يقف المرء حائرًا أمام النص الذي كتبته زينة الحلبي في موقع الجمهورية في 20.6.20 بعنوان “محمود درويش وأنقاض النبوءة”، تنبع هذه الحيرة من حقيقة أنّها استاذة جامعية ولا يمكن التعاطي مع مقالتها باعتبارها جزءاً من الموجة الشعبوية الدارجة والتي اجتاحت المنطقة العربية على إثر نشر مقالة سليم بركات. إنّ نص زينة هو نص يعتمد على عمل أوسع وأشمل ويشكّل جزءًا من كتابها عن المثقّف العربي ونبوءته في اللحظة المعاصرة. وعليه فالحديث يدور عن نص مدروس تقدّمه محاضِرة جامعية وناقدة في مجال الأدب. وهذا هو سبب العجب والحيرة: كيف يمكن لكاتبة وناقدة أن تكتب نصًا يفتقد إلى التماسك المنطقي ولا يميّز بين المصطلحات والمفاهيم الأساسية، قافزاً عن نصوص درويش وسيرته. أسلوب ما بعد حداثي مع مضمون ايديولوجي مغرق في انغلاقه لأنه لا يتعامل مع النصوص إنما يقيم فوقها، ولا يتعاطى مع التاريخ إنما يسكن مطمئنًا في عالم المفاهيم الجاهزة والقوالب الفكرية المعدّة سلفا. المقال برأيي يمثّل أحسن تمثيل كيف يمكن أن تتحوّل التفكيكية إلى دوغما عقيمة، وتتحول مهمّة تحطيم الأصنام بحدّ ذاتها إلى مشروع صنمي. سأحاول -قدر المستطاع- أن أوضح وأدعم موقفي من خلال العودة إلى نصوص درويش نفسه.
سأتقدم في مقالي بالطريقة التالية. بداية سأرسم صورة لمحمود درويش، كما رسمتها زينة الحلبي، وكيفية تنميطه والدور الذي لعبه. بعد ذلك سأستعرض المطبات الفكرية الكثيرة التي تقع فيها زينة الحلبي، خلطها للأمور والمفاهيم والمصطلحات، وبعد ذلك سأحاول ترسيم صورة أخرى لدرويش كما تظهر في نصوصه وفي سيرته، وسأحاول أن أظهر أنّ صورة محمود درويش الشاعر النبي هي مجرد صورة موجودة في خيال الكاتبة فقط، ليس إلّا، وأنها تكذّب نبوءة غير موجودة، وتحطّم صنمًا وهميًّا، فلا أصنام ولا نبوة. قد تكون هنالك حاجة لتحطيم نموذج معيّن لنبيّ ما ولصنم ما، لكن هذا النبي وهذا الصنم لا علاقة لهما بدرويش لا من قريب ولا من بعيد.
توظّف الحلبي تعبير “النبوة” أو “الشاعر النبي” ليس أقل من 33 مرة في الإشارة إلى محمود درويش، وفي المقابل فإنّها تشير أو تستشهد فقط من بثلاثة نصوص لدرويش -وتسيء فهمها- لتثبت نظريتها عن الشاعر النبي، كان أحرى بالناقدة الأدبية أن تستشهد بثلاثة وثلاثين نصًّا وأن تصدر حكمها ثلاث مرات، بدل أن تفعل العكس. إنّ هذا التكثيف الرتيب والمعاد لمقولة الشاعر -النبي- إنما يدلّ على أنّ الحكم سابق على النص، وأنّ التهمة جاهزة ويجري البحث عن متّهم.
الشاعر والطليعة السياسية
المشكلة الأساسية في مقالة زينة الحلبي أنها لا تنتبه إلى كونها تتعامل أولاً وأخيراً مع شاعر من صنف معيّن، وأنه يجب محاسبة الشاعر أولاً وأخيراً على شعره وشاعريته. فبشكل استطرادي غير واع ودون أن تنتبه، تتحوّل الحلبي من الحديث عن الشاعر (النبي طبعًا) إلى الحديث عن المثقف بشكل عام، والمثقف العربي بشكل خاص، لا بل أكثر من ذلك، فهي تتحوّل في مرحلة معيّنة للحديث عن “نبوة الشاعر وقدرته على قيادة شعبه التائه نحو النصر”، وفي مكان آخر تتحدّث عن الشاعر (النبي) الذي يقول الحق “ويقود شعبه نحو أرض الميعاد”.
وبالشكل نفسه، تنتقل الحلبي للحديث ليس فقط عن درويش المثقف الذي يقود شعبه التائه، إنّما تضع درويش في سلة واحدة مع غيره من المثقفين العرب وتكتب “فمثلما عبّر درويش عن رؤيته للخلاص والتحرير، عبّر أيضًا عن روح تنويريّة عربيّة كما فعل مثقّفون آخرون قبله”. ثمّ تنتقل للحديث عن المثقفين العرب “بين التقليد والحداثة والصراع على السلطة الكامن في علاقة الشرق بالغرب”، وتستطرد لتخبرنا أن فهم المثقف كقوة محدّثة وتحديثية بقي سائدًا. ثمّ تدخل في حديث عام عن دور المثقّف ومقاومة إغراء السلطة، وتعزو لدرويش دور المثقف التنويري، والذي يحمل مهمة “تحقيق الخلاص الجماعي”، والذي “يقود شعبه المنفي نحو النصر”، وهذا المثقف الدرويشي النبي يصبح برأي الحلبي “قوّة تحديثية، مثقّف يُعلْمِنُ ما هو إلهيّ بفضل قوّته وقدرته المطلقة على قيادة التغيير” وتصل حبكة الحلبي ذروتها عندما تخبرنا -بما يشبه لحظة الاكتشاف- أنه “لم تؤدِّ نبوّة درويش إلى المستقبل الذي تصوّرَه. ولم تؤدِّ صورة المثقف-النبيّ إلى التحرّر والحرية والعدالة”، وتعزو الحلبي لدرويش نوعًا من الإيمان بحتمية التطوّر التاريخي نحو مسار التحرر وتخبرنا أنه “بات الإيمان بالتغيير التاريخيّ الذي يستند تحديدًا إلى الانتقال بالزمن بشكل انسيابيّ وثابت من الماضي إلى الحاضر ثم إلى المستقبل، أي ماضي الوحدة وحاضر المأساة ومستقبل التحرّر، بات هذا الإيمان مستحيلًا. ولكنْ كيف نعرف ذلك؟ نعرف لأنّنا الآن، هنا، داخل هذا المستقبل نفسه”.
