توقّفَ قلبُ المخرج والممثل والكاتب السوري حاتم علي صباح يوم التاسع والعشرين من ديسمبر في غرفةٍ في فندق ماريوت – القاهرة، بعد أن ظلَّ يدقُ لثمانيةٍ وخمسينَ عامًا.
فالراحلُ الذي ولد في الثاني من حزيران عام ١٩٦٢، بعد أشهرٍ قليلة من الانفصال وانتهاء التجربة الوحدوية بين سوريا ومصر وما خلّفتهُ هذه التجربة من آثار وندوب على الشخصيّةِ السوريّة في قيامها ونهايتها، لم يكن قد تعلّمَ الكلامَ كما ينبغي حينَ استولى العسكر على السلطة في سوريا، وشاءت أقدارُهُ أن يشهدَ أولى فواجعِ حكمِ هؤلاء العسكر مبكرًا، وأن يحتفلَ بعامه الخامس نازحًا رفقةَ عائلتهِ من الجولان السوريّ في أعقابِ هزيمة حزيران ٦٧ التي أفضتْ، من جملةِ ما أفضتْ إليه، إلى احتلال الجولانْ. بدايةُ الحياة كثيفة الأحداث تلك، فتحت البابَ أمامَ تساؤلاتٍ كثيرة وكبيرة، سوفَ تطبعُ اشتغالات صاحبِ «أحلام كبيرة» لاحقًا، عن جدوى البيتِ والوطن، وعن معناهما. عن السلطةِ ومغانمها ومغارمها، وعن الفقر وغياب العدل.
عاشَ حاتم علي في منطقة الحجر الأسود المُتاخمة لمخيّمي فلسطين واليرموك للاجئين الفلسطينيين جنوب دمشق، وهي إحدى الضواحي شديدة الهامشية والعشوائية في العاصمة، حيثُ الأملُ لا يعدو كونه مفردةً يستخدمُها أبناء الطبقة الوسطى في أحاديث أمسياتهم. تشرّبَ تاريخهُ الشخصيّ بكلّ تفاصيله، لم يكن معزولاً ولا بعيدًا عن حياة الناس، وأسوةً بسكّانِ تلك المناطق لم يمتلك ترفَ الترفّعِ عن تفاصيلِ الحياة اليومية، فكانَ والداهُ يعملان في سوق الخضار في الحجر الأسود، بينما كان هو يشقُّ طريقَ تحصيلهِ العلميّ بأناةٍ وهدوء، متأملًا وسائلًا وقلقًا، وواحدًا من روّادِ مقهى أبو حشيش في مخيّمِ اليرموك، حيثُ يتمكّنُ من توظيفِ حاسّتي السمع والبصر فيما يغذّي تلكَ التساؤلاتِ، مثلما يغذّي القلق!
قد يقولُ قائلٌ إنّ الأعمال الخالدة التي أخرجها حاتم علي مثل “التغريبة الفلسطينية” أو “الزير سالم” تُنسبُ لمؤلّفينَ رؤيويين كممدوح عدوانْ ووليد سيف، غيرَ أنّ السؤال هنا يكمُنُ في استعداد المؤلِّفَينْ للمغامرة بمنحِهِ فرصةَ إخراج ما كتباه إلى المشاهدين، وهو لم يكن قد تجاوزَ الثمانية والثلاثينَ عامًا حين أخرج الزير سالم، وما يزيدُ عليها بأربع سنوات في التغريبة؟
لم تكن سوريا تخلو من المخرجينَ آنذاك، ولم يكن لحاتم علي بصمة إخراجيّةً تُذكر، لكنّ المسألة تتعلّقُ، على الأرجح، بتوافقٍ فكريٍّ – رؤيويّ بينه وبين المؤلِّفَينْ. ونحنُ هنا لا نتحدّثُ عن كاتبين عاديَّين، بل عن ممدوح عدوان ووليد سيف!
قدّم حاتم علي نفسَهُ كمخرجٍ في الزير سالم، بشكلٍ يُذكّرُ بما فعلهُ رياض الصالح الحسين شعريًّا وفقَ شهادةٍ كتبها سابقًا الشاعرُ الأردنيّ الراحل أمجد ناصر في رياض حين قال:
“لم يكن رياض الصالح الحسين ممن يتزلفون إلى الزمن، وهو ممن لم يحتاجوا إلى رأفته، قصيدته جاهزة وبصمته حاضرة منذ توقيعه الأوّل”.
قدّمَ نفسَهُ من خلالِ أبطالِهِ في سيرةِ البكريينَ والتغلبيين واصطراعهما المديد. مدّ أصابعهُ إلى أوراقِ ممدوح عدوان وسحبَ الشخصيّات بحيثُ وقفتْ أمامَ المشاهدينَ شخصيّاتٍ من لحمٍ ودمٍ ومشاعر، وعليه فقد فكّرَ مع المؤلّفِ مليًّا في مساءلةِ هؤلاء الأبطال بوصفهم بالغينَ راشدينَ مسؤولينَ عن سلوكيّاتهم التي أنتجتْ دمًا عميمًا لا طائلَ منه، وفكّكَ مفهومَ الصفحِ والمسامحة وأخضعهُ لشروطهِ التاريخية وللتركيبة الذهنية للشخصيّات. وسخِرَ، بلا سخريةٍ، من ثنائيّةِ الخيرِ والشرّ، لصالحِ انتصارٍ واضحٍ للضعفاء والمظلومين.
