هل يكفي أن نربط بين الكويرية وما تتعرض له في عالمنا -العربي على الأقل- وبين أنماط العنف الناتجة عن موقع السلطة وأنماط الهيمنة، بشكلٍ عام؟
في مقاربتنا هنا نسترشد، أو نتحسس بدايةً، بالمعنى المادي الجسدي في مخاطباتنا لدواخلنا الذاتية وذواتنا الاجتماعية، أدبيات الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو عن الجنس والجنسانية، لكن دون أن نتفق معها، بالعموم، كما جرت العادة في التعامل مع موضوعة الجنس والجنسانية من مبدأ فوكوي.
ففوكو هو الذي قال إن الجنس لا يمكن مقاربته باعتباره أرضية “حقيقية” (بيولوجية/طبيعية)، مفهومة ضمنًا، لتفسير كل أشكال التداعيات البنيوية التي نعلق عليها ممارساتنا الخطابية والثقافية، والاجتماعية والسلوكية، الناتجة عن نظرتنا للاختلافات الجنسانية والجنسية، وكأن لها تفسير بيولوجي عضوي يحمل الإجابة الثابتة، والكويرية نموذجًا لهذه الاعتباطية. فالجنس بالنسبة له، كبداية، ومعطى، وأساس، للذاتية والتناغم الثقافي هو منتج اجتماعي – خطابي للمنظومة الجنسانية، وليس تفسير متجاوزًا للمجتمع والثقافة.
تضيف جوديث باتلر لثنائية فوكو الشهيرة “جنس وجنسانية”، مصطلح “الجندر”، لكنها تموضع تلك العلاقة بشكلٍ مغاير قليلًا، فهي تطرح الأدائية، Performance، باعتبارها مرحلة وسيطة بين الجنس والجندر. المفارقة أن الأدائية، بما فيها من فاعلية تبادلية بين أطراف العلاقة، بما يتجاوز ثنائية فوكو، جعلت من الجندر بشكله النمطي غير قادر على تفسير كامل المشهد الاجتماعي وترتيباته، وسياقاته المتراكبة، وتنويعاته، بالشكل الكثيف الذي نحياه الآن، في كل مساحاتنا وفضاءاتنا اليومية المعاشة، والتي تتكثف بكل انهيار يحدث حولنا وفينا للسرديات الكبرى، التي دفعنا الكثير من أثمانها على جلودنا جميعًا.
تقول باتلر: “الفكرة التي تقول بوجود “حقيقة” للجنس، كما يسميها فوكو، وياللسخرية، هي نتاج حتمي لممارسات التنظيم والضبط الخطابي المسؤولة عن إنتاج هويات متماسكة، من خلال شبكة المنظومات الجندرية. فالغيرية الجنسانية في ما يتعلق بالرغبة تستلزم وتمأسس عملية إنتاج ثنائية: مذكر ومؤنث، باعتبارهما تمثلات حصرية وحقيقة لثنائية ذكر وأنثى. بينما مصفوفة العلاقات والمعاني الثقافية التي من خلالها تُنتج الهوية الجندرية، تفرض وجود أشكال من “الهوية/هوياتية” لا يمكن لها أن “تكون” بهذا التمام”. (ترجمة الكاتب)
هنا قصدت باتلر الأداء، لا بمعناه اللغوي فقط!
لكن هل يمكننا مقاربة مفهوم الأداء من دون جسد متحرك، في مساحة المعنى وضمن شبكة القوى ومنظومات التصنيف والمعاني فيها؟
إذا كان الأداء بالأساس ممارسة لغوية بين النحوي والاستعاري/المجازي، هل يمكننا فعل ذلك من دون أجسادنا، ولا نعني بالجسد الكتلة العضوية/الفيزيولوجية فقط، بل امتدادات الجسد الرمزية والمادية، وأولها الحركة؟
قبل سنوات شاركت في ورشة معمارية/عمرانية عن موضوعة الفضاءات المجندرة في مدينة القاهرة، وكانت المقاربة والمقارنة الميدانية التحليلية الأساسية بين فضائين حينها، وهما فضاءان، على مستوى الخطاب والمعنى -بالمدى التاريخي والخطابي السلطوي- مذكران: جامع السلطان حسن (الصورة 1)، ومسجد ابن طولون (الصورة 2) التاريخيان، في الجزء التاريخي من القاهرة القديمة.
كان الأول فضاءً مؤنثًا برسم تأويلٍ يسترشد بالجسد الأنثوي، متماهيًا مع رحلة الحمل والولادة والجسدانية المؤنثة، يبدأ من موقع العضو التناسلي الأنثوي مدخلًا لتصنيف المعنى، وترسيم ممكناته وتحديد مداه. بكل خطوة يمشيها فيها الزائر والزائرة في المسجد، بداية من المدخل، المظلم العالي السقف، وكأنه الرحم، وصولًا في مسارات مظلمة جسدانية، إلى لحظة الولادة في دخول/ولوج/خروج الصحن، حيث الحياة والضوء وتعددية العوالم حول الوليد/ الزائر.
قد تبدو فرادة هذا التأويل في كسر ذكورية المكان بأنثوية التأويل، لكنه تأويل، من حيث يدري أو لا يدري يموقع ثنائية الجسد الجندري.