سأكتفي بهذا القدر من الاقتباسات لأنها كافية لإظهار سوء الفهم الذي وقعت فيه الحلبي، والذي قادها من حفرة إلى حفرة أعمق بحيث لم تعد قادرة على رؤية درويش أو نصّه على الإطلاق.
لنبدأ من صلب الموضوع، الحلبي لا تميّز بين الشاعر النبي وبين الشاعر الحكيم، ولا تميّز بين النبوة والحكمة. النبوة تدّعي بُعد النظر إلى الأمام، وترى ما لا يراه الآخرون، والنبي يطلب من شعبه أن يسير وراءه، ويسير هو في المقدمة مدجّجًا بالمعرفة واليقين ويقود شعبه للخلاص. لكن الحكيم -ودرويش في هذا السياق هو الشاعر الحكيم- هو الذي يتفرّس في جراح الماضي ويعطيها المعنى، ويضمّد جراح شعبه بالشعر أو كما قال هو “إنّ الشعر فرح غامض بالتغلّب على الصعوبة والخسارة” (حيرة العائد، مهنة الشاعر، 151).
إنّ شاعريّة درويش -عند الحديث عن فلسطين- في جوهرها تأمّليّة، تنظر إلى الحدث بأثر رجعيّ، تنظر إلى الوراء وليس إلى الغد، لا تبشّر بالمستقبل بقدر ما تعصر التاريخ كي تقدّم نبيذ الحكمة موشّحًا بحزن الخسارة الدائم. ونظرة محمود درويش بهذا المعنى هي أقرب الى نظرة طائر المنيرفا -في فلسفة هيغل- والذي يبسط جناحيّ الحكمة مع الغسق، أي بعد أن ينجلي غبار النهار وتتضح صورة الواقع.
وبالتالي، فأن درويش كان قد تنازل مبكرًا عن ساحات الفروسية ولغة الحماسة ليستقر، في مقاعد المراقبة ومقاعد المراقبة لا تعني أنه كان على حيادٍ في معركة شعبه المستمرة، ضد أعدائه، لكنه آثر أنّ يكون على ضفاف العمل السياسي دائمًا وأبدًا حتى عندما كان عضوًا في قيادة المنظمة.
كان درويش على قدر عالٍ من الحدس أنّ هنالك توترًا غير قابل للحل بين حياة العمل والممارسة السياسيّة وحياة التأمل الشعري التي تستوجب عليه أنّ يعيش على ضفاف الوقت كي يتسنى له التفرس في التفاصيل واستخلاص المعنى من دون أن يكون مستهلَكًا ومستنزَفًا وقابلاً للابتزاز بالسؤال الذي يشغل بال رجل السياسة والمُثقف السياسي والذي يجب أنّ يجيب في كل لحظة عن السؤال المُلِح: ما العمل غدًا؟ بلباقة درويشية تحرر محمود من عبء الإجابة عن السؤال من دون أنّ يتحرر من عبء التفكير فيه. لكنه كشاعر تبنى شاعريته واحترف الجمال، كان عليه أن يرجئ عبء سؤال المستقبل عن كاهل عينيه حتى يكون بمقدوره أنّ ينصت إلى أصواتِ الحاضر وأن يرى الماضي بوضوح.
إن الانشغال السياسي المستمر بمهمات المستقبل تحمل دائمًا في داخلها عنفًا مضمرًا تجاه الحاضر، لأن المستقبل يعني التركيز على الأهداف والغايات، وبالتالي فأنه يميل للتعامل مع اللحظة الراهنة باعتبارها مجرد أداة نحو المستقبل، وعليه فإن هذا المستقبل يُشّكِل تهديدًا للحاضر ويُمارس العنف عليه ويحاول مصادرته، ويحرم الشاعر فرصة التأمل المستفيض فيه. وعندما نقول إنّ الجمال يأسرنا فإننا نقصد ذلك تماماً؛ نقصد أننا ننحبس فيه ونرجئ بقية الأسئلة والاعتبارات الأخرى كالمصلحة والمنفعة والأهداف والسياسية وحتى الأخلاق، وبهذا المعنى نصير أسرى اللحظة الجماليّة. وعملية الخلق الجمالي تفترض هذا الانحباس لدى الشاعر. عليه، لم يكتب درويش أثناء الحدث، لأنه أثناء الحدث يكون المرء مشغولاً بصناعة الواقع لا مراقبته والبحث عن مغزاه.
تكمن مشكلة الحلبي الأولى في تعاملها مع دوريش ودوره. درويش كان شاعرًا قبل وبعد كل شيء، وكان شاعرًا من نوع معين، شاعرًا تأمليًا حسيًا وفلسفيًا في آن واحد. لم يكن شاعر القبيلة ولم يكن لديه أي مشروع لبث الحماسة ولا لقيادة شعبه (القصيدة الوحيدة التي كتبها في خضم الحدث كانت “عابرون في كلام عابر” وآثر ألا ينشرها في دواوينه).
من هنا، لا يمكن التعامل مع درويش باعتباره مجرد مثقف (مثقف بمعنى من يلعب دور المعارض المشاكس، الذي يتكئ على الأخلاق في وجه السلطة والقوة) ولا باعتباره قائدًا سياسيًا ولا طليعة سياسية، لأنه لم يكن هناك ولم يرغب أبدًا بهذا الدور، وبالتالي فإن الحديث عن فشل الشاعر-النبي ليس في مكانه وينم عن عدم فهم لدوريش ومشروعه الشعري. وليس بالإمكان أنّ نسقط تحليلات عامة عن دور المثقف القومي العربي عمومًا باعتبارها تحليلات صالحة على محمود درويش وما الحديث عن دور درويش باعتباره من يقود “شعبه المنفي نحو النصر” أو بإعتباره “قوة تحديثية ومثقف يُعَلمِن ما هو إلهي بفعل قوته وقدرته المطلقة على قيادة التغيير”، ما هو إلا سوء فهم مطبق.
