“لا تستوحشوا طريقَ الحقّ لقلّة سالكيه”
الإمام عليّ ابن أبي طالب
ارتكزت خطابات وتصريحات بنيامين نتنياهو خلال أيام العدوان الصهيونيّ على قطاع غزّة على فكرتين رئيسيتين انطلقت منهما رسائل ثلاث وجّهها رئيس وزراء دولة الاحتلال “إلى من يهمّهُ الأمر”: فكرةُ شيطنةِ العدوّ، وفكرةُ الصراعِ الحضاريّ. من هاتين الفكرتين (الكلاسيكيّتين في خطابات الحروب) توجّهت الرسائل إلى جمهورٍ مُستهدفٍ ومُحدّدٍ بدقّة. ثلاثُ جبهاتٍ توجّهَ إليها السياسيّ الصهيونيّ الذي أسسَ في أواخر السبعينيات معهدًا لمكافحة الإرهاب، ثمّ تزعّم حزب الليكود اليميني في وقتٍ لاحق. الجبهة الأولى ضمّنها في خطاباتهِ إلى جنودِهِ منذ أيام العدوان الأولى باستخدامِهِ لآياتٍ توراتيّة تسترجعُ ما حلّ ببني إسرائيل في تيههم الكبير في شبهِ جزيرة سيناء، إثرَ معاركَ خاضوها ضدّ أقوامٍ من البدوِ سكنت المنطقة يسمّون “عماليق” وفق ما جاء في العهدِ القديم. وقال نتنياهو لجنودهِ في إحدى الرسائل التي وزّعها مكتبُ رئاسة الوزراء “يجبُ أن تتذكروا ما فعله عماليق بكم كما يقولُ لنا كتابُنا المقدس”. وقد جاء في سفرِ التثنية “اذكر ما فعله بك عماليق في الطريق عند خروجك من مصر”. مع الزمن بات استخدامُ عماليق ذو دلالةٍ في “التقليد اليهودي” على ما يذهبُ إليه مقال معتزّ الخطيب المنشور في موقع الجزيرة نت بتاريخ الثالث من نوفمبر الفائت، ويحمل عنوان “أخلاقيات الإسرائيليين في الحرب”، ويقول الخطيب في مقاله إنّ “مدلول “عماليق” -في التقليد اليهودي- بات أوسع من مجرّد الإحالة إلى واقعة محددة هي نفسها محل إشكال من الناحية التاريخية؛ فعماليق باتت ترمز إلى “الآخر”، وعماليق والقبيلة البدوية باتت تمثل -في الثقافة اليهودية- “ذروة الشر الجسدي والروحي” بحسَب جيرالد كرومر (Gerald Cromer).
وفي الآية الثالثة من سفر صاموئيل وردَت “عماليق” على نحوٍ يؤكدُ الفكرة السابقة، إذ جاء:
فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلًا وَامْرَأَةً، طِفْلًا وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلًا وَحِمَارًا.
للسامريين رأيٌ آخر
وعلى الرغم من وجودِ رواياتٍ متضاربة حول من هم الأقوام الذين خرجوا وعاشوا التيه في صحراء سيناء، ما يؤكّدُهُ أبناءُ الطائفةِ السامريّةِ في فلسطين، وهي أصغرُ طائفةٍ في العالم ولا يتجاوزُ عددُ أفرادِها نحو ثمانمائة شخص، يعتبرون أنفسهم السلالة الحقيقية لبني إسرائيلَ، وهم الذين عاشوا التيه، ويؤكدون أنهم سامريون وليسوا يهودًا، وهم ليسوا صهاينةً طبعًا، إذ إنّ الفوارق بينهم وبين اليهود وصلت إلى سبعةِ آلاف فارق من بينِها أنهم لا يؤمنون إلا بالأسفارِ الخمسةِ الأولى من التوراة ولا يعتبرون الهيكل موجوداً في القدس، ولا يعتقدون بقدسيّة القدس لدى بني إسرائيل، بل جبل جرزيم في نابلس. على ذلك فإنهم كجماعةٍ ليسوا مضطلعين بالصراع العربي الصهيوني. إلا أنّ هذا التضاربَ لم يُثنِ رئيس الوزراء من استخدامِ النصوص الدينيّة المقدّسة مذكرًا بما قاساهُ بنو إسرائيل، ومُسبغًا على أعدائهم صفاتٍ شيطانيّة توجبُ قتالهم من خلالِ تلك النصوص.
