نُشرت في jstor في يناير ٢٠٠١.
اسمحوا لي أن أبدأ بما يبدو لي من الأساسات الثقافية والأدبية لهذه المنصة كما هو موضّح في اسمها. لن أتحدث كثيراً عن الافتراضات العامة التي قد حكمت أو أثيرت في اجتماع جمعية اللغة المعاصرة MLA في لقاء هذه الألفية.
أتخيل أن عدداً متزايداً منّا يشعر أن هناك أمراً أساسياً غير فعال أو على الأقل أن هناك أمراً قد تغير جذرياً في الأطر التقليدية التي ندرس الأدب من خلالها. كيف يمكن لهذا أن يكون مرتبطاً ليس فقط بالمشكلة في المنهاج، وإنما في الوضع الوظيفي الذي يتضمن نقصاً كبيراً في المناصب لطلاب الدراسات العُليا، فضلاً عن استغلال الموظفين بدوام جزئي عبر تقليص إدارات الجامعة والتقليل من قيمة العلوم الإنسانية وجعلها وظائف خدماتيّة. يجب أن نتذكر النقاط أعلاه جيداً، مع العلم بأني لن أتناولها تناولاً مُباشراً في هذه الورقة. جانبان من تلك الأطر الثقافية بحاجة إلى مراجعة أكثر من غيرها، الأول يتمثل في فِكرة أن النص يوجد داخل إطار وطني/قومي، والثاني يتمثل في الافتراض بأن العمل الأدبي يوجد بشكل ثابت واحد يمكن تحديده. سأحاول إعطاء أمثلة لما أقترحه هنا، مع تأكيدي بأن هذه الأمثلة لن تكون قادرة على شرح مستوى تعقيد القضيّة.
ولألخص بعض الحجج المطروحة في كتاب (Rewarding Boundaries) لـ غرينبلات وغَن (Greenblatt and Gunn (1، نشهد الآن قصوراً عميقاً للغاية في النظر إلى قصيدة لووردزورث(2) على أنها تنبع من الأدب الإنجليزي في أواخر القرن الثامن عشر أو على أنها عمل عبقري متفرد أو على أنها عمل فني يتميّز عن غيره من الأعمال الأدبية الأخرى مثل الكتيبات والرسائل والنقاشات البرلمانية وهلم جرًّا. أنا شخصياً، لا أنكر مثلاً وجود مملكة استيطيقية aesthetic منعزلة عن عالمنا، ولكن من الصعب تحديد كيفية وجود هذه المملكة عبر شبكة من العلاقات مع التاريخ والسياسية والبُنى الاجتماعية وغيرها. أدت مثل هذه الأسئلة والشكوك حول العلاقات إلى تآكل الأطر والحدود القومية والاستيطيقية بالكامل والتي كان يُظن قبلاً بأنها ستدوم وتخلّد. لم تعد فِكرة أن المؤلف أو العمل أو القومية يمكن الاعتماد عليهم كما كان في السابق، وفي هذا السياق، فإن دور الخيال الذي اعتيد أن يكون له دوراً مركزياً، فمثله مثل الهوية، دخل في دوامة وثورة تحول كوبرنيكية(3) فيما يخص الفهم العام له. هل هو حقيقيّ؟ أم أنه ذو وظيفة خطابية؟ أين يتموقع؟ هل هو فردي أم جمعي؟ أضف إلى ذلك أن علاقة جديدة قد نُسجت بين المجالين العام والخاص، حيث يعرّف كل واحد الآخر ويعدّله. غيّر هذا التحول العلائقي الأرضية التي نقف عليها بالكامل للدرجة التي -حسب أرجون أبادوراي(4)- اكتسبت فيها بعض القوى مثل الهجرة والوساطات الإلكترونية أدواراً فعّالة في عملية خلق الثقافة المعاصرة، حيث استبدلت مُجتمعات الشتات Diasporic communities، المُجتمعات المتوطّنة settled communities، ونشطت أساطير وخيالات جديدة تعمل على تقويض العقل، وصار الاستهلاك على مستوى جديد ينفخ الروحَ في الأسواق في جميع أنحاء الكرة الأرضية.
