ننشر فيما يلي النص الذي كتبه رائف زريق كخاتمة لكتاب «الرسائل» الذي صدر أخيراً باللغة العبرية. وقد صدر الكتاب بالأصل في نهاية الثمانينات وهو يحوي مجموعة من الرسائل التي تبادلها علناً الشاعران محمود درويش وسميح القاسم، وقد قام مشروع “مكتوب” الذي يعنى بترجمة مختارات من الأدب العربي للغة العبرية، بترجمة هذه الرسائل إلى اللغة العبرية، والنص الذي ننشره هنا هو ترجمة الخاتمة التي كتبها رائف زريق للقارئ العبري.
لم تُكتب هذه الرسائل في هذا الكتاب كي تصل إلى عيون القارئ اليهودي، وقد يكون هذا هو أحد الأسباب التي تجعل قراءَته لهذه النصوص ذات أهمية خاصة. خلال قراءة النصوص قد يكتشف القارئ مدى معرفةِ وسعةِ اطّلاع الشاعرين على الأدب العبري وقدرتهما على مناقشة الأفكار الواردة في هذا الأدب ومحاججة هؤلاء الكتّاب أمثال داليا رابيكوفيتش، حاييم جوري، س يزهار أو بيالك وذلك عدا عن معرفتهما العميقة بالتراث الديني اليهودي. من الصعب أن نتخيل شاعرا أو أديبا اسرائيليا بارزا مؤهلا ليدير حوارا من هذا النوع مع الأدب أو الشعر العربي. على الرغم من أنّ النصّ غير موجّه لليهود، وعلى الرغم من أنّ كثيرين لن يوافقوا على ما جاء به، إلّا أنّه نصّ واضح يصغي للصوت والثقافة العبرية، وقد يكون في اجتماع هذين الضدين سبب وجيه كي يوليه القارئ اهتماما خاصا ويجد فيه مغزى متميّزا.
لقد جرى تبادل هذه الرسائل خلال العامين 1986-1987، حيث نُشرت في صحيفة “اليوم السابع” التي كانت تصدر في باريس بتمويل من منظمة التحرير حين رئس تحريرها بلال الحسن. عام 1989 جُمعت هذه الرسائل ونُشرت ضمن كتاب حمل عنوان «الرسائل» صدر عن “دار العودة” في بيروت.
لقد اعتبرت هذه الرسائل حدثا مهمّا داخل المشهد الثقافي الفلسطيني، وانتظر الكثيرون بفارغ الصبر نشرها أسبوعيا على صفحات الجرائد. ولا زلت أذكر كيف كنت أنتظر من أسبوع لأسبوع نشر هذه الرسائل من على صفحات جريدة “الاتحاد” الحيفاوية، والتي كانت تنشرها بالتنسيق مع “اليوم السابع”.
إنّ ما يميّز هذه الرسائل، عدا عن كون كاتبيها شاعرين كبيرين، يكمن في حقيقة كون الشاعرين قد نشآ وترعرعا معا، وسكنا في نفس الشقة، وعملا في صحافة الحزب الشيوعي معا تحت رعاية الثلاثية الأبوية، إميل حبيبي، إميل توما، وتوفيق طوبي، هذه الثلاثية التي مهّدت لهما الأرضية المعنويّة والمادية للكتابة، وفتحت أمامهما صحافة الحزب وأعطتهما الدفعة الأولى في مسيرتهما الثقافية. وبالتالي يمكننا النظر إلى انفصالهما عن بعضهما باعتباره انفصالا عمّا لا يمكن فصله، وتفريق ما لا يمكن تفريقه وتجزئة ما لا يمكن تجزئته. وقد تكون المفارقة أنّ ابتعادهما وافتراقهما هو ما جعلهما ثنائية متلازمة، وكأنّ الفراق قد وحّدهما. ويمكننا القول أنّ رغبتهما في اللقاء والعناق شكّلت أو مثّلت رغبة شعب كامل أن يعود ليجتمع شمله ويتّحد من جديد.
