جماجِمُنا الجسرُ
أحذيةٌ لا نرى لابسيها
نُحسُّ بها
تتركُ الآنَ آثارَها
فمن أبدعَ الرقعةَ الأبجديّةَ
أيُّ يدٍ وَزّعَتْ في الكواليسِ أحجارَها
ومن علّمَ الفيلَ ألّا يصيرَ حصانًا
ومن يمنحُ القِطعَ الهامشيّةَ أدوارَها
ومن يا تُرى قد أعدَّ التُّراثْ؟
تموتُ البيادقُ دونَ اكتراثْ…
زهير شاهين
قلّةٌ قليلةٌ من النّاس تعرفُ صاحبَ المقطعِ أعلاه. الشاعر السوريّ الذي تجاوزَ مرحلةَ الـ لا مرئيّ عيانًا، ليكونَ تقريبًا شخصًا مجهولًا. فعيانيّتهُ تقتصر على عائلتِهِ وعدد لا يتجاوزُ أصابعَ الكفّ الواحدة من الأصدقاء، ناهيك عن أنّهُ لم يُخلّفْ شعراً منشورًا في أيِّ مكانٍ في العالم، سوى بضعة مقاطع يحفظُها أصدقاؤهُ ويتداولونها فيما بينهم أحيانًا وعلى موقع فايسبوك أحيانًا أخرى، ولا يجدُ المرءُ لهُ أيّ أثرٍ مكتوبٍ عامّةً، فاختفاؤهُ عن الصورةِ كان قرارًا شخصيًا تمامًا، بوادرُهُ بدأت قبل تحقُّقهِ الفعليّ. على ذلك فإنّ معرفتَهُ (ناهيك عن عيانيّته) تقتصرُ، هي الأخرى، على شرائح قليلة من السوريين قبل بقية الشعوب: يعرفُهُ طلّابُ كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة في جامعة دمشق ما بينَ عامي ٢٠٠١ – ٢٠٠٨، في السنواتِ الأولى تحديدًا كان زهير أحدَ الشعراء الذين شقّوا طريقهم في أمسياتِ كلية الآداب، وكانَ، فيما أمكنت ملاحظتُهُ من المتداولِ في ذلك الوقت، شاعرًا مختلفًا لا عن مُجايليه ومُزامليه في الجامعة فحسب، إنما في الشعر السوري عامّةً. ولمن يتذكّر، فإنّ تلكَ المرحلة، شهدت كثافةَ حضورٍ لافتةً للأنشطة الثقافية في كليّة الآداب، إذ كان من الممكنِ أن يحضرَ أمسيةً شعريّةً أكثرُ من سبعمائة شخص، تغصُّ بهم مقاعد المدرّجِ الثامن في كليّة الآداب. ومن هناك، يعرفُهُ أصدقاؤهُ وبعضُ أقاربِهم وأصدقائهم، وقد انكفأ عن كتابةِ الشعرِ منذُ زمنٍ بعيد.
بالعودةِ إلى المقطع، فهو مأخوذٌ من قصيدةٍ كانَ اسمُها: أشكال، وكُتبت قبلَ قرابةِ العشرينَ عامًا. ثمّةَ سؤالٌ عميقٌ وشفّاف وصادقٌ يختتمُ بهِ زهير شاهين هذا المقطع، ومصداقيّتهُ ليست نابعةً من كونِهِ يحملُ معنىً عميقًا، بل من تماهي العميق مع الواقعيّ. الواقعيُّ هنا أنّ “جماجمنا الجسرُ” وأنّنا كحالِ الجسورِ، وإنْ كنّا نرتفعُ عن شيءٍ ما فإننا ننخفضُ عن أشياءَ أخرى، الأحذية التي لا نرى لابسيها مثلًا، رغم أننا “نُحسُّ بها… تتركُ الآنَ آثارَها”.
لسببٍ ليس غامضًا تمامًا، يأخذُنا المقطعُ الشعريّ السابق من خلال أسئلتهِ الكثيرة إلى محاولاتِ تأصيلهِ فكريًّا، وعبرهُ نتذّكرُ ميشيل فوكو وجاك رنسيير.
يحيلُنا مفهومُ تقسيم المحسوس الذي تحدّث عنه جاك رنسيير إلى فهم هذا الأخير للسلطة. فإذا أخذنا بعينِ الاعتبار أنّ رنسيير كان متأثرًا بأفكار ميشيل فوكو، فإنه لا بدّ لنا أن نتذكر أفكار فوكو نفسه، أو تلك الأفكار التي استندَ إليها رنسيير (وهو مختصّ بعلم الجمال) ليكوّن منها الرابط ما بين الثقافة المرئية وعلم الجمال من جهة، والسياسة من جهة أخرى.