أما مسجد ابن طولون (الصورة 2)، والذي ارتبط اسمه بالفتوحات والحروب، فكان فضاءً ذكوريًا قضيبيًا بامتياز، ينبني على مركزية الأنا وأبويتها، وآخرية طرفية خاضعة ومحكومة، ليست أكثر من تعددات للأنا المركزية الأبوية. ويتضح جليًا في تصميم المكان والفضاء العمراني من حيث المركز المعنوي وأسوار الأعمدة التي تشابه الجند في حماية الأنا. تلك الأنا – المسجد التي يقع مدخلها على ارتفاع يرتبط بتصميم الحصون والقلاع، ببنيتها العسكرية المهووسة والمعتمدة عضويًا على سيطرة على الأجساد.
لم تعد الثنائيات قادرة على تفسير أماكننا ومنظومة المعاني الواقعة علينا فيها، لم يعد جامع السلطان حسن فضاءً ذكوريًا فقط، ولا معسكر أو مسجد ابن طولون كذلك، فقد فككتهما حركة الأجساد فيهما، بما يخرج عن ثنائية الذكر والأنثى.
لم تعد تلك المقاربة الثنائية قادرة على الإجابة عن بنية المكان/الفضاء، وحيزيته الجندرية، على مستوى الخطاب، ولا على المستوى البنية والأداء حتى!
بالعودة إلى باتلر، نجدها تخبرنا: “الجندر هو شكل جسدي، فعل. وهو قصدي وأدائي معًا، فالأخير يقترح بناءً طارئًا على بنية المعنى، بما يغيره”
وكأن منظومة المعاني تلك بمرورنا من خلالها فهي تمارس علينا ونمارس في المقابل أشكالًا أدائية تداولية، مفتاحها الجسد ومفاتيحه المتعدد فينا هوياتيًا على مستوى الفكرة والخطاب والأداء، أي بشكلٍ ما طرسًا من طروس كتابة الذات والمكان بالجسد والحركة فيه.
والأهم مستوى الفاعلية الذاتية بأجسادنا في المكان!
فموقعنا المتغير، بالحركة والجسد، من/في المكان هو جزء من نسيجه ومقولته الفراغية، ولعل فضاءً ثالثًا ينبثق من المسافة البينية تلك يحوينا ويحويه معًا، يجعل الفضاء، أي فضاء، فضاءً مخاتلًا، Perverse Space.
المقاربة المكانية للكويرية، Queer، هنا، وإن كانت جندرية في أساسها، لا تتوخى الجندرية كموقع، بل كمساحة حركة وجسد، وتركيب استعاري أدائي.
لا ينتهي الأمر هنا، ثمة حفر آخر على/في الجسد قام به جيل دولوز وفيليكس غوتاري، برسم التساؤل عن الفضاء الثالث الذي يجمع بين ماهية الجسد وممكناته. فدولوز بداية وفي حفرياته في فلسفة نيتشه، يؤكد أن الأخير فضل التأثير والقوة والطاقة والدافعية على العمق والجوانية والسيكولوجيا. فنيتشه لم يكتف بجسدنة المعرفة، لكنه أيضًا أسس لمبدأ أفضلية الفلسفة والنظرية والمعرفة إن كانت مفهومة ضمن الحركة والفعل والإنتاج الجسدي.
وتلك المقاربة تلزمنا في فهم أو إنتاج فضاء ثالث متعلق بمتخيلات أساسية كلحظة خروج آدم وحواء من الجنة، كما صورها توماسو ماساجيو (صورة رقم 3)، وتأمل دلالات الأجساد وجوانياتها، وموقع معرفة آدم السيكولوجية ومعرفة حواء الجسدية، برغم وضوح الأدوار الجندرية السلطوية.
بالحفر أعمق في المواقع التي يطرحها نيتشه ودولوز، نجد طرح الأخير لموقع الذات الفاعلة والمنفعلة في فلسفة الأول. يربط دولوز الرغبة في الهيمنة ببنائية القوى والسلطات على الجسد الفردي والاجتماعي، ويطرح أن كلا القوى الفاعلة والمنفعلة تساهم في تشكيل الرغبة في الهيمنة. وهذا ما يفسر نموذجنا المتخيل سينمائيًا في متوالية رمزية وجندرية هي أفلام كينج كونج، والتي يعدها مايك دافز علاقة رأسي ثنائية لا تسمح بأي شكل من أشكال التداول بين أنماط مهيمنة تتجسد كلها في ذكورة كينج كونج وحيوانيته وتفوقه على النسيج المكاني المديني الذي يتواطأ معه بدرجة أو بأخرى، وتوضح ذلك أكثر على المستوى الجندري ميغان موريس في بحثها المعنون:
Great Moments in Social Climbing : King Kong and the Human Fly
لعل كل ما سبق لا يجيب عن سؤال الكويرية من مدخل مكاني وجسدي، لكنه على الأقل يوضح البنية المنظمة للقوى التي تحدد ما المكان كسردية مادية ورمزية واستعارية، وفضاءاتنا الجسدية وأثمان الحركة بها/فيها لأغراض تفكيك بنية المكان الجندرية، باعتبارها أشكالًا أدائية.
هذا ما هدد سلطات المعنى حين تحركت أجسادنا لتفكك بنية الفضاءات الذكورية المقدسة، وتحرر الله (لفظة الله غير مجندرة، يحاصرها 99 اسمًا فاعلًا مذكرًا حصرًا، تسيطر على إدراكاتنا له)، ومن استلم ظله باسم الوطن والجسد وغيره.
تُنشر هذه الدراسة قريباً في كتاب يتناول الموضوع بتفصيل أكبر.