مقابل النموذج الأبوي المؤسس لهذه الثلاثية -حبيبي، طوبي، توما- يعود درويش والقاسم في رسائلهما إلى نموذج آخر، ألا وهو نموذج الأخ الأكبر -نموذج راشد حسين- وهو الشاعر الذي لم يحظَ حتّى الآن بالاهتمام الكافي. راشد والذي كان يكبر الشاعرين سنّا، مواليد بلدة مصمص في المثلث، كان قد حاول في مطلع عمره أن يزاوج بين طموحه القومي العربي وبين نشاطه ضمن حركة مبام اليسارية الصهيونيّة، لا بل إنّه درج على الكتابة في صحافة الحركة وعاش مع امرأة يهودية. إلا أنّ التناقض بين مواقفه وبين حياته المعاشة أخذ بالازدياد وخاصّة بعد تأسيس حركة الأرض وارتفاع حساسيّته ووعيه القوميّ، ممّا أدّى به إلى أن يترك البلاد نهائيّا. بداية، تنقّل بين عواصم العالم العربيّ ولاقى خلال تنقّله الكثير من الخيبات، ممّا أدّى به إلى الهجرة مرّة أخرى حيث انتقل ليعيش في نيويورك، لكنّه بدل أن يعيش في المدينة مات مختنقا في شقّته نتيجة حريق شبّ فيها، موتا يراوح بين الصدفة والانتحار.
إنّ روح راشد حسين تطفو أحيانا من بين صفحات هذا الكتاب، وهي روح تجسّد شيئا من التراجيديا الفلسطينية: شاعر فلسطيني يحاول العيش في إسرائيل رغم التناقضات لكنّه يفشل، ويجرّب حظّه في العالم العربي ويفشل أيضا لينهي حياته هناك في غربته في نيويورك.
يقف هذان النموذجان -النموذج الأبوي ونموذج الأخ الأكبر- أمام عينيّ درويش والقاسم. ويمثّل هذان النموذجان طريقتين مختلفتين في التعامل مع النكبة. تمثّل الترويكا نموذج الفلسطيني الذي بقي محاولا التأقلم لواقع جديد، نوعا من الثبات في عالم ينهار، مقابل نموذج الأخ الأكبر، الذي يستأنف على هذا التأقلم، ويبدو أنّ كلّا من الشاعرين يرى أمام عينيه هذين النموذجين وقلق يساورهما فيما إذا كان مصيرهما سيكون مصير راشد حسين.
لقدّ تمّ تبادل هذه الرسائل في منتصف الثمانينيات، حين كنت وقتها طالبا في الجامعة العبرية في القدس. كانت تلك فترة ما بعد حرب لبنان، بعد مذبحة صبرا وشاتيلا، وخروج مقاتلي المنظمة من لبنان، لكن قبيل اندلاع الانتفاضة. الأحداث جميعها أعادت للأذهان خروجا آخر، ألا وهو الخروج من الأردن عام 1970 بعيد أيلول الأسود، وقد شعر الكثيرون من المثقفين الفلسطينيين بأنّ الفلسطينيّين هم شعب فائض عن الحاجة، وأصابتهم خيبة أمل كبيرة من العالم العربي وخياناته إبّان الحرب. ولعلّ أكثر ما يجسّد هذا المزاج والشعور بالخيبة، هو الجواب الذي أعطاه محمود درويش لصحفي سأله في تلك الفترة عن مشاريعه المستقبليّة، فأجابه: “إنّني أبحث عن حائط أعلّق عليه ثيابي”.
في تلك الفترة بالذات ترسّخت هويّتي الفلسطينيّة، ما أزال أذكر كيف استمعت مع زملائي الطلاب العرب، إلى سميح القاسم يلقي قصيدته المهداة إلى محمود درويش في قاعة الجامعة في جفعات رام. في تلك الفترة وخلال الانتقال المستمر بين شرق القدس وغربها، بين عاصمة دولة وعاصمة لدولة عتيدة، بين قدس “محرّرة” وقدس محتلّة، تعزّزت وترسّخت هويّتي الفلسطينية. إنّ اللقاء والانقطاع بين شرق القدس وغربها خلّف مساحة شاغرة كنت أحاول أن أملأها بالمعنى، وكانت “الرسائل” تعبّئ شيئا من هذه الهوة السحيقة التي كنت أشعرها.