فمفهوم تقسيم المحسوس لدى رنسيير، يهتمّ بما هو أبعد من الحسّي/ المحسوس، ليشرح الكيفيّة الإنشائية للفئات والتسلسلات الهرميّة القادرة على تحديد ما هو مرئي وما هو غير مرئي، وهنا يُمكنُ التذكيرُ بجملة أرسطو الشهيرة: “تكلّم لكي أراك”، وأرسطو نفسهُ كان قد عرّف المواطن على أنّه شخص يشارك في وظائف الحكومة عبر العملية الديمقراطية. أي أنّ الذي لا يشارك في وظائف الحكومة ليس مواطنًا، بالمعنى الإغريقي القديم!
ثمّة إذن قوى مجتمعية هي التي تحدد المحسوسات، وهنا يتقاطع رنسيير مع فوكو، فقد كان ميشيل فوكو فيلسوفًا ومُنظرًا اجتماعيًا معروفًا على نطاق واسع بتحليله النقدي للسلطة وتأثيراتها على المجتمع. وقد طوّر فوكو مفهوم القوة كقوة منتشرة تعمل على جميع مستويات المجتمع، وتشكل أفكارنا وسلوكياتنا وعلاقاتنا. حدد فوكو ثلاثة أنواع من السلطة: السلطة السيادية، والسلطة التأديبية، والسلطة الحيوية. ورأى أن السلطتين السيادية والتأديبية منوط بهما سنّ القوانين وتنفيذها ومعاقبة المخالفين، كما في حالة السلطة السيادية، بينما تعمل السلطة التأديبية من خلال إنشاء قواعد ومعايير يتوقع من الأفراد الالتزام بها من أجل اعتبارهم أعضاء “عاديين” أو “منتجين” في المجتمع.
في هذا كلّه نجدُ السبب الذي يجعلُ مفهوم تقسيم المحسوس الذي يشير عموماً عند جاك رنسيير إلى الأنماط والأشكال المتبعة في تقسيم أعضاء الجماعة الاجتماعية حجة مركزية في الثقافة المرئية. رنسيير يُعرّفُهُ بأنّه:
“نظامٌ للأجساد يتولى تعريف نظام التوزيع والتخصيص لطرائق الفعل وطرائق الوجود وطرائق القول؛ ويشرف على أن تظل هذه الأجساد معينة، بالاسم، إلى موقع محدد ومهمة محددة. وهو نظام ما يرى وما يقال، المنوط به الإشراف على أن يكون نشاطٌ بعينه مرئيًا ونشاطٌ آخر غير مرئي، كلامٌ بعينه مفهومٌ لأنه خطاب وآخر غير مفهومٍ لأنه إزعاج”.
ثمّة تقسيمةٌ هرميّة للموجودات المحسوسةِ يحتجُّ عليها رنسيير، ويعتبرُ أنّهُ مناصرٌ دائمٌ للأجزاءِ المُهملة، المُهمّشة، غير المسموحِ لها بأن تكون مرئية، إنّهُ احتجاجٌ على نظامِ القوّة، القادرة على فرضِ القواعدِ والقوانين، ورنسيير تلميذُ الماركسيين والبنيويين، نظامُ المحسوسات بالنسبةِ لهُ مملوكٌ من قبل تلك القوّة، وبالتالي فإنه يقفُ إلى جانبِ الأجزاء غير المرئيةِ. وهو احتجاجٌ فنيٌّ بالضرورة، سوى عن أنّهُ يميلُ لتجريمِ الانحياز وعدم المساواة. لكلِّ لوحةٍ في العالم أوجهٌ عدّة. ثمّة من يُقرّرُ ذلك. وجهُ اللوحةِ قد يُباعُ بأرقامٍ قياسيّة، لكن، من يلتفتُ إلى ما تخفيهِ خلفَ كواليسها ما قيمةُ غير المرئيّ قياسًا بالمرئي؟ ومن وزّعَ الأدوار ككلّ وسمحَ وقرّر؟!