بالنسبة للعلماء المتخصصين والمعلّمين في عصري والذين تعلموا في نموذج المركزية الأوروبية، فإن طبوغرافية وصورة الدراسات الأدبية قد تغيّرت وتبدّلت جذرياً وبطريقة لا يمكن عكسها. تنشط الدراسات الأدبية الآن بأهداف وطموحات مختلفة. فكُتاب مثل أورباخ وت. س. إليوت ولوكاتش Lukács وبلاكمر Blackmur وفراي Frye وليفيس Leavis وبورك Burke وريتشاردز Richards وويلك Wellek (5) -سرد عشوائي لأسماء ذات مكانة، ولكنها متباعدة سياسياً وشخصياً- قد عاشوا في كونٍ استيطيقي وذهني كان خاضعاً لغوياً وشكلياً وأبستمولوجياً في عالم الكلاسيكيات الأوروبية وشمال الأطلنطية، في مخيلة كانت خاضعة لآثار الكنيسة والإمبراطورية وتقاليدهما ولغتهما وأفضل أعمالها الفنية، وطبعاً كانت متأثرة بالفكرة نفسها عن الأعمال المؤسِّسَة (Canon) والتركيب (Synthesis) والتمركزيّة (6) (Centrality)، أما كُتَّاب الجيل الجديد، فتراهم أكثر انسجاماً مع ما هو غير أوروبيّ وجنساني(7)- Genderized وإنهاء الاستعمار Decolonization ومع العديد من تيارات عصرنا. كل التطورات النظرية منذ عام 1960 قد ساعدت على إحداثِ النتيجة أعلاه، وهذا باعتراف الجميع، بغض النظر لو كانت النتائج محط ترحيب أو لا، وبغض النظر لو كانت أدوات المركزية الأوروبية قد اسْتُخدمت أو لا. وعليهِ -على سبيل المثال- فإن التيارات التحررية والمعادية للإمبريالية بشراسة والتي صاغها كُتّاب مثل فانون وكابرال وييتس وسي. جيمس قد تغذّوا -تَوفيقياً- على كل أشكال المراجع المختلطة (والمتخالطة أحياناً)، فكانت بعضها من الثقافات المتروبولية التي تعارضها وبعضها من مصادِر بعيدة وربما أكثر شخصية، وبعضها الآخر طبعاً من التقاليد والثقافات الأصلية للشعوب. ويمكننا أن نجد في مقالة لإيمانويل والرشتاين تَشْريحاً مُوجزاً ومفيداً للتحديّات المختلفة لفكرة المركزية الأوروبية في العلوم الاجتماعية، حيث يتشابه الأمر مع العلوم الإنسانية. يرسم والرشتاين في مقالته صورة مقنعة تستحق الاستشهاد بها هنا لسببين: أولاً، نظراً لما يقوله عن تلك التحدّيات وثانياً، لملاحظاته عن مصادرها ومخاطرها:
نشأت العلوم الاجتماعية (والعلوم الإنسانية المعاصرة من وجهة نظري) كردة فعل على مشاكل أوروبا (في خمس دول بشكل أساسي: فرنسا وبريطانيا العظمى وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدّة)، في نقطة معينة من التاريخ كانت فيها أوروبا تُهيمن على كامل النظام العالمي. كان من المُحتّم عملياً إذن أن تختار مواضيعاً وتنظيراً وطرقاً وأبستمولوجيا تعكسُ كل قيود الرقعة التي ولدت فيها تلك المشاكل.
