سؤال بعد سؤال، وانسداح بعد آخر ثم خيزرانة بعد أخرى إلى أن انتقلت الأسئلة لتتركّز على الكرّاس الأدبي ومن وراءه وكيف وأين نطبعه.
لديّ إجابات منطقية لا تؤذي أحداً، ولكن ذلك لم يشفع لي ولم يخفِّف عني.
سمعت كثيراً عن أساليب تعذيب السياسيين لدى أجهزة المخابرات، ولكن لا شيء مما سمعت يقارب ما أتعرّض له. سمعت بـ “الدولاب” الذي يحشرون فيه رأس السجين وقدميه، ثم يقلبونه على ظهره ويبدأ الجلد على باطن القدمين. في المخابرات الجوية لا يوجد “دواليب”. هناك عمود أو قضيب حديدي فيه نتوءات مثل نقاط “لحام”، وهناك حزمة خيوط حريرية مشدودة إلى طرفي العمود. يُدخلون قدمي السجين بين العمود الحديدي وحزمة خيطان الحرير، ثم يقوم سجانان بإمساك العمود من طرفيه وفتله بإحكام إلى أن تحزّ الخيوط الحريرية في كاحلي القدمين، وبعدها يبدأ الضرب بالخيزرانات وليس بالسياط.
هناك مقاسات متباينة للخيزرانات، ولكن أخطرها الخيزرانة الرفيعة، لأن ضربتها تفلع الجلد واللحم كما لو أنها ضربة سكين.
كنت أشعر بخوف شديد من أن أضعف وأعترف على المكتبة التي كنا ننسخ فيها الكرّاس. أيّ عار سيجللني لو ورّطت صاحب المكتبة في قصة لا يعرف عنها شيئاً، فقد كنا ننجز الأمر بدون علمه.
بعد كل جولة تحقيق مع علي مملوك، بعينيه السوداوين اللتين تنفتحان على أقصاهما وهو يحدِّق بي كما لو أنه ينوي افتراسي، كان يأتي دور الملازم أول جميل حسن لعله ينتزع مني بتلاطفه ما لم يستطع انتزاعه علي مملوك باستشراسه.
اللعبة صارت مكشوفة لي، وللأسف أني لا أستطيع أن أبصق في وجهيهما. قد تكلفني البصقة حياتي.. بل قد أخسر حياتي بدون البصقة حتى.
ملعونة هذه الدنيا، وملعون هذا المصير الذي آلت إليه رغبتي في أن أكون إنساناً يحترم رأيه وإنسانيته وكرامته وحريته. هل يستحقّ ذلك أن يصل المرء إلى حافة الجنون، أو أن يصبح صراخه أشبه بالعواء؟
ربما تكون هذه هي الحال التي يخططون لإيصالي إليها، وعليّ أن لا أستسلم. سينتهي التحقيق بشأن الكرّاس الأدبي كما انتهى التحقيق بشأن التفجيرات وبشأن انتسابي إلى الحزب الشيوعي السوري. علي مملوك الوحش لم يحدد في سؤاله إن كان يقصد الحزب الشيوعي جناح بكداش أم جناح رياض الترك.
لحسن الحظ أنه لم يأتِ على ذكر رابطة العمل الشيوعي.
وذلك السجان الحمصيّ النذل صار كما لو أنه سجاني الخاص. هو الذي يحضِر الفطور والغداء والعشاء، ومع كل وجبة يصفعني، وأنا لا أدري ماذا أفعل.
لم أكن في حياتي خائفاً ومتردداً كما أنا الآن.
كنت أواسي نفسي بأن الخوف له علاقة بالغريزة، وأن الجُبن له علاقة بضعف الإرادة، وإرادتي لم تضعف بعد.
كل المقاربات والمقارنات تافهة، وذلك السجّان الذي قال إنه حمصيّ تافه أيضاً.
في إحدى المرات قال لي: وطالب جامعة كمان؟
ثم صفعني وخرج.
ما الذي يضيره إن كنت طالب جامعة أم طالب سمّ الهاري؟
قررت أن أضع حداً لهذا السجان مهما كلّفتني النتيجة. هو قصير وضعيف البنية وأنا رياضي وسبّاح في الأصل.