ناقشَ ميشال فوكو الفكرة من خلالِ لوحةِ وصيفاتِ الشرف للرسّام الإسباني دييغو بلاسكوث (١٥٩٩ – ١٦٦٠) والتي يمكنُ اعتبارُها لوحةً داخلَ اللوحة، إذ أرادَ بلاسكوث أن يرسمَ نفسهُ بينما يرسمُ ملكَ وملكة إسبانيا. لوحتانِ في لوحة واحدة، ولكلّ منهما تكوينُهُ الخاصّ المختلف عن الآخر، ثمّةَ مجموعةُ أبعادٍ في اللوحتين، ولكلّ بُعدٍ زاويةُ نظرٍ، ولكلُّ زاويةِ نظرٍ مرئيٌّ ولا مرئيّ. نحن لا نرى الملك والملكة في لوحةِ وصيفاتِ الشرف إلا من خلال مرآةٍ في صدرِ اللوحة، يظهرُ من خلالها وجهيهما، بينما ما نراهُ نحنُ في اللوحة، بعيدًا عن محتوى المرآة، هو الأميرة الصغيرة ابنتهما ووصيفاتها، بالإضافة إلى بلاسكوث نفسه، الذي يبدو على يسارِ اللوحةِ التي نراها، يرسمُ لوحةً يراها كلّ من نراهم، ولا نراها نحن! ومن هنا، فإنّ مسألةَ تحديدِ الأهميّة من خلالِ المرئيّ أو غير المرئيّ مسألة نسبيّة تمامًا، إذ ليس بالضرورةِ أن يكون المرئيّ هو الأكثر أهميّة وحاجةً للتفكّر. بعضُ أهميّةِ الميتافيزيقيا ينبعُ من هنا، من المجهول، غير المرئيّ، وما قد يُخفيه.
يرفضُ عالمُ الجمال رنسيير فكرةَ التمييز وعالمها ونظام حياتِها. ذلك هو احتجاج رنسيير، ولهذا هو مركزيّ في الثقافة المرئية.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن رنسيير ولدَ في العام ١٩٤٠، أي في السنة الثانية من الحرب العالمية الثانية، وشهد، بالتالي، بشكلٍ مباشرٍ إمّا في السنوات الخمس الأولى من طفولته، أو بشكلٍ غير مباشر عبر ما يرشحُ من وسائل الإعلام في سنواته اللاحقة، موجةً رهيبة ومشينة في التاريخ البشري فيما يتعلق بالتمييز العنصري. فعلى الرغم من أنّ التمييز العنصري، القائم على أساس العنصر، أو الجنس، أو الأساس القوميّ والعرقي، أو اللغة، أو الدين، أو المولد، أو الرأي السياسي، أو النسب أو اللون إلخ… بدأ، وأخذَ صفاتٍ وتمّ تأريخهُ بمرحلةٍ تسبق مرحلة الحرب العالمية الثانية بقرون، إذا ما تذكّرنا أنّ نظام العبودية الذي سادَ في روما أيام الإمبراطورية الرومانية هو نظامٌ عنصريّ، وأنّ العنصرية لم تتوقّف منذُ بدايةِ التأريخِ لها حتى العصر الحالي. لكنّ القرن العشرين، منذُ بداياتِهِ وحتى نهايتهِ شهدَ موجاتٍ شائنة من العنصرية. وفي السياقِ ذاتهِ، وخدمةً لأغراضٍ سامّةٍ وشرّيرة تمّ استخدامُ الألوان، لا في إطارٍ جماليٍّ فنيٍّ كما هو مُتوقّعٌ من الألوان، بل في المساعدةِ على التفرقة والتمييز.
أُجبِرَ اليهودُ في الحقبةِ النازيةِ على وضعِ إشاراتٍ بألوانٍ معيّنة على أذرعهم لتمييزهم عن غير اليهود، كذلك فرض النظامُ الشيوعيُّ سلوكًا مماثلًا على أولئكَ الذين يخرجون عن طاعة الحزب، أو يختلفون معه.
وليسَ استثناءً استخدام الألوان في إطارٍ ينافي عملها الجماليّ، إذ لطالما فرض نظامُ قوّةٍ ما (وفق التراتبية الهرميّة التي تحدّث عنها رنسيير وفوكو قبله) استخدامَ الألوان كأداةٍ من أدوات الانضباط والقوّة، حتى في أنظمة العدالة الجنائية والنظام الصحّي أو النظام التعليمي. استخدامٌ يدّعي منظروهُ، لتبرير استخدام الألوان في سياقٍ تمييزيّ، أنّ ثمة ألواناً معيّنةً ترتبطُ بسلوكيّاتٍ معيّنة لدى البشر.
وإذا كانت أزياءُ السجناء ذات اللونِ الموحّد من بين الأمثلة الكثيرة على هذا الاستخدام، كما في حالةِ أزياء المدارس الموحّدة في كثيرٍ من الدول، فإنّ العلامة الفارقة تبقى دائمًا مع اللون الأبيض.