كان من الممكن أن يتخذ مقال الحلبي منحى آخر، كأن تختار مناقشة دور درويش كمثقف ناشط في الحقل الثقافي، باعتباره محررًا لمجلة “الكرمل” وعمله السابق في مجلة “شؤون فلسطينية” أو نشاطه في اتحاد الكتاب، إلا أنها اختارت ألا تسلك هذا الطريق وأن تثبت نظريتها من خلال شعره ومن خلال تبنيها لمقولة الشاعر-النبي.
الشواهد والدلائل…
تورد الحلبي ثلاثة نصوص/مشاهد تعتقد أنها بواسطتها تؤسس لمقولتها المتكررة حول الشاعر -النبي. لم أفهم كيف من الممكن لهذه الدلائل الثلاث أن تؤدّي إلى الحكم الذي أطلقته الحلبي، إلّا إذا كان الحكم مكتوبًا أصلًا قبل النظر في الأدلّة.
تشير الحلبي بداية إلى حادثة حصلت أثناء قراءة درويش لقصيدة يتحدّث فيها عن لقائه بريتسوس. وتقول القصيدة:
“في دار بابلو نيرودا، تذكرْت
ريتسوس. كانت أثينا ترحبُ بالقادمين
من البحر، في مسْرح دائريّ مضاء
بصرخة ريتسوس:
آه فلسطين، يا اسم التراب ويا اسم السماء ستنتصرين”
وتشير الحلبي إلى هذه اللحظة باعتبارها لحظة نبوءة يرى فيها الشاعر فلسطين منتصرة، وباعتبارها لحظة يتمّ فيها الحديث عن “مستقبل فلسطين التي ستتوّج بانتصار حتميّ”، ثمّ تخبرنا بالمفاجأة الحزينة أنّ هذا “وعد بنصر لم يتحقق”.
لا أعرف حقيقة من أين أبدأ. سأبدأ من النهاية. كيف تنزلق الناقدة الأدبية من الحديث عن النبوءة -أي التنبّؤ بما يخبّئه المستقبل- إلى الحديث عن “وعد”؟ وهل الإثنان سيّان عندها؟ لكن لنترك هذا الانزلاق اللغوي الفكري جانباً. أين النبوءة في النص الذي قرأه درويش وأين الإيمان بالنصر الحتمي؟
لعله من المفيد أن ننتبه أنّ الذي يتحدّث عن انتصار فلسطين هو ريتسوس وليس درويش أصلاً. وأنّ المقام الذي قيل فيه هذا الكلام هو لحظة استقبال ريتسوس لدرويش -القادم من البحر- (أي من التيه! التيه الإغريقي القديم والتيه الفلسطيني الحديث). فهل من المعقول التعامل مع صرخة ريتسوس باعتبارها نبوءة، لا بل وعداً حتميًّا، بانتصار فلسطين، تُعزى إلى درويش؟ أليس من الممكن أن نفسر صرخة ريتسوس هذه باعتبارها صرخة يعزّي فيها شاعر وجد أرضه، شاعرًا آخر لا يزال يبحث عن موطئ قدم؟ أليس من الوارد أدبيًّا أن نتعاطى مع صرخة ريتسوس باعتبارها أشبه بالتعزية الممزوجة بالأمنية من إمرأة قد أنجبت ووضعت مولودها لامرأة لا تزال تحاول الإنجاب؟ وهل يكفي أن يجد الناقد كلمة “ينتصر” داخل النص كي ينقضّ عليها ليبني عليها نظرية كاملة متكاملة من دون الالتفات إلى الظرف الذي قيلت فيه، ومن قالها لمن وفي أي سياق؟ وهل يكفي ذلك لنقول أنّ درويش أطلق في نصّه هذا “وعدًا بنصر لم يتحقّق”؟
هل تستوي هذه القراءة لدرويش مع ما كتبه درويش في تلك الفترة عشرات المرات. هل يستوي ذلك مع الفقرة التي أنهى فيها مديح الظلّ العالي كاتبًا:
“ما أوسع الثورة
ما أضيق الرحلة
ما أكبر الفكرة
ما أصغر الدولة” (ديوان محمود درويش، الجزء الثاني، 177)
وهل وقع تحت يديّ زينة الحلبي نصّ محمود درويش الذي ينهي فيه كتابه “ذاكرة للنسيان” والذي يقول، في فقرته الأخيرة تمامًا:
“البحر يمشي في الشوارع. البحر يتدلّى من النوافذ وأغصان الشجر اليابس. البحر يهبط من السماء ويدخل الغرفة. أزرق.. أبيض.. زبد.. موج. لا أحب البحر… لا أريد البحر لأني لا أرى ساحلًا، ولا حمامة، لا أرى في البحر غير البحر. لا أرى ساحلًا، لا أرى حمامة” (ذاكرة للنسيان، دار الأسوار عكا، 1987، 147).
وهل وقع تحت يديها نصّ استقالة محمود درويش على أثر التوقيع على اتفاقية أوسلو مثلاً، وهل تعلم مثلاً أنه كتب عام 1997 (السنة التي قرأ فيها في عمّان) افتتاحية لمجلّة الكرمل كان عنوانها “مرثية لسلام لم يولد بعد” (الكرمل، العدد 51، ربيع 1997)! وأنّه كتب في افتتاحية أخرى: “نحن لا نعاني من عقدة رمزية، لنعالجها بطريقة رمزية، كأن نقبل مقايضة السيادة برموزها والأرض باسمها الجميل. إنّ العلم الذي يرمز إلى استقلال بلادنا ليس هو الاستقلال. كما أنّ النشيد الوطني ليس بديلا عن الوطن” (الكرمل، العدد 58، شتاء 1999). وكتب في افتتاحية الكرمل مرة أخرى”إنّ السلام الحقيقي غير ممكن” (الكرمل، عدد 66، شتاء 2001).
هناك المزيد من الشواهد، لكنّني أكتفي بهذا القدر.