في الصباح دخل كعادته. ناولني طعام الفطور وهو يقول: ضعه على الأرض.
لا بد أنه لاحظ توفّزي، غير أن ذلك لم يعنِ له شيئاً.
لم يكد يرفع يده لصفعي حتى وجد نفسه على الأرض تحتي.
كان يقول بصوت هامس: لا يا ابن البلد… أمزح معك يا رجل. صدقني أنا أحترمك وأنوي مساعدتك. سترى… سترى قريباً أني سأساعدك.
قلت: لا أريد مساعدتك… المهم أن لا أرى وجهك.
في الحقيقة كان الأهم أن لا يقوم السافل بإخبار علي مملوك عن تجرّؤي على بطحه أرضاً.
في اليوم التالي جاءني بالطعام سجّان آخر. كان مبتسماً، وفي عينيه نظرة تشي بأنه يعرف ما حدث بيني وبين زميله.
سألني:
– كم مضى عليك بدون أن تستحمّ؟
– منذ أتوا بي إلى هنا.
– يعني كم يوماً؟
– ثلاثة وعشرون يوماً.
– بعد أن تنتهي من طعامك، جهّز نفسك للحمّام؟
– عليّ أن أستحمّ وأغسل ثيابي.
– لا عليك. سأحضر لك صابوناً.
النظافة ليست فقط من الإيمان. إنها تعادل إفراجاً مؤقتاً.
بعد أيام جاء سجّان آخر وأخذني إلى مهجع فيه 23 سجيناً، يزيدون أحياناً واحداً أو ينقصون واحداً.
رائحة المهجع صادمة. مزيج من تعرُّق ودم وقيح وعفونة.
ليس هناك أي نافذة أو طاقة أو مسرب للتهوية سوى الباب الذي يفتحونه ثلاث مرات في اليوم من أجل تحريك الهواء.
للمهجع أصول لا أدري من أوجدها أو فرضها كما لو أنها أعراف قاطعة. الأقدم يأخذ أو يختار مكاناً في صدر الغرفة أو قريباً من الصدر. أمّا الوافد الجديد فمكانه قرب الباب.
بعد أسابيع نقلوا بضعة سجناء وجاؤوا بغيرهم، فصار مكاني مجاوراً لأقرب زاوية إلى الباب. كان في الزاوية شخص صامت، تحدّق عيناه في لا شيء. شخص تحسبه تمثالاً من شمع. منذ مجيئي لم أسمعه ينبس بأي كلمة. مليء بالقمل ولا يقبل أن ينظّفه أحد. مرة غافله أحد السجناء وأخذ قملة عن جسده، فهجم عليه واستردها، ثم أعادها بهدوء إلى مكانها.
قرأت بعض الروايات عن السجون، ولكن يبدو لي أن كل من كتبوا عن تجاربهم لم يمروا بسجن كهذا. هنا لم أسمع عن أحد جاءته زيارة من أهله أو ثياب أو طعام أو نقود.
والمعتقلون السياسيون الذين أعرفهم كانوا لدى شعبة المخابرات العسكرية أو أمن الدولة أو الأمن السياسي، فلماذا أكون استثناء بينهم وتسوقني المصادفة إلى المخابرات الجوية؟!
كان هناك سجينان يتنافسان على زعامة المهجع، أحدهما من حلب، والآخر من قرية زيدل في حمص. ذهبت إليهما أسألهما عن قصة هذا الرجل المليء بالقمل، وعن سبب إصراره أن يحتفظ بقمله كما لو أن القمل من أفراد أسرته. قال لي الحلبيّ المتهم بقتل كثيرين: هذا الرجل عنصر مخابرات جوية ومتَّهَم بمحاولة اغتيال الأسد، وعذّبوه إلى أن لم يعد هنا.
بطبيعة الحال غزاني القمل، ولم يكن ذلك أسوأ ما في المهجع. الصراع بين الحلبي والزيدلي على الزعامة كان أكثر إزعاجاً وأرهقني، فرحتُ أفكّر في حلّ يُخرِجنا من صراعهما.