برز مفهوم “القدوة” أو Role Model في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بفعل التوجه نحو نظام الترفيه في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ووظّفت المجلات الصورة للإعلان ولفْت انتباه الزبائن إلى المواد المعروضة. وفي ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، بدَا من المثير الحديث عن نزوع هذه المجلات نحو تسليع عوالم الحياة العصرية وإغراء الجمهور أن السعادة تكمن فقط في التسوق واقتناء المنتجات المصوّرة. وبتبدل أحوال العرض، وتغيير “صورة الرغبة” كما يوردها بيير بورديو في كتاب “التمييز Distinction”، فإن المجلات ذاتها أصبحت تعتمد على ما يمكن تسميته “الوسطاء التجاريين” بين المنتجين والبرجوازيين حينها. مهمة الصورة بحسب بورديو هي إنتاج معنى وإضافة قيمة للمنتج ترفع قيمة اقتنائه. أما الوسطاء، فهم إما مغنّون أو ممثلون أو رياضيون أو أدباء، ممن لهم أثر اجتماعي؛ وفي غالب الأمر يكونون إناثًا مهمتهم “تجسيد Embodiment” هذه القيمة. ومع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي القائمة في أصلها على الصورة والفيديو والألوان، اتسعت مساحة الاعتماد على ” الشخصيات القدوة” في تكوين رأي المتابعين حول المنتجات وآخر صيحات الموضة واللباس. ولم يقتصر الدور على ذلك، ليتعداه إلى التأثير على طرق الأكل والشرب و “بريستيج” الجلوس وغيره الكثير.
إنستغرام أحد أهم المنصات التي انتقل فيها لقب “قدوة” إلى لقب “فاشنستا”، المطابق تمامًا للقب “عارضة أزياء” أيام مجلات الموضة من قبيل “فوغ” و “بوردا” و “لايف” و “لووك”، إذا ما قلنا إن هذه المجلات أصبحت أدبيات ومراجع عالم الموضة والأزياء. بالنظر في طريقة عمل إنستغرام، نجد أن الصورة هي التي تحكم، وعدد المتابعين هو المقياس؛ وأن أي مستخدم يسعى ليظهر أمام متابعيه بأبهى حلّة، بغض النظر عن الكيفية أو الأسلوب المعتمد. النساء هم ضحايا الصورة، إذا ما أخذنا برأي كاريل ريفرز في كتابها “بيع القلق: كيف ترعب وسائل الإعلام المرأة”، أن الصورة في العصر الحالي ميزانٌ تحتكم إليه المرأة في حياتها، بالإضافة إلى كونها أداة تسلية تنقلها من واقعها إلى واقع آخر تراه مناسبًا لتصورها. وعليه، فإن ما تنقله وسائل التواصل الاجتماعي ليس بالضرورة واقع فاشنستا أو أخرى. ما يهم، بحسب ريفرز، هو مادة تدرّ أرباحًا، تصنع “بريستيجًا”، أو حتى تنقل العارضة إلى مناخ أقرب إلى الخيال في محاولة للانسلاخ عن واقعها. وفي مساق آخر، فإنهن يعملن لإنتاج صورهنّ وفقًا لتصورهنّ الشخصي الذي يستدعي أنماطًا من الاستهلاك القائم على التسويق باستخدام الجسد، وليس عن معرفة حقيقية بالمنتج وماهيته ووصفه، كما يقوم بع المسوّقون التقليديون.
تقول الفاشنستا ماري الخطيب -اسم مستعار- إنها تعمل لدى وكالة تصوير، ويستدعونها لارتداء الأزياء التي تتفق الوكالة مع المنتجين أو المصممين على عرضها والترويج لها. وفي غالب الأمر، فإن ماري وزميلاتها يرتدون و “يطبقون” الثياب بحسب رأي المصمم، ولا يعرفون مم تتكون هذه القطعة أو تلك أو ما خصائصها أو حتى درجة لونها الحقيقية. أما ما يظهر للمتابعين، هو أن الفاشنستا هي التي تقوم بتنسيق الأزياء بذاتها. وفي حالة العمل خارج الوكالة، Freelance، فإن محل الأزياء يرسل لها ما يجب أن تلبسه في صورتها.