لم يكن درويش بحاجة إلى مرور الوقت ليعلم أنّه لا يابسة هناك ولا غصن زيتون. إلّا أنّ الحلبي لا تكتفي بتحليل نص درويش، إنّما تحيل إلى حادثة حصلت أثناء إلقاء القصيدة، إذ أنه خلال إلقائها وعندما يصل درويش إلى المقطع الذي يقول فيه “ستنتصر فلسطين”، يقف أحد المستمعين في القاعة ويهتف باسم الملك قائلًا “يعيش جلالة الملك المعظم”. تستحضر هنا الحلبي نصًّا كانت قد كتبته عريب طوقان، معلقة على الحادثة، وهو نص على ما يبدو محطّ إعجاب الحلبي وتتبنّى مضمونه، ويرد في النص ما يلي:
“لو انتقلنا بالزمن إلى الحاضر، فإنّ هتاف «يعيش جلالة الملك المعظّم» سيؤدّي اليوم بالتأكيد إلى أن يجمع الكاتب أوراقه، ويغادر، ويرفض الدعوات من هذه المؤسسة من الآن فصاعداً. فهناك، ببساطة، مؤسسات ثقافية أكثر للاختيار بينها، وهناك مفكّرون وفنّانون وفضاءات أوسع… لقد توزّعت السلطة الأخلاقية. بإمكان أيّ شخص أن يقول الحقيقة للسلطة. وعلى أيّ حال، فإنّ السلطة باتتْ تعرف الحقيقة.”
إن كانت الحلبي تعتقد أنّ محمود درويش كان جبانًا إلى حدّ معيّن، ولم يواجه سلطة الملك بسلطة الكلمة، وتأخّر عن قول الحقّ في وجه القوّة، كان حريّا بها أن تقوم بذلك، لا أن تتكئ على نصّ ليس لها. على أية حال فإنّ النصّ الذي أكتبه ليس نصًّا للدفاع عن بطولة درويش ولا جرأته -ولا هو ادّعى الجرأة والبطولة أبدًا- إنما دفاعًا عن شاعريّته، ورد التهم الأخرى عنه والتي وردت في مقال الحلبي.
قبل أن يكون مثقّفًا يواجه القوة، وقبل أن يكون قائدًا يقود شعبه نحو الاستقلال، وقبل أن يكون نبيًّا يعد شعبه بنصر محتوم، فقد كان درويش قبل كلّ شيء شاعرًا، وأخضع كل شيء في حياته كي ينجز مهمّته الشعريّة وكي يخطّ طريقه الشّعريّ ويكتب فلسطين وخساراتها شعرًا ويكتب عن الحب والحنين والنبيذ والمنفى والسجن والمرأة. قد يرى البعض أنّ هذا الخيار خاطئ -ولا أعرف في هذا السياق ما معنى الخطأ- وقد يعتقد البعض أنّه كان حريًّا بدرويش أن ينتحر شعريًّا، وأن يضع السياسة، أو حتى الأخلاق فوق كل اعتبار، وأن يجاهر بقول الحق في كلّ ظرف وفي كلّ زمان ولتكن النتيجة ما تكون، وليذهب الشعر إلى الجحيم. هذا رأي. وقد تلتقي عريب طوقان مع زينة الحلبي في هذا الرأي، لكنّي لا ألتقي معهما وأحمد الله أن درويش لم يستمع لنصيحة كهذه ولم ينتحر وأنّه ترك لنا زادًا شعريًّا كبيرًا.
لكن لنتأمّل قليلًا وبهدوء ما الذي تقترحه طوقان والحلبي، هل حقّا كان على درويش أن “يغادر ويرفض الدعوات من هذه المؤسسة من الآن فصاعداً”؟ وهل المؤسسة الداعية مسؤولة عن كل ما يحدث في القاعة، وهل عليها أن تستجوب كل من يدخل القاعة عن آرائه السياسية مثلا؟ وهل معقول أن نعطي شخصًا في القاعة حقّ الفيتو؟ وهل يمثّل هذا الشخص كل من في القاعة؟ أليس هناك واجب للشاعر تجاه بقية الجمهور؟ ثمّ هل مطلوب من شاعر لا يملك جنسية أو حقّ إقامة ثابت أن يعلن حرباً على شخص الملك وعلى دولة توافق على استضافته؟ هل مطلوب من الفلسطينيّ أن يخوض جميع المعارك من دون أن تكون له أرض أو وطن أو جواز سفر؟ وهل يقع على عاتقه وحده أن يثأر لكرامة عربية يتمّ انتهاكها يوميّا؟
قد يكون درويش شخصًا لا يمتاز بالجرأة، فليكن. وقد تكون هناك بعض المناسبات التي لم يقل فيها كلمة الحق في وجه السلطة -السلطة الفلسطينية- فليكن. إلّا أنه في نفس الوقت لم يضرب بسيف السلطة أبداً ولم يدافع عن أي نظام ولم يبرر أية جريمة سياسيّة.
أمّا المشهد الثاني الذي تلجأ إليه الحلبي كي تثبت مقولتها حول الشاعر- النبي، فهو مشهد من فيلم سيمون بيطون والذي يظهر فيه درويش على جبل نيبو يطلّ على فلسطين، كما أطلّ عليها النبي موسى، دون أن يدخلها، كما لم يستطع النبي موسى من دخول فلسطين.
وهنا أيضاً تقفز الحلبي وتنقضّ على المشهد باعتباره الدليل القاطع على شخصية الشاعر-النبي، إذ يقف الشاعر في نفس المكان الذي وقف فيه النبي موسى ونظر إلى فلسطين كما نظر النبي موسى وكلاهما لم يدخل. اكتمل المشهد إذاً وحضر الإثبات.
مرة أخرى تخطئ الحلبي في قراءة السياق تماماً.
إنّ ما جعل موسى نبيّا ليس وقوفه على جبل نيبو وإطلاله على فلسطين الموعودة، إنما ما جعله نبيًّا هو تواصله مع الرب، وترتيبه لخروج بني إسرائيل من مصر، والقيام بالعجائب، وشقّ البحر وفعل المستحيل. هذه هي نبوّته. عندما وقف هناك كانت نبوته قد انتهت تمامًا، وبالتالي فإنّ وجه الشّبه لا يكمن في النبوة، إنما في غيابها أصلاً. درويش في موقع الخيبة وليس في موقع من خيّب أمل غيره.
فهل تكفي كلمة “ستنتصر” يقولها ريتسوس لدرويش، ومشهد على جبل نيبو تصوّره سيمون بيطون، حتّى نبني نظرية حول الشاعر النبي؟
أمّا الدليل الثالث الذي تقيمه لتثبت نظريتها فهو يرتكز إلى نصّ من قصيدة “مديح الظل العالي”، لم تعد لدي رغبة في تفنيد الدليل تلو الدليل، ومن سيتابع مقالي فيما يلي سوف يفهم لماذا.