كلاسيكيّة العدوّ الشيطان
شيطنةُ العدوّ فكرة شديدة الكلاسيكية في الحضارة الإنسانيّة، ولطالما دأبت الأديانُ على استخدامِها، ويبدو أنها ما تزالُ تُحقّقُ نتائج مُرضية ليظلّ استخدامُها شائعًا حتى أيامنا هذه.
في كتابِ “الحرانيون السومريون – في أصول ومُعتقدات العشائر الزراعية في الجزيرة والفرات” توقّفَ الباحثان قصي المسلط الهويدي وخلف علي الخلف عند الرسالةِ الثانية التي وجهها بولص الرسول إلى أهل ثيسالونيكي، وقدّما تأويلًا لتعبير The man of sin الذي ورد في الرسالة وتُرجمَ من اليونانيّة إلى اللغات الأخرى، وجاءت ترجمتُهُ إلى اللغة العربية في عمومِ الأناجيل بـ “رجل الخطيئة”. وسين هو الإله القمر في العقائد السومريّة والحرّانية، وقد جاء في الإصحاح الثاني من الرسالة:
2:3. Let no man deceive you by any means: for unless there comes a revolt first, and the man of sin be revealed, the son of perdition.
ونرى ورودَ إنسان الخطيئة، وابن الهلاك، في وصف The man of sin. وهذا هو تأويلُ الباحثين، الذين ارتأيا أنّ المقصود في العبارة السابقة ما هو إلا الإله سين نفسه. وسواء كان تأويلُ الباحثين مصيبًا أم لا، فإنّ بولص الرسول في إطارِ سعيهِ التبشيريّ دأبَ على شيطنةِ الآخر والدعوةِ إلى قتاله. ورغم مرورِ قرابة ألفي سنةٍ على تلك الرسالة، إلا أنّ صلاحيّتها لم تنتهِ حتى اللحظة.
الصهيونيّة والدفاع عن الحضارة
أما الجبهة الثانية التي وجّهَ إليها نتنياهو رسائلهُ المباشرة فكانت “الدول المتحضّرة” على حدّ تعبيره، فقد قال في المؤتمر الصحفي الذي جمعه مع نظيرهِ (بالمعنى الفكري أيضًا) الروماني مارسيل سيولاكو الذي كان أول رئيس وزراء أجنبي زار إسرائيل بعد بداية العدوان إنّ إسرائيل تخوضُ “حرب جميع الدول المتحضرة”. وقال لاحقًا إلى أنّها “حرب الحضارةِ ضدّ الهمجية”. بُنيةُ خطاب نتنياهو لم تأتِ من فراغ، فاعتبار أنّ العدوان يقع ضمن إطار الصراعِ الحضاريّ، والفكرة التمييزية التي تنطوي عليها نظرية الصراع الحضاريّ ليست جديدة، إنما هي نظرة بدأت في أوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين، وشاعت في أواخرِ القرنِ العشرين وبدايات القرن الحالي، واعتُبرت مانيفيستو للتياراتِ اليمينية التي تميلُ إلى الانعزال والهيمنة. وليس كتاب “صراع الحضارات” لصاموئيل هنتنغتون مصدرها إنما هو خلاصتها. الكتاب الذي بدأ كمقالٍ في العام ١٩٩٣ وطوّرهُ صاحبُهُ إلى أن صار نظريةً وكتابًا نُشر بعد ذلك بثلاث سنوات، طرحَ شكلًا تقسيميًا مختلفًا للعالم، مبنيّ على أسس تتعلقُ بالهوية الثقافية لدى الشعوب. اعتبرَ هنتنغتون أنّ عالم ما بعد الحرب الباردة عالمٌ مكوّنٌ من عدد محدد من الحضارات، وأنّ العوامل الثقافية المشتركة والاختلافات هي التي تشكّلُ قاعدةَ المصالح وتلعبُ دورًا في الخصوماتِ وتقاربِ الدول. ويلفتُ الانتباه أنّ تقسيمة الفيلسوف والأكاديميّ الذي كان مخططًا أمنيًا في ولاية الرئيس جيمي كارتر، ومستشارًا لنائب الرئيس جونسون، ارتكزت على الانتماءات الدينية، في مفارقةٍ شديدة الغرابة (وسيّئةِ الطويّة على الأرجح)، إذ تُرجّحُ هذه النظرة التي صارت نظريّةً أنّ الانتماءات الدينيّة هي التي تحرّكُ الحضارات. وكأنّ الأديانَ وُلدت قبل الحضارة الإنسانيّة! ثمّ وفي مفارقةٍ أخرى لا تقلٌّ غرابةً يعتبرُ هنتنغتون أنّ ولعَ المسلمين بالعنف والقتال هو من حقائق القرن العشرين، وكأنّ المُسلمين هم من خاضوا حربين عالميّتين راح ضحيّتهما أكثر من ستين مليون شخصًا خلال النصف الأول من القرن العشرين، أو كأنهم كانوا قادةَ الحربِ الباردة، وصراع العالم متعدد الأقطاب!