لكن سيكون من الخطأ اعتبار هذه الرسائل مجرّد حديث في السياسة، أو حديث حول الحنين للوطن المسلوب، إذ أنها تنشغل بأسئلة أخرى مثل أسئلة الكتابة والشعر والإبداع عموما، وأكثر ما تجسّده هذه الرسائل هو كيفيّة التمام البيت الشخصي وبيت الجماعة/الوطن، وكيف تلتقي العائلة مع الشعب وكيف يرتبط الشعر بالسياسة. إنّ كتابات كلا الشاعرين، على أنواعها، تتنفّس الوطن تنفّسا، وفي حين كلّ منهما يحاول أن يحكي قصّته الشخصيّة، يجد نفسه يحكي قصّته الجماعية.
الأمر لافت وواضح أكثر عندما يجري الحديث عن محمود درويش، الذي عاش التجارب الفلسطينيّة جميعها: عاش تحت الحكم العسكري في الجليل في سنوات الخمسين والستين، عاش حرب لبنان، وعاش في المنفى في باريس وتونس، وأخيرا عاش تحت الاحتلال في رام الله وعاش تحت الحصار إبّان الانتفاضة الثانية. وعند درويش خسارة البيت وخسارة الوطن مرتبطتان. وعندما أراد أن يصف خساراته الشخصية وجد نفسه يتحدّث عن خسارة الوطن، وعندما تحدّث عن الوطن تحدّث عن نفسه وعن خساراته. لكن رغم ذلك فقد أصرّ درويش على مهنة الشعر وعلى استقلاليته النسبية، وأصرّ على ألّا يكون الشعر مجرّد رديف للسياسة، إنّما عليه أن يخضع بالأساس لمعايير جماليّة. إلّا أنّ ذلك لم يكن يعني بالنسبة له انعزالية نرجسية لشاعر يتحدّث مع نفسه، إنّما نوع من الإصرار على أن للشعر خاصيته وطريقته الخاصة لحدس الكون وأنّه ليس مجرّد أداة اختزالية في يد السياسة.
القاسم هو أيضا مزج مشروع الجماعة ومشروعه الشعريّ معا. لقد ولد القاسم في مدينة الزرقاء في الأردن عام 1939، مع انه ينحدر من عائلة من بلدة الرامة في الجليل الأعلى، إلّا أنّ عائلته مكثت تلك الفترة في الأردن لأنّ أبيه كان يؤدي مهمّة رسمية في الأردن. مع عودته إلى بلدته الأصل، الرامة، درس في المدرسة الثانويّة في الناصرة وتأثّر بالفكر القوميّ الناصريّ حتّى هزيمة حزيران 1967 حين انضمّ إلى صفوف الحزب الشيوعيّ. رفض القاسم الخدمة في الجيش الاسرائيليّ -علما بأنّه درزي الأصل- وبالتالي سجن، كما اعتقل عدة مرات لنشاطه السياسي. وكما هو الحال مع درويش، كذلك مع القاسم، فقد ارتبط الهمّ الفرديّ مع همّ الجماعة في كتاباته الشعريّة.
إنّ كتابات القاسم مسكونة بهمّ وعبء الحكم الإسرائيلي وتتخلّلها رغبة في أن يكون “هناك” في أحضان العالم العربي، كما أنّ كتابة درويش الذي اختار المنفى مسكونة بالرغبة لأن يكون “هنا” في حضن العائلة والوطن. إلّا أنّ كلّا منهما يشكّك في إمكانية الخلاص من الشعور بالغربة والاغتراب، لأنّ الغربة قائمة “هنا” والغربة “هناك”. إنّ الحرية خارج الوطن تبقى ناقصة وخاوية، كما قالت حنة أرندت في كتابها عن أسس التوتاليتارية، إذ أنّ الخسارة الأكبر ليست الحرمان من حرّيّة التعبير، إنّما الحرمان من الانتماء إلى وطن وجماعة يكون فيها للتعبير معنى ومغزى وجمهور يستمع ويتفاعل مع التعابير، وعليه لا حرية بدون جماعة وبدون وطن. إنّ السفر والهجرة لا معنى لهما دون الوطن، لأنّ الإنسان حين يهاجر، فإنّه يهاجر ليبعد عن وطن، وعندما يسافر فإنّه يترك وطنا خلفه، لكن في غياب الوطن، فإنّ الهجرة ليست هجرة والسفر ليس سفرا إنّما مجرّد تيه مستمر.