على الرغم من ذلك، وفي الفترة منذ عام 1945، تأثّر عالم المعرفة بعملية إنهاء الاستعمار في إفريقيا وآسيا وبالوعي السياسي الشديد للعالم غير الأوروبيّ بنفس مقدار تأثر سياسة النظام العالميّ. ومثال على الفرق الواقع، هو الهجوم الحاد على المركزية الأوروبية الآن ومنذ ثلاثين عاماً تقريباً في العلوم الاجتماعية (وبالطبع في العلوم الإنسانية). الهجوم طبعاً مُبرر كُلياً، ولا شك في أن علينا تجاوز الإرث المركزيّ الأوروبي الذي شَوَّشَ تحليلهم (الأوربيون) وقدرتهم على التعامل مع مشاكل العالم المعاصر(8).
أعتقد أن وجهة نظر والرشتاين مهمة وحرجة لشموليتها واتساع نطاقها. يلخص والرشتاين الادعاءات الثلاثة لمعاداة المركزية الأوروبية كما يلي:
أول ادّعاء هو أنّ أياً كان ما فعلته أوروبا، فإن الحضارات الأخرى كانت ضمن سيرورة الفعل، إلى أن جاءت اللحظة التي استخدمت فيها أوروبا قوتها الجيوسياسيّة لعرقلة سيرورات أجزاء متفرقة من باقي العالم. الادّعاء الثاني هو أنَّ ما فعلته أوروبا لم يكن إلا استمراراً لما كان الآخرون يفعلونه لفترة طويلة، ولكنه الآن صار مع حضور الأوروبي المؤقت في المقدّمة. الادّعاء الثالث هو أنَّ ما فعلته أوروبا قد حُلِّل تحليلاً غير صحيحٍ وأُخْضِعَ لاستقراءات معطوبة أدّت إلى عواقِب وخيمة على العلم والعالم السياسي(9).
كل هذا لا يخفف حقًّا من التأثيرات الكُلية للعولمة الاقتصادية والسياسية والتي ومنذ نهاية الحرب الباردة (سابقاً، مكان الشكلانية غير التاريخية التي سادت إبّان انتعاش الممارسة النقدية الجديدة New Criticism Practice وتدريسها ونشرها في كتب مثل كتاب فهم الشعر Understating Poetry لـبروكس ووارن) كانت السياق الحاضن للدراسات الأدبية. لم يدرس هذا الأمر أي أحد أكثر من ماساو ميوشي (10) Masao Miyoshi، حيث أجْمَلَ التأثيرات الكارثية للوضع العالمي، بما فيها أفول مكانة العلوم الإنسانية في الجامعات والفرق الشاسع بين الفقراء والأغنياء والتحالفات الجديدة بين الشركات والعلوم بما لها من تأثير على الجامعات الأميركيّة المُعاصِرة. ما يعنيه الأمر لاحتمالية المقاومة في حجته يتطلب وقتاً أكثر مما هو مُتاح لي، ولذلك أود التركيز على بعض النتائج المُتماسكة لحركة العولمة وتأثيرها علينا، وسأقترح باختصار بعض الإشكاليات الحاضرة في الدراسة الأدبية كما أرى من وجهة نظري. أُعيد وأكرر بأن النقاط التالية ليست أكثر من اقتراحات وأفكار غير مكتملة وغير مُنجزة، ولهذا سأصيغها على شكل أسئلة ومفارقات وصعوبات، ليكون النقاش حولها فِكرياً.
1- تقوم فكرة العولمة على نموذج رأسمالي “سعيد” عامة -الأسواق الحرة والمنافسة المفتوحة غير المنظّمة وحركة رأس المال العابرة للحدود والصناعات والخدمات المخصخصة والتخطيط غير المركزيّ والمقنّن. ومن الواضح أن هذا الأمر لم ينجح. لقد أفقرت العولمة الكثير من الناس، ولكن ليس عبر الندرة أو عدم التوفر، وإنما عبر التوزيع وأفكار من يملك الحق بالموارد، وفقَ دراسة مُهمّة لأمارتيا سِن (Amartya Sen (11. صرّح جايمس ولفنسون، رئيس البنك الدولي (أداة الإقراض الرئيسية لسياسات العولمة) في أكتوبر عام 1998، بعدم صلاحية النموذج القديم لمنح المال دون أي اعتبارات للقيمة وفعالية التوزيع والتاريخ والتقاليد والثقافة. وحسبما ناقش سمير أمين لا يمكن الانفصال عن نموذج العولمة مُباشرة لعدد من الأسباب من الواضحة، وواحدٌ منها: غياب نموذج بديل ناجح.