ورغم إيلائهِ أهميّة كبيرة للتطور المذهل في وسائل الاتصال والعولمة وقدرة المجتمعات على الوصول إلى بعضها البعض، إلا أن هنتنغتون ظلّ مصرًا على أنّ ثمّة صراع حضاريّ يحكمُ علاقةَ البشر ببعضهم البعض، النظريّةُ التي تُرجّحُ بالتالي كفّة شعبٍ على شعبٍ أو شعوب أخرى. وظلّ ميّالًا لانعزاليّة البشر والدول، يقول في كتابهِ “إن بقاء الغرب يتوقف على الأمريكيين بتأكيدهم على الهوية الغربية، وعلى الغربيين عندما يقبلون حضارتهم كحضارة فريدة وليست عامة، ويتّحدون من أجل تجديدها والحفاظ عليها ضد التحديات القادمة من المجتمعات غير الغربية.” وهنا يُمكنُ الانتباه إلى أنّهُ اشترطَ لبقاءِ الغرب بمعناه السياسيّ أن يعتبرَ هذا الأخير أنّ حضارتَهُ خاصّة وليست عامةً، وأن يكون مستعدًا للتحديّاتِ القادمة من المجتمعات غير الغربية. أوليست هذه إحدى الأفكار التي تقومُ عليها الأحزابُ اليمينية الناهضة في العالم؟
الإبادة حرصًا على مصلحة الضحايا
ثالثُ جبهات الخطاب الصهيونيّ وجهها نتنياهو نحو التيّارات المُعادية لتيّار الإخوانِ المُسلمين، والتي وإن ضمّت في جبهتِها طيفًا من التيّاراتِ المؤيدة للربيع العربي، إلّا أنّ زعامَتها فعليًا بيد القوى التي قادت الثوراتِ المضادّة لثورات الربيع العربيّ ذاك. وفي خطابٍ لهُ قال نتنياهو: “إننا بحاجة إلى النصر ليس فقط من أجل أنفسنا، ولكن من أجل الشرق الأوسط، من أجل جيراننا العرب، من أجل سكان غزة الذين وقعوا في قبضة هذا الطغيان الأسود الذي كان قاسيا عليهم ولم يجلب لهم سوى سفك الدماء، والفقر والبؤس. نحن بحاجة للفوز لحماية إسرائيل والشرق الأوسط”.
رسالةُ نتنياهو كانت لدولِ المنطقة، ولهذه الدول خصومات سياسية وصلت حدّ العداءات متفاوتة الشدّة والاستمراريّة الزمنيّة والمعارك الدمويّة مع تيّارات الإخوان المسلمين، سواء قبل ثورات الربيع العربيّ أو بعده، ولم تقتصر على قواعد وكوادر الجماعة، بل نالت من قياداتها، ووصلت إلى سجنِ رئيسٍ وصل إلى الرئاسة بانتخابات ديمقراطية، قبل أن يفارق الحياة، في محبسه!