مع ذلك، لم يسجد القاسم ولا درويش للوطن، للدولة أو للعلم. في أكثر من مناسبة صرّح درويش أنه معنيّ أن تقوم دولة فلسطين حتّى يكون بمقدوره أن يعيش في المنفى، وأنّه بحاجة إلى عَلَم كي يستطيع في نهاية الأمر أن يستعمله كقطعة قماش كخرقة لا أكثر. كذلك القاسم الذي استمر في العيش داخل وطنه، عاش في نوع من المنفى، لأنّ الوطن بدون الحرية لهو نوع من المنفى.
لقد شعر كلا الشاعرين بأنّ فلسطين/المكان، قد تحرّك من مكانه، وغيّر وجهه وغيّر هويّته، وهل فلسطين التي فقدت أهلها هي نفسها فلسطين؟ فكما أنّه لا حرية بلا وطن، لا وطن بدون حرية، وهكذا فإنّ المنفى الفلسطيني يأخذ أشكالا متعدّدة. المنفى ليس موقعا، إنّما تموقع في العالم. بالنسبة للفلسطيني فإنّ شيئا من “الهنا” أي الداخل، يبقى “هناك” في الخارج، وشيء ما في الخارج “هناك” يبحث عن “هنا”، الخارج ليس خارجا تماما، والداخل ليس داخلا تماما. الحديث ليس فقط عن تجليات مختلفة للمنفى، إنّما الحديث عن استحالة نفي المنفى كما نفته الصهيونيّة. هذه هي الصرخة التي تصدر من بين أوراق الكتاب.
يبقى السؤال، ما معنى هذه “الرسائل” اليوم بعد ثلاثين سنة؟ في نهاية الأمر، وبالرغم من أنه تفصلنا عن هذه الرسائل انتفاضتان وأوسلو واحد، وحلم دولة، وحلم عودة آخذ في التلاشي، إلّا أنّ الفكرة الأساسية والمنطق الصميمي الذي يصدر من هذه الرسائل ما يزال ذا صلة بالرغم من أنّه يبدو لنا أن الصهيونيّة انتصرت وأنّ المشروع الوطني الفلسطيني قد هزم. الحقيقة الماثلة أمامنا هي أنّه على أرض فلسطين يعيش شعبان، ومن الممكن التحايل على هذه الحقيقة بعدّةِ طرق لإخفائها: بناء جدار يخفي حقيقة الاحتلال، تشريع قانون القومية، عن طريق تصريحات تنفي وجود الفلسطينيين، لكنّ كلّ ذلك ليس بمقدوره أن يلغي ضرورة الحسم في التحدي الذي وضعه درويش بنفسه في تلك الرسالة التاريخية التي وقّعها عشرات المثقفين الفلسطينيين عام ألفين وذلك قبل كامب ديفيد وقبل اندلاع الانتفاضة الثانية، والتي نُشرت في صحيفة هآرتس. وقد جاء في تلك الرسالة أنّ الفلسطينيّين يقدمون تنازلا تاريخيا حين يقبلون بإقامة دولتهم على ما تبقّى من أراضي فلسطين التاريخية والتي تعادل 22% من مساحة وطنهم، إلّا أنّ حكومات إسرائيل تقوم بخنق امكانية هذا الحل. إذا كان الحديث عن حلّ وسط تاريخيّ فإنّ ذلك يقضي أن يكون مؤسّسا على معايير العدالة التاريخيّة من ناحية، وعلى ضرورات العيش المشترك في المستقبل، ومن الممكن أن يأخذ شكلين: دولة فلسطينيّة مستقلّة إلى جانب دولة إسرائيل أو دولة واحدة ثنائيّة القوميّة متساوية لكلا الشعبين. إلّا أنّ حكومات إسرائيل تمنع بشكل مثابر تحقيق أيّ من الحلّين، إلّا أنّه أيّة تسوية لا تأخذ بالحسبان هذه المبادئ لن يكتب لها الدّوام أبدا.