لقد تعبت.
عن التاريخ… اليأس، السخرية، والأمل
كيف فهم درويش التاريخ وهل فهمه تسلسلاً انسيابيًا من الماضي إلى الحاضر نحو المستقبل وكأنه يؤمن بماركسية فجة وحتمية تاريخية، كما تدعي الحلبي؟
إذا شئنا أنّ نموقع، أو نحشر دوريش في مربع فكري كنت سأضع درويش إلى جانب والتر بنجامين وليس إلى جانب هيغل أو ماركس (وليس من الحكيم أن نقوم بذلك، أولاً لأنه من المتعذر وضع درويش في خانة، وثانياً لأن بنجامين ليس ضد ماركس تماماً إنما يعبر عن حساسيه تختلف عندما يجري الحديث عن التاريخ). لقد انتبه درويش مبكرًا إلى أهمية أطروحات بنجامين حول التاريخ واهتم أن تتم ترجمتها في مجلة “الكرمل” في تسعينيات القرن الماضي قبل أنّ يتحول بنجامين إلى موضة في الجامعات الأمريكية.
حقيقة، لم يكن درويش بحاجة إلى بنجامين ليعرف أنّ التاريخ لا يسير دائمًا إلى الأمام (وإن كان في بعض خطبه المُلقاة أمام الجمهور ما يشي أحيانًا بشظايا لغة ماركسية نشأ عليها في الحزب الشيوعي تجاوزها العقل لكن اعتاد عليها اللسان، كأن ينهي كلمته بجملة مثل: ولا بد للحرية أنّ تنتصر). والسبب في ذلك هو أنه ابن مأساة عميقة صاغت وعيه الأولي، افترق فيها الحق والحقيقة ولم يعد بمقدور أيّ بهلوانية فكرية هيغلية أنّ تجمع أو أنّ تصالح بينهما، وكان يعرف أنّ كل سجل للحضارة هو سجل بربري في آن واحد. من هنا، كان فهمه للتاريخ من باب السخرية “التاريخ يسخر من ضحاياه ومن أبطاله، يلقي عليهم نظرة ويمر (الجدارية 104)، وفي موقع آخر “الزمن يعلمني الحكمة بينما يعلمني التاريخ السخرية” (الولادة على دفعات، حيرة العائد 156)، ولذلك ليس صدفة أنّ يكتب في عيد ميلاد صديقه الشاعر سعدي يوسف “كنا دائمًا نؤمن بأن الغد أجمل، لكن التاريخ يفاجئنا دائمًا بخيبة أمل جديدة تغري الشاعر بمديح الأمس” (سعدي في السبعين، حيرة العائد 141).
إن ما يعرفه درويش من التاريخ هو التاريخ العيني المُشّخِص لبيته وشعبه ووطنه قبل أنّ يعرف التاريخ بأل التعريف باعتباره حركة السير إلى الأمام، لأن التاريخ هو “ما حل بأهلك، مسروقي اللسان والقمح والبيت والبرهان منذ أن هبطت عليهم جرافة التاريخ العملاقة وجرفتهم من مكانهم وسوت المكان على مقاس الأسطورة” (في حضرة الغياب، رياض الريس 2007، 54). عليه يتسائل دوريش بنكهة لغة بنجامين: هل هكذا التاريخ لا يرى سوى سير الملوك الناجحين (من فضة الموت الذي لا موت فيه، ديوان محمود درويش 2، دار العودة بيروت، 307)، وهل يعقل أن نعزو لِمَن كتب “خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة، أمام الرجل الأبيض” تهمة الإيمان بحتمية التقدم التاريخي؟.
وهل يعقل لمن قرأ قصيدة “طباق” المهداة إلى إدوارد سعيد أن يتهم درويش بإيمانه بالحداثة وحتميّة التقدّم وهو يكتب:
“لا أتذكّر أنا ذهبنا إلى السينما
في المساء. ولكن سمعت هنودا
قدامى ينادونني: لا تثق بالحصان
ولا بالحداثة”.
وهو يضيف في نفس القصيدة:
“لا غد في الأمس، فلنتقدّم إذا!
قد يكون التقدّم جسر الرجوع إلى البربريّة”
وهل من الممكن بعد كلّ هذا اتهام درويش بإيمانه بحتميّة الانتصار؟
درويش شاعر الحنين بامتياز. وعندما كان ينظر إلى الغد فقد كان شاعر الأحلام الهشّة، لكنّه لم يكن لا شاعر الأيديولوجيا ولا شاعر اليوتوبيا، ولم يكن شاعر المستحيل بقدر ما كان شاعر الجليل (يمكن الرجوع إلى قصيدة “طباق”).
لقد فهم درويش دوره، باعتباره محاولة مستمرة كي ينقذ رواية شعبه من تحت عجلات التاريخ، لأنه لم يكن يركن على التاريخ، إذا كانت لديه نظرة خلاصية أيّا كانت، فإنها ليست نظرة خلاصية للمستقبل كما فهمها ماركس، مثلاً. بقدر ما هي تخليص الرواية الفلسطينية وتخليص الماضي من وطأة التاريخ نفسه. صحيح أنّ دوريش يذهب مع شعبه نحو المستقبل، لكنه لا يقف بالمقدمة تمامًا عند الذهاب إلى هذا المستقبل، لكن يقف في المقدمة حين ينظر إلى الماضي ويدافع عن الرواية.
درويش قلق على شعبه طبعًا، وقلبه معه في البحث عن المستقبل، لكن عينه كشاعر تنظر إلى الماضي وهو مسكون بهاجس تسجيل الخسارات، والنطق بأسم المقهورين، ولذلك لعدم ثقته بالتاريخ، وليس لثقته به.
يكاد درويش أنّ يقع في اليأس، مع بداية ما يُسمى بالمسيرة السلمية في مدريد عام 1990 لذلك يكتب:
“للحقيقة وجهان، والثلج أسود فوق مدينتنا
لم نعد قادرين على اليأس أكثر مما يئسنا،
والنهاية تمشي إلى السور واثقة من خطاها،
فوق هذه البلاط المبلل بالدمع واثقة من خطاها،
من سينزل أعلامنا، نحن أم هم؟
ومن سوف يتلو علينا “معاهدة اليأس” يا ملك الاحتضار” (أحد عشر كوكبًا على المشهد الأندلسي، ديوان محمود درويش 2، دار العودة 486).
