التنويع المُعتَمَد في اختيار أفلامٍ عربية، في الدورة السابعة (20 ـ 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2020) لـ”أيام فلسطين السينمائية”، يُتيح تواصلاً سينمائياً بين صناعة ووقائع واشتغالات، ومُشاهدين راغبين في اطّلاع مختلف على أحوالٍ وتاريخ وحالات وانفعالات وذاكرة.
9 أفلام عربية تقول تفاصيل عيشٍ في بلادٍ مفتوحة على اضطرابات وقلاقل ومواجع ومتغيرات، والقول مُنزّهٌ ـ بغالبيّة أشكال الأفلام تلك وعناوينها ومضامينها وآليات اشتغالاتها ومقارباتها ـ عن كلِّ ندبٍ وبكائيات، لتوغّله في وقائع وأحاسيس. الوثائقيّ يستند على أرشيف مُصوِّر ومُسجَّل، فينطلق منه إلى الأعمق في ذاتٍ وروحٍ وجماعة؛ والروائيّ مصنوعٌ بتوثيقٍ يتحرّر منه سريعاً، كي يبني حكايته على سرديّات، تبوح بها صُوَر (سينمائية بمعظمها)، وتعابير وأداء وتقنياتٍ.
حكايات فردية
اختبارٌ جديد يُفترض به أنْ يبلور، أكثر فأكثر، علاقة مُشاهدٍ عربيّ بأفلامٍ عربيّة، مُنتجة عام 2019 (باستثناء “صيف غير عادي” للفلسطيني كمال الجعفري، المُنتج عام 2020). لكنّ تاريخ الإنتاج تقنيّ بحت، فالحكايات، واشتغالاتها الفنية والدرامية والجمالية، سابقةٌ عليه، رغم “تورّطها” الجماليّ براهنٍ وذاكرة. الذاتيّ فيهما (الراهن والذاكرة) مُشغِّلٌ أساسيّ، إذْ منه تُروى تفاصيل، ويُكشَف مُبطّن، وتُضَاء ـ بفضله ـ هواجس ورغبات. بينما الحكاية العامّة البحتة، كما في “بيروت المحطّة الأخيرة” للّبناني إيلي كمال مثلاً، ترتبط بالذاتيّ، وإنْ خارج الانهماك الصرف بالموضوع، إذْ يتجلّى الذاتيّ في علاقة قديمة بين المخرج وحكايته. بينما “الحديث عن الأشجار”، للسوداني صهيب قاسم البادي، يسرد حكاية سينما وصالات في بلدٍ مُنهكٍ بديكتاتوريات وحروب ومجاعات، فيجعل الذاتيّ مفتاحاً أساسياً لاستعادة ماضٍ، ولفهمه وعيش مناخه من خلال تواصلٍ آنيّ حيّ مع شهود الماضي وصانعيه. و”صيف غير عادي” يُخرج تسجيلاتٍ مُصوّرة من خزانة أبٍ راحلٍ، فيبني بها ومعها عالماً حياتياً واجتماعياً ومسلكياً، منبثقاً من حيٍّ في مدينةٍ، يخرج من ضيق مساحته إلى تصرّفات بيئة وأحوال جماعة.
غلبة الوثائقيّ في “أيام فلسطين السينمائية 7” (5 من أصل 9 أفلام) يعني أنّ لهذا النمط السينمائيّ حضوراً يتّسع، واشتغالاً سينمائياً يجذب مُتعاً، ويُثير نقاشاً. فإمكانيات القول الوثائقيّ متاحةٌ، لتمكّنه (القول) من أنْ يَعطف المباشَر على مُتخيّل وأرشيفٍ ونبضٍ مُتّصلٍ بلحظة الحكاية، لصُنع مشهدية سينمائية تكشف مخبّأ، وتحرّض على نقاشٍ وحوار. والروائيّ، إذْ يُصنَع من أرشيفٍ شفهيّ غالباً، يتكامل مع وثائقيات يُحصِّن صانعوها بها مرويّات غير مكتوبة، فتصبح الصُور فيها تسجيلاً لحدثٍ أو حالة أو تنبّه أو رغبة أو هاجسٍ أو علاقة.