انحيازُ الراحلِ للأضعف تكررَ في أعمالهِ لاحقًا. في التغريبةِ الفلسطينية لم يكنْ الانحيازُ مبنيًا على شعاراتٍ مكررة وممجوجة، فهو لم ينحزْ إلى الفلسطينيين في مواجهة الإسرائيليين، إنما للأضعف في مواجهة الأقوى، لزارعِ الأرضِ في مواجهة مالكِها، للمظلوم في مواجهة الظالم. ذلكَ قبلَ أن يُعمّم الظلمُ على الكلّ مع النكبة عام ١٩٤٨، فينحازَ لهم جميعًا في مواجهةِ ظُلّامهم الجدد، المستمرّين. خارجًا من فخّ التخصيص والمفاضلة بين مظلومٍ وآخر، باختيارهِ الذكيّ أن يبدأ مسلسله من «قريةٍ فلسطينية» لا على التعيين، كمن يُريدُ القولَ: اختر أيّ مكانٍ في فلسطين، واعتبر أنّ هذه حكايته.
كذا فعلَ في ثلاثيّةِ الأندلس، فقد انحازَ لعبد الرحمن الداخل في صقر قريش، إلى أن صارَ حاكِماً خاضعًا للتغييرات التي لا بدّ، في رأي حاتم علي، أن تفرضَها السلطةُ على الأشخاص ما إن يتبوّؤوا سدّةَ الحكم، ولما تفرضهُ السُّلطةُ من سلوكيّاتٍ تطبعُ شخصيّةَ الحاكم. عندئذٍ اختارَ الانحيازَ إلى بدر، خادم «صقر قريش» ورفيق رحلته إلى الأندلس وشريكه في تخطيط بناء الدولة هناك ووزيرهِ السابق. بدر، الذي عزلهُ «الداخل» فاختارَ الانكفاءَ والابتعادَ عن قرطبة التي لطالما حلُم بها. ولعلّ المشهدَ الأخير الخالدَ في المسلسل، يختصرُ تأمّلَات وليد سيف وحاتم علي في فكرةِ السلطة، وهواجسهما في أن يردَّا الاعتبارَ للمظلومين. في حوارٍ ثريٍّ بين الحاكمِ الذي ظَلمَ وخادمهِ الذي ظُلِم، يتشككُ عبد الرحمن الداخل في كلّ تاريخه، يتساءلُ عن جدوى كلّ ما قام بهِ في سبيلِ إحياء دولةِ أجدادهِ في الأندلس، وما إذا كانت فكرةُ الدولة تلك تستحقُّ كلّ ما فعلهُ لأجلها، وكلّ أولئكَ الضحايا الذينَ قضوا في سبيلِ قيامِها والحفاظِ عليها، ثمّ يستطردُ «صقر قريش» متمعّناً في فكرةِ الحقّ ذاتها، وفي نسبيّتها؛ فالحقُّ عندَ أحدهم هو الباطلُ عند أعدائهِ، والعكسُ صحيح. قيمةُ هذا المشهد الحواريّ الخالد لا تكمنُ في تلك الأفكار، إنّما في ورودِها على لسانِ الحاكمِ لا المحكوم، على لسانِ الظالمِ القويّ لا المظلومِ الضعيفْ، ذلكَ تحديدًا ما يجعلُها تحملُ ردّ اعتبارٍ للضعفاء.
ولعلّ تداخلَ الشخصيّ بالعام في سيرة ومسيرة حاتم علي فرضَ نفسهُ على المشهدِ الأخيرِ من حياتِهِ، فالتراجيديا السوريّة العامّة لا تنفكُّ تتركُ آثارَها على السيرةِ الشخصيّة لأبناء التغريبة السورية: يغادرُ حاتم علي بيتَهُ مجبرًا في بداية حياتهِ، يعيشُ نازحًا في الحجرِ الأسود، ينحازُ إلى المهمشين، يُحاولُ القول مبكرًا “إنّ الطغاةَ شرط الغزاة”، يثورُ المهمشون، يقتلهم الطغاة فالغزاة، يُغادرُ البلادَ في رحلةٍ لجوءٍ أبتْ حياتُهُ إلا أن يختبرها، ثمّ يموتُ وحيدًا مُحاطًا بجدرانِ غرفةٍ فندقٍ في القاهرة. فتكتملُ حلقات المسلسل. تلكَ رحلةٌ مكتملةُ أركانِ الألم.
سيطوفُ اليوم جثمانُ حاتم علي في شوارعِ الشام التي وصلها بتابوتٍ مختومٍ بالشمع الأحمر، ثمّ سيُدفنُ في مقبرةِ باب الصغير.
أولم يقل عبد الرحمن الداخل في المشهد الأخير من صقرِ قريش: لو كانَ للمرءِ أن يختارَ موضعَ قبرهِ ما اخترتُ غيرَ الشام؟!