لذلك، ليس مفاجئًا أن نجد درويش يكرر الحكمة التوراتية “باطل الأباطيل باطل، كل شيء على البسيطة زائل”. وردت العبارة بداية في كتابه “ذاكرة النسيان” (دار الأسوار عكا، 1978، 104) ثم عاد مكررًا إياها أربع مرات في جداريته، وفي لحظة شعرية مُفعمة في دعوتها للذة. قد يعتبرها بعض الوطنيين نوعًا من الخيانة، يقول لنا:
” كل شيء باطل
فاغنم حياتك مثلما هي برهة حبلى بسائلها
دم العشب المقطر،
عش ليومك لا لحلمك
كل شيء زائل
فاحذر غدًا و عش الحياة الآن في امرأة “تحبك”
عش لجسمك لا لوهمك
و انتظر”. (الجدارية 84).
إلا أن ترف اليأس غير مُتاح للفلسطيني تمامًا وعشقنا وشوقنا وحنينا إلى فلسطين ينقذنا من براثن اليأس. عليه، يكتب دوريش من غرفة إبراهيم أبو اللغد وهو على فراش الموت في يافا والتي عاد إليها ليموت فيها فقط: “وحدها، صورة يافا على الجدار منعتنا من القول: باطل باطل الأباطيل، باطل”، (طريق العودة هي طريق المعرفة، حيرة العائد 74).
اذا كان لأحد أنّ ينتقد درويش فإن نقده يجب أن يكون بعكس ما جاء من تهمة في نص الحلبي، فالنقد لا يمكن أن يكون بأن درويش يعدنا باليقين والتحول الانسيابي للتاريخ من الماضي نحو المستقبل -كما تدعي الحلبي- إنما برؤية عدمية ليس لديها أي ثقة بالمستقبل، ولذلك تدعونا إلى معانقة الحاضر، لغة أقرب إلى اليأس منها إلى لغة اليقين الثوري وحتمية التقدم الانسيابي التي تشير إليها الحلبي. إلا أن درويش يصل إلى حافة العدم وإلى حافة اليأس لكنه لا يقع فيهما تمامًا. درويش ينقذ نفسه من هاوية اليأس بالاستعانة بالسخرية، لأن السخرية كما يقول ما هي إلا “اليأس وقد تهذب” (الرسائل، دار العودة، بيروت 90). إلا أن السخرية أقوى وأغنى من اليأس ليس لأنها تهذب اليأس فقط كما قال درويش، لكن لأن السخرية تسخر من كل شيء وتسخر حتى من اليأس، وحتى يتمكن اليأس بحق منا، فإنه بحاجة إلى مجاورة اليقين، اليقين بانغلاق أي أفق نحو غد أفضل. إنّ اليأس من ناحية، والإيمان بالحتمية بالتاريخية والتحول الانسابي للتاريخ نحو الحرية في المستقبل هما توأمان فكريان ووجهان لعملة واحدة اسمها اليقين. أحدهما لدية اليقين بالتقدم وحتميته والآخر لديه يقين باستحالة التقدم نحو الحرية. لكن دوريش لم يؤمن باليقين ولا بالحقائق المطلقة وتسلح بالسخرية كي يستعيد الأمل كما كتب في إحدى افتتاحيات “الكرمل” خلال حصار رام الله عام 2000، فكتب “هل تعبنا؟ نعم. تعبنا من السجن ومن الحصار ومن الاحتلال. ولم نتعب من الأمل، لم نتعب من البحث عن زهرة خضراء، لا بد أنها موجودة مهما كانت بعيدة”.
أو كما افتتح قصيدته الطويلة “حالة حصار” ليكتب:
“هنا، عند منحدرات التلال، أمام الغروب
وفوهة الوقت،
قرب بساتين مقطوعة الظل،
نفعل ما يفعل السجناء، وما يفعل العاطلون عن العمل:
نربي الأمل”. (حالة حصار، نجيب الريس 2002، 9).
أو كما أنهى نصه حول الحنين حيث ربط الأمل بالحنين حين كتب: “الحنين وجع لا يحن إلى وجعِ، هو الوجع الذي يسببه الهواء النقي القادم من أعالي جبل بعيد، وجع البحث عن فرح سابق. لكنه وجع صحي، لأنه يُذّكِرنا بأننا مرضى بالأمل… وعاطفيون” (في حضرة الغياب، نجيب الريس، 125).
إذًا، لا حتمية، ولا تاريخ انسيابي، ولا يقين مطلق، ولا وعد، ولا نبوة. كل ما هناك خيط ناي رفيع، يوصل بين الحنين وبين الأمل، هذا هو الخيط الذي وقف عليه درويش وأنشد. على الأقل، فإن هذا هو درويش المتأخر الناضج والمتأمل في العقدين الأخيرين في حياته.
الشهداء والأبطال والحنين إلى العادي
لم يطلب دوريش من أحد أنّ يسير وراءه ولم يُطالب بالتضحية لأجل فلسطين وكان منذ البداية قلقًا من ثقافة الشهيد الذي اعتقد بعض الوطنيين أنه لا بأس أنّ يضحي بحياته من أجل الوطن والشعب، وكتب في قصيدته “عندما يذهب الشهداء إلى النوم” ما يلي:
“عندما يذهب الشهداء إلى النوم، أصحو وأحرسهم
من هواة الرثاء…
أعلق أسماءكم أين شئتم فناموا قليلاً، وناموا على سلم الكرمة الحامضة
لأحرس أحلامكم من خناجر حراسكم، وانقلاب الكتاب على الأنبياء” (ديوان محمود درويش 2، دار العودة، 342).
وأما في “حالة حصار” فإنه يفرد نصًا طويلاً للتعامل مع الشهيد والشهادة، منتقدًا هذه الثقافة، ليكتب فيقول:
“الشهيد يحاصرني كل ما عشت يومًا جديدًا
ويسألني: أين كنت؟
أعد للقواميس كل الكلام الذي
كنت أهديتنيه،
وخفف عن النائمين طنين الصدى!