تختفي الشخصية الرئيسية في “صيف غير عادي”، إذْ تُروى حكايتها بصُوَر تُسجّلها الشخصية الرئيسية الغائبة عن المشهد قبل صُنع الفيلم، وبصدى تلقّيها من ابنٍ (المخرج) يصنع من أرشيفٍ مُكتَشف حديثاً حكاية أبٍ وحيّ وجيرة وعلاقات ومسالك. كما أنّها تختفي أيضاً في “بيروت المحطّة الأخيرة”، رغم حضور مُوارِب ولطيف للمخرج/ الراوي، الذي يسرد تاريخ بلدٍ من خلال قطارات مُعطّلة وسكك حديدية صدئة، فيكون للمخرج/ الشخصية الرئيسية دورٌ في إعادة تشكيل النصّ ومروياته. الشخصية الرئيسية، في الوثائقيات الأخرى، حاضرة بشكلٍ مباشر، إمّا بظهور الممثل السوري فارس الحلو في اللقطات كلّها لـ”حكاية ممثل خرج عن النص” لرامي فرح؛ وإمّا بإعادة ممثلين/ مخرجين (عددهم 4) تأدية أدوارٍ سابقة لهم في التاريخ السينمائي للسودان، أمام كاميرا قاسم البادي؛ وإمّا بحوار المصرية ماريان خوري مع ابنتها سارة، في “احكيلي”، المتحوّل، مع صُوَر آنية وأرشيفية، إلى سردٍ مُعمّق لعائلة وبيئة وصناعة سينمائية وهجراتٍ وأمراضٍ وتحدّيات.
الشخصية الرئيسية غير متمكّنة من التواري في أفلامٍ روائية، تحتاج إليها لقولٍ يجمع البصريّ بالسرديّ، ويُحوِّل وقائع وحكايات إلى متتاليات مشهدية، تجعل المفردات الفنية والتقنية والجمالية ركائز حيّة للمرويّ، وإنْ بتفاوت واضح بين فيلمٍ وآخر، في آليات الاشتغال وكيفية الصناعة والمعاينة. قصص الروائيّ حقيقية، تماماً كتلك المختارة في الوثائقيّات، لكنّها تُروى أحياناً على ألسنة شهودٍ أو أبناء شهودٍ وأحفادٍ لهم. لذا، يمتلك بعض الروائيّ ميزة الوثائقيّ في تحويل الشفهيّ إلى وثيقة سينمائية، بدلاً من بقائها مجرّد حكاية شفهية يأكلها النسيان ذات لحظة. لذا، تُلغي مشاهدة الأفلام العربيّة الـ9 في “أيام فلسطين السينمائية” كلّ حدّ فنيّ بين الوثائقيّ والروائيّ، اللذين يتكاملان معاً في قراءة سِيَر أفرادٍ ينكشفون أمام الجماعة، ويكشفونها في آنٍ واحد.
فالأحداث، المروية في تلك الأفلام كلّها، حقيقية، وبعض مخرجي الأفلام يُعاصرونها أو يعيشونها أو يشهدون عليها، أو يستقون تفاصيلها من مرويّات مختلفة، فيُغربلونها لملاءمتها مع مفرداتٍ سينمائية مطلوبة. والتنقيب في الذاكرة والأرشيف والمرويّات متشابه في أفلامٍ وثائقية وروائية، وهذه الأخيرة مُحتاجة إلى تنقيبٍ يساهم فعلياً في كتابة نصٍّ يُفترض به تقديم المعلومة والحكاية بلغة سينمائية بحتة، لن تبلغها الأفلام كلّها، إذْ تبرز مصاعب مهنيّة أو لوجستية أو فنية تحول دون إعلاء شأن السينما على كلّ ما عداها، فتُصبح الحكاية محور العمل، من دون أي شيء آخر، وهذا حاصلٌ في الروائي اللبناني “1982” لوليد مونّس، والوثائقي السوري “فارس الحلو.. حكاية ممثل خرج عن النص”.
السرديّ.. وثائقياً وروائياً
غلبة النص على الاشتغال السينمائيّ لن يحول دون إبراز أهمية الأول. فحكاية وليد مونّس تستعيد حقبة مريرة من تاريخ لبنان، زمن حربه الأهلية (1975 ـ 1990)، وتحديداً عشية الاجتياح الإسرائيلي (1982)، من خلال قصّة حبّ جميلة ومتواضعة بين مراهِقَين في مدرسةٍ، قبيل تعرّض البلد للاجتياح المشؤوم. وحكاية رامي فرح توثِّق، صوتاً وصورة ومتابعة دقيقة لأبرز مفاصل السيرة الذاتية للممثل الخارج عن النصّ، فصلاً من تاريخ الثورة السورية، والمواجهة الشعبية العفوية والمدنية والسلمية لنظامٍ أسديّ قاتل، قبل تحويلها إلى حربٍ دموية طاحنة. والسيرة تلك تجمع بين الذاتيّ الخاص بالحلو واشتغالاته السابقة على بداية الثورة السورية (18 مارس/ آذار 2011)، وتُرافقه في رحلة القلق، ومنفى المواجع والتمزّقات.