الظهور التدريجي للعلوم الإنسانية المرتبكة Confused Humanities، والبراديمز البحثية المتشتتة، مثل تلك المنبثقة عن الحقول الجديدة في مجالات دراسات ما بعد الاستعمار والدراسات الإثنية والدراسات الخاصة أو الدراسات المبنية على الهوية، كلها تعكس وتُظهِر خسوف الأطر المركزيّة الأوروبية المتسلطة، وهَيمنةَ وعي جديد ما بعد حداثي معولم، اجتُثَ منه ثِقل التاريخ، كما جادل بينيتا باري وآخرون. لقد حوّلت نظرية التحرر المناهض للاستعمار والتاريخ الحقيقي للإمبراطورية -بمذابحها واستغلالها- التركيز إلى مخاوف المُستعمِر وازدواجيتهِ وبالتالي اسْتُعْمِرَ الصَّامت وشرد بطريقة ما. إلى جانب ذلك، صار هناك تقديس لنسخة أكاديمية بحتة تقريباً قائمة على التعددية الثقافية والتي يجد العديد من الناس في العالم الحقيقي -القائم على التقسيم العرقي والصراع والشوفينية- صعوبة في التعرف عليها. وأتفق هنا تماماً مع ميوشي بأنه لا يمكننا في ظل هذه الممارسات الأكاديمية البحتة رؤية ما يسميه “مواقع مقاومة” للتأثيرات السلبية الرهيبة للعولمة، وسأركّز هنا على واحدة منها فقط، وهي هيمنة الولايات المتحدة الأميركية لأنها القوة العظمى الوحيدة المتبقية، وهي دولة مستعدة لفرض نفسها بالقوة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً في جميع أنحاء العالم.
يجدر بالأحداث في الأشهر الستة الماضية في السودان وأفغانستان والعراق أن تجعل المرء يتوقف ويسأل نفسه سؤالاً، هل هناك أي علاقة بين هذه القوة واستخدامها عملياً دون اعتراضات وبين التشتت والإلغاء الذاتي للعلوم الإنسانية بوصفها غير قادرة وغير مستعدة لتقديم مقاومة داخلية لها، خصوصاً عندما تنفق هذه القوة مبالغ مالية طائلة حول العالم في مختلف الأنشطة المُهْدِرة للحياة؟ ضع في اعتبارك أن الولايات المتحدة الأميركية ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية كانت وما زالت مسؤولة مباشرةً عن مقتل ملايين الآسيويين وقاطني أميركا الوسطى ومسؤولة بشكل غير مباشر عن نشاطات مُشابهة ولكن على مستويات أكبر في إفريقيا والكاريبي. لقد رفضت الولايات المتحدة عدة مرات توقيع اتفاقيات ومعاهدات (تدور حول نزع السلاح والإبادة وعقوبة الإعدام وإلخ)، وأهانت مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أكثر من أي دولة أخرى، بالإضافة لكونها متأخرة كثيراً في تسديد ديونها الهائلة. كل هذا لا يتعرض لقضية الإنفاق على الموارد على مستوى عالمي أو على الهيمنة السياسية المدعّمة بالقوة العسكرية في كل القارّات. سؤالي هنا، هل هناك أي تأثير لسلسلة الحقائق أعلاه (أفضل من شرحها لسنوات هو نعوم تشومسكي)، سواء مباشر أو غير مُباشر، على طبيعة نتائج ما طُلِب منا مناقشته هنا “عولمة الدراسة الأدبية”؟