الشهيد يوضح لي: لم أفتش وراء المدى
عن عذارى الخلود، فإني أحب الحياة
على الأرض، بين الصنوبر والتين، لكنني
ما استطعت إليها سبيلا…
الشهيد يحذرني: لا تصدق زغاريدهن
وصدق أبي حين ينظر في صورتي باكيًا:
كيف بدلت أدوارنا، يا بنيّ
وسرت أمامي؟
أنا أولاً
أنا أولاً!
الشهيد يحاصرني: لا تسر في الجنازة
إلا إذا كنت تعرفني،
لا أريد مجاملة من أحد”. (حالة حصار 78-80).
لم يستكن درويش إلى الروايات الكبرى ولا الأحلام العريضة وانتبه إلى العادي والشخصي وإلى الألم العيني وهشاشة البشر، ولم تحجب البطولة عن عينية الألم الفردي. لذلك كتب محدثًا نفسه: “تركتك وخرجت ألقي نظرات الوداع على من تدربوا على إخفاء الدموع، ولوحوا بالبنادق والياسمين، فأوجعتني إشارات النصر المرسومة بأصابع، لم ينتبه أبطالها إلى ما بتر منها”. (في حضرة الغياب، 77). كما أنه لم يكتف بالإصغاء أبدًا إلى الشعار السياسي، وأصغى إلى صوت البشر، ولم يكن ذلك “المثقف النبي كفاعل تحديثي بالالتزام السياسي كشكل وحيد للأدب” كما كتبت الحلبي.
هل هناك ممن قرأ درويش يعتقد أنه يدعي حقيقة “بالالتزام السياسي كشكل وحيد للأدب”؟ إن التهمة التي عانى منها درويش، وهي باطلة أيضًا، أنّ شعره لم يكن سياسيًا بما فيه الكفاية، ولم يرتقِ إلى مستوى الحدث السياسي، وها هي زينة الحلبي، توجه إليه التهمة المضادة، وتشير بأن هناك جيل جديد من الكتاب المتمردين الجدد يرى السياسة في خلخلة التسلسل البياني، في خطاب عابر للحدود القومية، متمرد على علمانية فجة، ويعمل بعدًا انفعاليًا يتصدر فيه الشخصي السياسي” .
يحار المرء من أين يبدأ في تفنيد هذا الكلام.
لنعد إلى نص درويشي. يكتب درويش في مديحه للحياة العادية، فيقول: “ليس الفلسطيني مهنة أو شعارًا، إنه في المقام الأول كائن بشري، يحب الحياة وينخطف بزهر اللوز، ويشعر بالقشعريرة من مطر الخريف الأول، ويمارس الحب تلبية لشهوة الجسد الطبيعية لا لنداء آخر”. (حيرة العائد، 150).
ويحتفي درويش مع شعبة الفلسطيني ويفرح مع موجة الفرح الشامل وهم يتابعون مباراة كرة القدم لفريقهم الوطني، فكتب مشاركًا فرحهم في افتتاحية “الكرمل”: “في هويتنا عطش إلى النجاح، جوع إلى العادي، وحنين إلى الكفاءة”. وتساءل مضيفًا؛ “فهل يحق لحارس المرمى الفلسطيني أنّ يصُّد كرة مهاجم، فهل يحق لشاعر فلسطيني أنّ يكتب عن رائحة الخريف”؟ ثم يستطرد مستغربًا من مجرد طرح السؤال ليقول: “لم تكن صورة “المقدس” الفلسطيني اذًا إلا فقرة في خطاب، يتكئ فيه الخطيب على الموضوع وينبذ الإنسان: على الموضوع أن يسمو ويتجرد، وعلى الأنسان أنّ ينحط وأن يتجمد. فأي اقتراب بينهما، يمنح الفلسطيني حقوقًا قد تنسيه دوره في الموضوع، أساس الخطاب. وهكذا يكون البؤس أساس الحق. ولا يريد الفلسطيني أن يكون مقدسًا. لا يريد أكثر من أن يكون عاديًا بتحرره من ظروف غير عادية”. (مجلة الكرمل، العدد 61، افتتاحية).
إلا أن درويش في ابتعاده عن الشعر السياسي بمعناه الفج والمباشر لم يدخل نفسه في عزلة ذاتية، ولذلك كتب: “وهكذا لا يكون هناك اسوأ من الشعر السياسي، بمعناه المباشر، إلا الإفراط في تعالي الشعر عن قضاياه السياسية بمعناها العميق، أي الإصغاء إلى حركة التاريخ والمشاركة في اقتراحات المستقبل. فتلك هي سياسة مضادة تغيّب الشاعر عن فضائه الجيوسياسي، وتعزله عن الكينونة المشتركة وعن المجتمع”. (الشعر بين المركز والهامش، حيرة العائد، 133).
أقتبس من نص آخر هو لي، كنت قد كتبته حول علاقة الشخصي بالسياسي والذاتي بالعام، عند دوريش، فـ”عندما تحدث درويش في الوطن والسياسة واللجوء والمنفى كان شاعريًا وذاتيًا، وعندما تحدث عن ذاته وجد الجماعة، إلا أنّ العلاقة لم تكن إقحامًا أو إسقاطًا ولم يفرض أحدهما على الآخر تكلفًا. الوطن لم يفرض نفسه على درويش بقدر ما كان شعره، يتنفس الوطن تنفسًا، فكأن الذاتي لا يمتلئ إلا بما هو خارجه، وكأن جوهر الذات يقع خارجها. وبالمقابل، فكأن هذا الخارج يبقى خرابًا خاويًا من المعنى إذا لم تجد الذات مرآتها فيه. هذا الانفصال المفهومي المؤقت، لكن الضروري بين الإثنين: بين الشعر والسياسية، بين البيت والوطن، هو الذي يمهد لإمكانية عناقهما لاحقًا. هذا العناق ممكن، لكن من أجل أنّ يتحقق، وكي يكون عناقًا وليس اختناقًا، كان على الوطن العام والوطن الخاص، أن يدركا تفردهما أولا كي يتعانقا لاحقًا (تلاقي الشكل والمضمون في شعر محمود درويش، القدس العربي 20.8.2018).