في المقابل، يستند الجعفري وكمال على أرشيف محمَّل بكمّ هائلٍ من الحكايات والتفاصيل المخبّأة فيه، إنْ يكن الأرشيف شخصياً (صيف غير عادي) أو عاماً (بيروت المحطّة الأخيرة)، مُحوّلاً إياه إلى سردية تُعنى بتاريخ وانفعال وتحوّلات. فالجعفري، بعثوره على أرشيفٍ مسجَّل من زاوية واحدة، تكشف مساحة محدّدة أمام المنزل العائلي، يُتيح للتوليف مهمّة صُنع فيلمٍ متكامل، يُلغي كلّ حدّ ممكن بين الذاتيّ والعام، في بيئة اجتماعية وجغرافية وثقافية خاصّة. وكمال ـ ببحثه في تاريخ السكك الحديدية اللبنانية، السابق تأسيسها على ولادة “دولة لبنان الكبير” (1920) ـ يخوض تجربة سينمائية بصرية وجمالية وفنية ودرامية، تتمثّل بكيفية جعل الوثيقة الجامدة صُوراً حيّة تنبض بأقوالٍ وأحوالٍ وتغييراتٍ وملامح ومسارات.
إلى ذلك، فإنّ المرويّات الشفهية تصنع لُبّ حكاية نجوى نجّار، في “بين الجنّة والأرض”، وتتّخذ من وقائع المهانة والتسلّط والفوضى والعنف والجريمة والتناقضات المعيشية، كصُور عن وقائع يومية في زمنٍ حديثٍ، مفردات تعبير مُصاغة بسردٍ حكائيّ يُعلي من شأن الصورة في القول، ويضع التمثيل في واجهة المشهد، فيتكامل التمثيل مع الصُور في رسم معالم مختلفة، تعاني خراباً وموتاً وارتباكاً وصدامات، كما في “شارع حيفا” لمهنّد حيال. وإذْ تطغى أسطورة الموت الباكر، في “ستموت في العشرين” للسوداني أمجد أبو العلاء، فإنّ يوميات الغربة في الذات والداخل والبيئة تتمكّن من كتابة فصلٍ إنسانيّ مشحونٍ بذاكرة سينمائية وحياتية، تواجِه راهناً معقّداً ومحطّماً.
متغيّرات
برمجة القسم العربيّ في “أيام فلسطين السينمائية 7” مُثيرة لمُشاهدةٍ ممتعة، ولنقاشٍ يُفترض به أنْ يُفكِّك أحوالاً ضاغطة، وأنْ يحوِّل الضاغطَ إلى متتاليات بصرية، تسرد مقتطفات من العيش اليومي في عالمٍ عربيّ يعاني أهوال التبدّل العميق لمجريات التاريخ والجغرافيا والاجتماع. أما الاكتفاء بفيلمين فلسطينيين (“بين الجنّة والأرض” و”صيف غير عادي”)، فيعكس بحثاً في ذاكرتين جماعية وفردية، تلتقيان في مسافة مشتركة بين التاريخ والصُورة والحكاية، رغم اختلاف الترجمة السينمائية لكلّ واحدة منهما عن الأخرى.
وإذْ يتساوى لبنان والسودان وفلسطين بفيلمين اثنين لكلّ منها (تكمن المفارقة في أنّ لكلّ بيئة من تلك البيئات الـ3 فيلماً وثائقياً وفيلماً روائياً، يعكس كلّ واحد منهما مسام اجتماع ونبض حياة وتفاصيل ذاكرة، مع التنبّه إلى اختلافٍ سينمائي واضح في الاشتغالات كلّها)، فإنّ للعراق وسورية ومصر حضوراً متساوياً في العدد، ونبرةً سينمائية غير متشابهة، فنياً وتقنياً وثقافياً وجمالياً، بقدر ما تتشابه ـ مع الأفلام الأخرى ـ في تأكيد مسألتين اثنتين: حيوية الإنتاج السابق على أزمة كورونا، المندلعة في العالم منذ بداية العام الجاري (2020)؛ و”تفوّق” الوثائقيّ في مقارباته الفنية والجمالية والثقافية والأخلاقية أحوال بيئات وأفراد، على نتاجٍ روائيّ لن يتراجع كثيراً عن الوثائقيّ، لكنّه يبقى على مسافةٍ منه.