قرّرَ نتنياهو أنّ كلّ سكان غزّة هم منظمة حماس وبيئتها الحاضنة، وأسِفَ في أكثر من مقابلة لأنّهُ لا يُمكنُ تجنّب وقوع الأخطاء في مثل هذا النوع من العمليّات العسكرية، أسِفَ لحالِ الغزازوة، بل واعتبرَ أنّهُ يخوضُ المعركةَ باسمِهم أنفسهم ضدّ تيّار الإخوان المسلمين. وبهذا يكونُ نتنياهو قد حاولَ القفز على كلّ حِبال الابتزاز الممكنة، حاربَ أعداء بني إسرائيل العماليق الشياطين، واستعانَ بالتوراة، وحارب أعداء الحضارةِ الهمجيين واستعانَ بنظريّاتِ السيد هنتنغتون، وحاربَ الإخوان المسلمين، ووصفهم بالدواعش والنازيين والبرابرة، مما يوحي بقصورٍ في فهمِ كلّ تيّار أو جماعةٍ من هؤلاء أيضًا.
الصوت اليهوديّ كمتغيّرٍ فاعل
في خضمّ كلّ هذا تنامت على مدارِ أيّامِ العدوان حركة احتجاجيّة عالميّة طالت كلّ مفاصل الحياة العامّة، ومنها ما هو غير مسبوقٍ في تاريخ الصراع. وفرض حجم الدمار والعنف ولا منطقيّة الردّ الإسرائيلي على عمليّة طوفان الأقصى (هل هناك ردود منطقية على مقاومة المحتل؟!) بالإضافة إلى الرغبة والنيّة بالإبادةِ الجماعية التي كانت واضحة عند المسؤولين الإسرائيليين وتصريحاتهم الدمويّة المُفزعة، فرضت على العالم كلّهِ ابتداءً بالدول التي سارعَ قادتها لزيارة إسرائيل وإعطاء نتنياهو تفويضًا بالقيام بالمذبحة، بعضَ التفافٍ على الموقف أو تشذيبًا خجولًا له، وكانت أبرز الأصوات الناقدة والمحتجّة أصوات يهودية وقد أعطت القضية الفلسطينية خلال العدوان الأخير ثقلًا مضاعفًا في العالم بإعادة فتح ملفّ الفصل بين اليهوديّة والصهيونيّة. أصوات جاءت من شرائح يهوديّة مختلفة وضمّت مفكّرين ورجال دين وباحثين وطلابًا في الجامعات الغربية، لا سيّما الأمريكية، وفي مفارقةٍ لافتة، تعرّضَ بعضُ المُنخرطين في هذه الاحتجاجات في أمريكا تحديدًا إلى التضييق والاعتقال!
احتج اليهود أفرادًا ومنظماتٍ على الرّبط بينهم كديانة وبين الصهيونيّة فكرًا وممارسةً، ووصل الأمر إلى لفظهم أخيرًا تهمة العداء للسامية ونفورهم منها، بعد أن بات استخدامُها وفق البروفيسور اليهودي آفي شلايم “يُمارسُ للتغطية على جرائم الدولة الصهيونية”. في ذلك السياق قالت الكاتبةُ اليهوديّة الأمريكيّة ماريون إنغرام التي تبلغ ٨٧ عاماً “أنا ناجية من الهولوكوست ومن أسوأ قصف خلال الحرب العالمية الثانية، أطلب إيقاف قتل أهل غزة. نحن نسمح للتاريخ أن يكرر نفسه مجدداً”.
وبعد أقلّ من أسبوع على بدايةِ العدوان، منتصفَ أكتوبر الفائت أوقفَ مئات المتظاهرين من اليهود محطةَ القطارات المركزية في نيويورك في تظاهرةٍ رفعت شعارَ “لا تقتلوا باسمِنا” دعت إليها منظمة “الصوت اليهودي من أجل السلام”. وفي حوارِ مصوّرٍ قال الحاخام الأرثوذوكسي الحنان بيك المقيم في بريطانيا ما لا يريدُ كثيرٌ من العربِ حتّى قولَهُ أو تصديقَه، رغمَ أنّهُ من نوافلِ القول في المجتمعات المختلطة دينيّاً وعرقيًا كمجتمعات هذه البقعة الجغرافية: “الفلسطينيون لا يكرهون اليهود، بل يكرهون الاحتلال، المشكلة ليست في الدين، إنما في الاحتلال والقتل وسلب الأرض من الناس”.