أدى تركيز وسائل الإعلام على الموضة Fashion Industry إلى زيادة اعداد الراغبات بالشهرة والدخول من بوابة وسائل التواصل الاجتماعي العريضة بوصفهن صانعات محتوى ساهمن بدورهنّ في تكريس السطوة التي يمارسها العالم الموازي على المستخدمين؛ سواء من الفاشنستات أو متابعيهنّ. أتت هذه السطوة من إقناع الفاشنستات أن المحتوى الذي يقدمونه هو عمل يدرّ عليهن أرباحًا خيالية في مدرة قصيرة، وبالتالي فقد ساهمن في إعادة تشكيل ثقافة الاستهلاك، من خلال توظيفهم كوسطاء بين المنتج والمستهلك بما يضمن للمنتج أخذ رأي المستهلك من جهة، ويضمن من جهة أخرى فرض سطوته على المستهلكين عبر قَولبة أذواقهم من خلال المنتجات التي تعرضها الفاشنستات. هذا ما يمكن تسميته بأثر الفاشنستا في المجتمع، وبالتالي فإن كلمة “مؤثر” أو “Influencer” واردة بقوة في هذا السياق، إذ أن التأثير على الذوق العام بحد ذاته هدف من أهداف دوائر الإنتاج.
ينظر البعض إلى عمل الفاشنستا على أنه جماليّ، أو مدخل إلى ريادة الأعمال، ضمن نسق لا يتطلب رأس مال كبير، إلا أنها قد تبدو أقرب إلى إعادة تشكيل صورة الحياة، أو إعادة هيكلة الذوق العام وفق أسلوب حياة ساحر يلعب فيه الجسد -بوصفه سلعة أيضًا- دورًا في عمليات بيع العلامات التجارية ومنتجاتها ضمن فضاء العلاقات الحضرية حصرًا. تعمل الفاشنستات على استخدام صورهن لتسهيل عرض وبيع المنتجات، فهُم بذلك يعملون على دمج صورهن وأجسامهن، بشكل أو بآخر، في صورة العلامة التجارية. تسهل هذه العملية بفعل ميزة الإشارة والذكر Tag and Mention الموجودة في إنستغرام، والتي تساعد على وضع إشارة على كل قطعة ترتديها الفاشنستا، بما يسهل عملية الترويج للمنتج بمجرد لمس الصورة، لتظهر العلامة التجارية التي زودت الفاشنستا بالمنتج. مهمة الفاشنستا هنا هي نقل خبرات المستهلكين وتجاربهم حول السلعة التي تعرضها عبر قياس نسبة التفاعل ونوعية التعليقات حول هذه المنتجات، ونقلها إلى المنتج. يمكن تنظيم هذا العمل من خلال وكالات، كان أحدثها وكالة بروباغيت Propagate Agency، وهي وكالة تسعى إلى تنسيق أعمال المؤثرين وعارضي الأزياء والإعلاميين وغيرهم، وجعل مهمة الترويج لصورتهم ضمن قالب تنظيمي. وفي غالب الوقت، تسعى هذه الوكالات إلى استغلال أسماء هؤلاء المشاهير للقيام بأعمال تسويق تخصها بحد ذاتها، على حساب المشاهير ومتابعيهم.