كما أشرت في البداية، فهناك أهمية خاصة بأن يقرأ اليهوديّ الإسرائيليّ هذه الرسائل بالرغم من أنّها غير موجّهة إليه، لم تكتب له، وليست جزءا من مفاوضات، ولا تسعى كي تقدّم حلولا للصراع. بهذا المعنى فإنّ الرسائل تشكّل نوعا من الاستراحة المؤقّتة من المحاولة المستمرّة -والمفهومة طبعا- للإجابة على السؤال: ماذا الآن؟ إلى أين نذهب من هنا؟ وكيف يمكن حلّ الصراع؟
إنّ الرغبة في حلّ الصراع أصبحت عائقا أمام فهمه وفي فهم المسار الذي أوصلنا إلى هنا، وفي أحيان كثيرة تشكّل عائقا أمام قدرة الفلسطينيّ أن يحكي روايته، وعائقا أمام قدرة اليهوديّ على الإصغاء إلى قصتنا. وهكذا فمن كثرة الاقتراحات للحلول لم نعد قادرين على رؤية المشكلة، وأخذت تغيب عن أعيننا، ومن كثرة الحديث عن المستقبل، لم نعد قادرين على رؤية الحاضر أو الماضي. ومن كثرة الرغبة في التوصّل إلى اتّفاق ليغلق الملف، لم تعد هناك قدرة على الانفتاح. لم يعد الفلسطينيّ قادرا أن يروي قصّته دون أن يعرّض نفسه لوابل من الأسئلة حول الطريقة التي يرى فيها الحل المستقبلي. لم يعد قادرا أن يقول: فلسطين من النهر إلى البحر هي بلادي وموطني، كانت ولا تزال. إنّ العالم الغربي يلغي على الفلسطينيّ مشاعر الذنب الخاصة به، ويضع شرطا مقدّما لحقّ الفلسطينيّ بالكلام، وكأنّ الفلسطينيّ بحاجة إلى إذن كي يروي روايته. بموجب هذا المنطق فإنّه فقط أولئك الذين يملكون حلّا جاهزا متكاملا مسموح لهم بالكلام، وسرد الرواية. لكن من غير الممكن أن يتبلور حلّ حقيقي دون أن يحكي الفلسطينيّ الرواية أولا، مع إرجاءٍ مؤقّت لسؤال الحل المنشود.
إنّ النص الذي بين أيدينا يستأنف على التوجّه الذي يفرض على الفلسطينيّ أن يستأذن قبل أن يروي روايته، وبين يديّ القارئ اليهوديّ هو نصّ يضع الرواية الفلسطينيّة في المركز، ويقول إنّ هناك مسألة فلسطينيّة يجب التعامل معها، وليس فقط مسألة يهوديّة، بالرغم من الارتباط بين الاثنتين وصعوبة إيجاد حلّ لواحدة دون الأخرى. إنّ وضع الفلسطينيّ وروايته في المركز قد تشكّل تهديدا لليهوديّ المتوسط لأنها أشبه “بعودة المكبوت” ولأنها تخلخل الوجود اليهوديّ الجمعيّ. ليس من السهل التعامل مع هذا التهديد، وإن كان واجب الجمهور اليهودي التعامل معه ومواجهته، إلّا أنّه للفلسطينيّ دور في هذه العمليّة. أعتقد أنّه من الضروري استبدال مشاعر الخوف بمشاعر التحرّر وقراءة الرسائل هي مناسبة للبدء بذلك. طبعا قراءة الرسائل من الممكن أن تسبب نوعا من الشرخ لدى القارئ، لكن قد يكون الشرخ هو بداية رحلة التحرّر، تماما كما هو الأمر في العلاج النفسيّ، إذ أنّ لحظة الأزمة والتي تشكّل لحظة تهديد للمتعالج هي نفسها اللحظة التي تعد بالتجاوز والتحرر.