معركة القيمِ المُستقِرّة
كلّ ذلك لم يمنع من انقضاء شهر ونصف الشهر على العدوانِ، لم يتغيّر خلالها حالُ الفلسطينيين الرابضين تحت وطأةِ الوحشيّةِ الصهيونيّة. الوحشية التي لطالما كانَ من أسبابِها الإحساسُ بالقدرةِ والاستطاعة، وغيابُ الإحساس بإمكانيّة المحاسبة، ذلك التفويضُ الذي صارَ عمرُهُ قرنًا كاملًا ويجدُ دائمًا من يدافعُ عنه، هو المتغيّر الأهم في المعادلةِ الحاليّة، إن في الولايات المتحدة التي بات يصعبُ التغاضي عن سماع صوت اليهود الرافضين للسلوكِ الصهيونيّ المدعوم أمريكيًا وغربيًا فيها، أو في أوروبا التي شهدت مظاهراتٍ غير مسبوقة في عواصم مهمة مثل لندن وباريس وبرلين وأودت في طريقِها بوزيرة الداخليّة البريطانية سويلا برافرمان التي انتقدت تساهلَ الشرطة مع المتظاهرين المؤيدين لفلسطين، وقد تُزعزِعُ منظوماتٍ كاملة مثل الاتحاد الأوروبي، فقد أثمرت المظاهرات الضخمة دول مثل إسبانيا وبلجيكا وصارتا تهددان وحدة صوتِ الاتحاد بخروجهما عن السياق وتحذيرهما بوضوح بأنهما قد تتخذان خيارات مختلفة لخيارات الاتحاد إذا لم يعترف هذا الأخير بدولة للفلسطينيين ضمن إطار حلّ الدولتين.
القيمُ المُستقرّةُ في “العالم الأول” كالديمقراطيّة قد تلعبُ دورًا حاسمًا في تعزيزِ هذا المُتغيّر الجديد، فالقضيةُ بالنسبةِ لكثيرين لم تعد معركة فلسطين، إنها معركةُ الحريّة الفردية والجماعيّة، والحقّ بالقول والنقد والاحتجاج بدون التعرض لتهم من قبيل “النيل من هيبة الساميّة”، وبدون اتخاذ إجراءات عقابيّة بسبب الموقف السياسيّ، وهذا من أهمّ الركائز التي قامت عليها الدول الحديثة، والقولُ بغيرِ ذلك نكوصٌ بالنسبةِ للقيم التي تتبنّاها هذه الدول وتُدرِجُها في مناهجها المدرسية وعليها ينشأُ الناس. وعلى ذلك فقد خرجت المسألة الفلسطينيّة من حيّزِ كونِها قضيّةً تخصُّ الفلسطينيين والإسرائيليين لوحدِهم، رغم كلّ محاولاتِ التقارب الإسرائيليّة العربيّة، والتي من شأنِها عزل الفلسطينيين في مواجهةِ الدولة الصهيونيّة وداعميها الكثر. ومحاولة التنصّل من الحقّ الفلسطينيّ باعتبارِ الحقّ مسألةً نسبيّة (أحيانًا!) وبتبريرِ السلوكِ الصهيونيّ بدوافعَ لدى الأنظمة العربية ولدى جزء من مجتمعات العالم العربي تتعلّق بالحذر والخوف والخصومة، التي لم تكن كيديّة دائمًا ولها سياقات تُفسّرُ أسبابَها، مع جماعة الإخوان المسلمين واستطالاتِها، ومع التيّارات الإسلاميّة عمومًا. ولعلّ ما قاله البروفيسور اليهودي نورمان فينكلشتاين أستاذ العلوم السياسية الأكاديمي والناشط الذي ينتمي لأبوين قُدّرت لهما النجاة من المحرقة “إذا أردتم تفكيك حماس وتدميرها، فعليكم أن تدمروا الحكومة الإسرائيلية وتفككوها” يمكنُ اعتبارُهُ الردّ المناسب على تلك المبررات، لا من الناحية الأخلاقية فحسب، بل من الناحية السياسية أيضًا.
لكن مهلًا، هل تقولُ السوسيولوجيا شيئًا آخر؟!