما الكويرية والتشديد على أهمية تبني المشهد السينمائي الفلسطيني للمواضيع الجندر والجنسانية.
إن الطريق ما زالت طويلة، وإنه من المبكر الحديث عن سينما كويرية فلسطينية أو مشهد سينما كويرية عربية، إذ ما زالت تنقصنا التراكمية والزخم في الإنتاج، خاصة في الحالة الفلسطينية ذات الموارد التمويلية الشحيحة، يقول صالح ذباح في مقالته “سرديات متعثرة – السينما الفلسطينية بعدسات كويرية”: “تبدو السينما التي ي/تصنعها الفلسطينيون/ات غائبة إلى حد كبير عن تقديم تمثّلات جريئة، تتماشى مع التصوّرات التقدّمية المتعلّقة بالجانب الجندريّ والنفَس الكويري في الفنون الأخرى، وقد تكون لهذا أسباب كثيرة مرتبطة بطبيعة وكُلفة الإنتاج السينمائي وتعقيداته في فلسطين، وشحّ الموارد والتمويل الذين لن يخاطر بها أي صانع/ة أفلام لتقديم طرح قد يصدم المتلقّين ويربك المنتجين، تحديدًا إن كانت المقولة الكويريّة سياسيّة وليست فقط تجارة بالقضايا الجندريّة.”
في حديثي عن “كوز” تستحضرني دائماً صورة من الانتفاضة الثانية لطفل بيده حجر يلقي به على دبابة إسرائيلية، كيف لمهرجان متواضع وشبه مستقل أن يقف في وجه عجلة “الغسيل الوردي”، وأخيراً التطبيع الإماراتي أحد أهم مصادر التمويل الثقافي عربياً؟ هل سينجح كوز ومثليه في العالم العربي في مهمّة إقناع صانعي الأفلام الفلسطينيين والكويريين بأهمية إنتاج أفلامٍ تعكس التجارب الفريدة للكويريين الفلسطينيين والعرب كفعل تحرري ومقاوم؟