ومن وجهة نظر الفاشنستا، فإن ما يهم هو كيفية استغلال قبولها في المجتمع الإلكتروني، والذي يعدّ مجتمعًا موازيًا للواقعي بحسب مانويل كاستل، في ربط صورتها بالمنتج، لتصبح أكثر استدامة وجمالية، وأعلى مكانة اجتماعيًا؛ خصوصًا وأن ثقافة “الماركة العالمية، Brands” محفورة في أذهان المتابعين. يغذي وصول الفاشنستا إلى دائرة الماركات العالمي عبر تسليع الجسد، Body Commodification، يغذي شعورها بالتميّز في وسط تفاعل اجتماعي يشدّها نحو دمج نظام الإنتاج والاستهلاك والتعويضات المادية بمستوى قبولها وتميزها وتفاعل المتابعين معها. من هنا، يصبح المنتج والتفاعل محددات لتجربة ومزاج الفاشنستا ضمن وسط غير مادي من خلال الصورة التي تظهر بها. ما يحدث هو أن الفاشنستا تتلقى عروضًا من شركات الأزياء وشركات وعيادات التجميل، وحديثًا جميع أنشطة وخدمات المجتمع بكافة أشكالها وتصوراتها، من المأكل و المشرب إلى خدمات صناعية وتجارية؛ وهذه العروض تضمن لها نمط تشبيك و علاقات غير مادي يجعلها ترتبط أكثر بالصورة التي يتخيلها المستهلك عنها، ولا تقبل بأقل منها. تقول مها نصرالله -اسم مستعار- إنها تضطر أن تبقى مقيدة بنوع ومستوىً عالٍ من اللباس، لأنها عرضة للتصوير في أي وقت، لا سيما وأنها إعلامية معروفة أيضًا، وبالتالي فإنه من الصعب عليها التحرك أو العيش دون الصورة التي “تبيعها”، بحسب قولها.
ثقافة الترفيه، INFOTAINMENT، ليست حديثة في الإعلام. فالقول إن هناك علاقة وطيدة بين الإعلام والفاشنستا صحيح من جهة توظيف وسائل الإعلام -سواء المرئية أو المقروءة أو المسموعة- الفاشنستات الأكثر شهرة في سبيل الانتشار والوصول إلى أكبر عدد من المتابعين، الذين يمكن تحصيلهم من خلال نشر أخبار الفاشنستات ويومياتهنّ. جاء هذا بعد الانتباه أن الجمهور بات يبتعد أكثر عن أخبار السياسة والاقتصاد، والمآسي والحروب، لينتقل إلى ملاحقة أخبار الفن والفنانين والفاشنستات. خطبة وزواج وطلاق إحداهن، إطلالة تلك، أسعار عمليات تجميل أخرى، كلها مواضيع أصبحت تشغل الشارع أكثر من أي موضوع آخر. يرى بعض المهتمين أن الأزمات نخرت عظمهم، وحان وقت الترويح عن النفس بالقليل من المشاهد والأخبار الخفيفة. ربما لا يجب أن نلومهم هنا، فأخبار السياسة والاقتصاد تحتاج إلى مستوى عالٍ من التفكير والتحليل والنقد، وهو ما لا يجلد عليه غير المهتم، على نقيض أخبار الترفيه التي لا تتطلب جهدًا تحليليًا.
خلاصة القول إن التصنّع و “التجارية” سمتان ظاهرتان في عمل الفاشنستا، وهذا ما يضمن لها ظهورًا يجذب حالة “الاستثمار” في الشكل والصورة التي تسعى أن تؤثر من خلالها على رأي المتابعين وذوقهم، وأن العلامات التجارية لا يسعها النشر والترويج في عصر الاتصال الرقمي إلا من خلال الشخصيات الي تراها ذات تأثير. وبالتالي، فإن المنتج والمصمم والفاشنستا يعيشون حلمًا يخفي القيمة الجمالية لمفهوم العمل والإبداع المادي، وينقلونه إلى العمل غير المادي، أي التركيز على المشاعر والرغبات. يظن المتابعون خلال متابعتهم الصورة أنهم أشبعوا اهتماماتهم بحرية مطلقة، وبدون دفع أي مقابل ماديّ؛ بينما هم في الحقيقة من يخلقون القيمة للعلامة التجارية وللفاشنستا بحد ذاتها، ويوفرون السوق الملائمة للعلامة التجارية لتنتقل من مستوىً إلى مستوىً آخر من القيمة.