من هنا، فإني أعتقد أنّ التضاد المفهومي الذي تقيّمه الحلبي بين مفهوم “الشخصي” والـ “السياسي” وكأنهما في حالة تضاد وتخارج، من شأنه الإيحاء بوجود عالم شخصي ذاتي خارج السياسة وأنّ هناك معنى للعمل السياسي، من دون أن يكون له أثر شخصي، ومن دون أنّ يسعى لتحقيق العدل أولاً ورفاهية وسعادة الأفراد، ثانيًا.
إن هذا التصور يفقر كلا المفهومين معًا، يفقر مفهوم السياسة، ومفهوم الشخصي/الذاتي، ويقيم سورًا صينيًا بين الخاص والعام، وبين الذات والجماعة، وإذا كان هناك من حداثة علمانية فجة فإن إقامة هذا التضاد هو العلمانية الفجة بعينها.
محدودية دور الشعر
كان درويش واعيًا جدًّا لمحدودية دوره كشاعر يقيم في الكلمات، ويسكن بيتًا من الشعر. ولم يعتقد أنّ للكلمات قدرة خارقة على الخلاص، بل كان واعيًا لمحدوديّتها. لذلك كتب: “لا تستطيع القصيدة أكثر مما استطاع الزّبد” (قصيدة القطار الأخير توقّف، ورد أقل، ديوان محمود درويش 11، دار العودة 335).
وعليه ومع كونه شاعرًا يقيم في الكلمات وينتشي من صناعة المعنى، فقد كان دائم الشكّ في جدوى الفعل الشعري وحدوده، وعليه عندما خاطب صديقه سميح القاسم قائلًا:
“أما كان من حقّنا أن نواصل ذلك الضحك
وكسر الزجاجات في شارع الليل حين يموت الملك؟
لنا الذكريات، وللغزو ترجمة الذكريات إلى أسلحة
ومستوطنات.
أما زلت تؤمن أن القصائد أقوى من الطائرات؟
إذن، كيف لم يستطع امرؤ القيس فينا مواجهة المذبحة؟” (الرسائل، دار العودة، بيروت 1990، 29)
ويستعرض درويش هذا النقاش الذي حصل إبان حرب لبنان عام 1982 والذي وجد نفسه خلالها مطالبًا بالقصيدة، ويورد درويش هذا الحوار الذي حصل تلك الفترة فيكتب:
“لقد وجد بعض المثقفين وقت الحصار ملائمًا لتصفية حساباتهم الصغيرة، فشرّعوا أقلامهم السّامّة في صدور زملائهم. وعبثًا كنّا نصرخ: ما لكم وهذه الصغائر، فليس أحد من الكتاب هو الذي يحاصر بيروت. وليس تقصيرهم أو هروبهم هو الذي يهيل البنايات على سكّانها، وفي أسوأ الأحوال ليست كتابتكم هذه أدبًا وليست مدافع فعّالة مضادة للطائرات في أفضل الأحوال. كلّا- يقولون: هذا هو المحكّ الأول والأخير لثوريّة الكاتب والشّاعر. فإمّا أن تولد القصيدة الآن، وإمّا أن تحرم من حقّها في الولادة. وكنّا نسخر: ولماذا أذنتم لهوميروس أن يكتب الإلياذة والأوديسة؟ ولماذا سمحتم لإسخيليوس ويوربيدوس وأرسطوفان وتولستوي وغيرهم؟” (ذاكرة النسيان، دار الأسوار، 1987، 51)
وهل صدفة أن يختار هؤلاء دون غيرهم؟ جميعهم كتّاب تراجيديّون يوثّقون الخسارة ويتفرّسون فيها. أليس صدفة أنّه لم يذكر هوتشي منه، ماياكوفسكي، ناظم حكمت، وفيكتور هيجو؟ درويش شاعر الانكسار وليس شاعر الانتصار. وامتهن الهزيمة حتّى في الحب: ” يا حب لا هدف لنا إلّا الهزيمة في حروبك.. فانتصر أنت انتصر.. واسمع مديحك في ضحاياك” (كزهر اللوز أو أبعد)
ودرويش ليس بروميثيوس! ولا يحمل النار!
إلّا أنّ هناك نصان لا يتركان مجالًا للشكّ في فهم درويش لدوره كشاعر مقابل أولئك الذين أرادوه قائدًا ملهمًا ونبيًّا. النص الأول يظهر في الجداريّة معادًا مرّتين، وباعتقادي كافٍ لوحده أن يحسم كل النقاشات، والذي يقول فيه:
“ومثلما سار المسيح على البحيرة،
سرت في رؤياي، لكني نزلت عن
الصليب لأنني أخشى العلو، ولا
أبشّر بالقيامة” (الجدارية، رياض الريس 1999، 92، 100)
لا نبوّة، ولا من يحزنون.
لكن إذا كان هناك من لا يزال يساورهم بعض الشك، إليكم هذا النص الذي كتبه درويش عام 1986 في صحيفة “اليوم السابع”، 2 حزيران، 1986، بعنوان “إنّي أعترف” (وأعيد نشره في كتاب ” مقالات اليوم السابع” الذي أعده حسن خضر وصدر عن “مؤسسة الدراسات الفلسطينية” عام ٢٠١٩ . المقال ص ٢٣٠ والاقتباس ص ٢٣٤)، وكأنه كتب خصيصا ليردّ على زينة الحلبي، يقول فيه:
“ويريدونك أن تكون منهم، أو من السلطة، ليصفّقوا لهزيمتهم فيك.
لستَ منهم، ولستَ من السلطة. ولكنّ القارئ له براءةٌ أخرى، يريد للشعر أن يمتلك قوة السحر، وحين يعجز عن القيام بهذا الدور، يصاب القارئ بالإحباط، فيحيل إحباطه الشخصي، والعام، على الشاعر الذي خذل، على الشاعر الذي عجز عن إنجاز ما عجز عنه الأنبياء، لأنّ الشاعر مطالب بأن يحقق المعجزة.
فهل أنت قادر؟
لا، لا تستطيع.
فلتواصل الخناجر خدمة غريزتها.
وليواصل الشاعر نزيفه، وخدمة نشيده.
وليعتذر لمن يطالبه بأكثر من ذلك. وليعترف!
إنّي أعترف”.
للاطلاع على مقالة زينة الحلبي في موقع الجمهورية، “محمود درويش وأنقاض النبوءة”… هنا