يعودُ استخدامُ اللون الأبيض في خدمة العنصريّة إلى قرونٍ خلت. في أمريكا الاستعمارية، مثلًا، أُجبِرَ الأفارقةُ المُستعبَدون على ارتداء ملابسَ زاهية الألوان لتمييزهم كممتلكات. العنصريّةُ في استخدامٍ كهذا لا تتوقّفُ على تمييز الأفارقة عن سواهم من خلال ملابسهم، إنما هي وسيلةٌ من وسائل المُلّاك على تثبيت سطوتهم وهيمنتهم على الأجسادِ السوداء.
في أواسط القرن العشرين أيضًا، أُجبرَ ذوو البشرةِ الداكنة على الوقوف في وسائل النقل العامة تاركينَ المقاعد للبيض. كذا في جنوب أفريقيا ونظام الفصل العنصريّ.
لكنّ المسألةَ تتعلقُ بما هو أعمق وأكثر تجذرًا وعمقًا من القرن العشرين والممارسات التمييزية العنصرية كُلِّها خلاله، والتي ما هي إلا نتيجة لقرونٍ سبقت.
قبل هذا كُلِّه، ثمّة قوّة تفرضُ النظامَ والأعراف والتقاليد والأفكار والمعتقدات، ثمّة تراتبيّة هرميّة تقودُ إلى التسليم بأن يكون لباس العاملين والعاملات في قطّاع التمريض مثلًا أبيض، على اعتبارِ أنّهم/نّ ملائكةُ الرحمة.
لكن من قال إنّ الملائكةَ بيضاء بالضرورة؟ وهل من دافعٍ لإسباغِ اللون الأبيض على القيم الخيّرة سوى العنصريّة؟!
ثمّةَ من يُقرّرُ إذن، وهنا يتساءلُ زهير شاهين، عن أولئكَ الذين يمنحون القطع الهامشيّة أدوارها، ويمتلكون القدرة على إعداد ما سنتعاملُ معهُ لاحقًا على أنّهُ: التراث!
لم يغيّر اختفاءُ زهير شاهين، التّامُّ، عن المشهد الشعريّ السوريّ من قيمةِ الآثار الشحيحة المتداولة من قصائده، فالنبرةُ الخافتةُ اليائسة والتي لا يرشحُ منها أيُّ أملٍ كانت تطغى على اشتغالهِ الشعريّ. يبدأُ شاهين قصيدةَ أشكال نفسها بـ:
هنالك ذات ارتجالٍ أتينا
ولم تنتظرنا الأسرّةُ مفردةً
لم تُخبَّأ لنا قطعةٌ من ثيابٍ
ولم تنتظرنا الدُّمى
ولم تذبحِ الأمهاتُ لنا أيَّ زوجِ حمامٍ لنغفوَ
كنّا ننامُ اتقاءً لوجه السعالي
ونُحرَقُ بالنّارِ كي نفهما
لهذا أصيبتْ أصابعُنا بالعمىْ.
لم يكن زهير شاهين متفائلًا حينَ كتبَ قصيدتهُ هذه، على عكسِ رهطٍ كبيرٍ من السوريين شعراء وسياسيين وفنانين، وقد كان هؤلاء، لأسبابٍ مجهولةٍ تمامًا، متفائلين بالتغيير في سوريا عقبَ وفاةِ حافظ الأسد، تفاؤلٌ كان من بين أسباب اليأس لدى نموذجِ زهير شاهين، الذي كانَ، فيما يبدو، يرى الأمرَ برمّتهِ محض يأس. كان زهير رافضًا للتفاؤل، يقول في أشكال:
التفاؤلُ جرحٌ بلا وتدٍ
مقتلٌ هادئٌ دونما مجزرةْ
بعضُ قبرٍ صغيرٍ يضمُّكَ في مقبرةْ.
ثم يختمُ شاهين قصيدتهُ بـ:
ولا بدّ من عطشٍ كي نُقابلَ صوتَ المياهِ بهذا الفرح!
لنُتقنَ قوسَ قزحْ
ونُقلعَ عن تبغنا طائعين.
انقضت عشرونَ عامًا على كتابةِ قصيدةِ أشكال لزهير شاهين، كانت كافيةً لأن يُحسّ السوريون بأنّهُ ما من أملٍ يُنتَظرُ في ظروفِ بلادهم الحاليّة. ولا بدّ أنها كافية كي نفكّرَ في معنى المرئيّ واللا مرئيّ وقيمةِ كلّ منهما ومحدداتها.
يبدو أنّ أوانَ التفكيرِ في تساؤلِ زهير قد حانَ فعلًا:
من علّمَ الفيلَ ألا يصيرَ حصانًا
ومن يمنحُ القطعَ الهامشيّةَ أدوارَها؟!