هل ثمة وضع معين للولايات المتحدّة (والتي تعتمد أيديولوجيتها على أطروحة هنتنغتون لصدام الحضارات) يؤثّر علينا جميعً هنا في الأكاديمية الأميركية وينعكس في طبيعة ومضمون النقاشات الخطابية الدائرة الآن في أوساط الدراسات الأدبية والثقافية، أو مناقشات تكشف غياب البردايمز الموحدة والتركيز (حول الالتزام والحقيقة والقيم) كما ذكرت آنفاً؟ مناقشات تعتمد أيضاً على امتياز الاستثنائية المبنية على افتراض أننا نحن -الأميركان- يمكننا مساءلة العالم وإعادة رسم الحدود وإقرار (أو حجب) بعضاً من التاريخ واللغات والأصوات والتجارب؟
2- لقد قال والرشتاين بوضوح عن وجود مُساهمة لهيمنة المركزية الأوروبية في النظام العالمي، حيث أن هذه الحضارة وعلى خلاف الحضارات الأخرى، أوجدت حالة طَلاقٍ بين العلم (أي الحقيقة Truth) من جهة والفلسفة والعلوم الإنسانية من جهة أخرى، ويضيف: “وهو ما يمكن توصيفه بأنه فصل رحلة البحث عن الحقيقة ورحلة البحث عن الخيِّر والجميل Good and Beautiful”. أنتج هذا الفصل بدورهِ صورة الباحث المُتحرر من القِيَم في مجالٍ ما، والباحث المنفصل (غير المشتبك) في مجال العلوم الإنسانية Detached Humanist. خلق هذا الفصل بين الثقافتين أيضاً حِسًّا بأن القرارات السوسيوسياسية يمكن اتخاذها في مجالٍ منعزل، بينما النقاشات العلمية الخالية من القيود لأنها مُتحررة من القيم، تكون في مجالٍ آخر. يُضيف هنا والرشتاين، بأن هذا هو جوهر المركزية الأوروبيّة، حيث تقع الحروب العلمية والحروب الثقافية بمعزل عن بعضها البعض في الغالب، وبالتالي فصل قضايا الحق وقضايا الخير عن بعضها البعض. وأنا أضيف من طرفي أنّ فصلاً خطابياً يحصل بين المركز والهامش في صورة مخيلة سوسيوثقافية للنطاق العام. يُقال بأن جغرافيا جديد ظهرت، وتكون فيها بعض مناطق العالم مُهمّة ومتحضّرة، وبعضها الآخر متروك للحروب المتواصلة والحِرمان والأمراض -مثال كابلان(12)- وامتداداً لهذا المفهوم الزائف على سبيل المثال، فكرة أنه نظراً لأن اللغة الإنجليزية هي لغة عالمية، فإن العديد من اللغات الإقليمية تصبح لهجات هامشية؛ وهذا يُمكّن كذلك من تجانس (عولمة) المنتجات الثقافية، التي يُنظر إليها على أنها تهيمن على «الأسواق» الثقافية. وهكذا، فإن ما كان ينشر على أنه من الأدب الأصيل أو أدب الشهادة قبل عقد أو عقدين، قد أصبح الآن تحت وطأة اختبارات جديدة وَوُجد بأنه مطلوبٌ، كما هو الحال في قضية ريغوبرتا مينتشو (13).
أؤمن أن هذا النوع من الأيديولوجيا الاستهلاكية المغلفة برداء الثقافة يرفع من قيمة فكرة أدورنو(14) بأن المملكة الاستيطيقية تكون في حالة توتر جدلي مع ثقافة الأسواق الموجّهة(15)Administered Markets، وأيضاً مع البيع والشراء المعولم. كلما زاد التطرف في عزل الاستيطيقي، انعكس الأمر سلبا أكثر على تناقضات(16) الوضع الاجتماعي.
3- تظل سياسات الهوية ونظام التعليم القائم على أساس وطني في قلب ما يقوم به معظمنا، بغض النظر عن التغير في حدود وأهداف البحث. كان لظهور التخصصات الفرعية المكافحة -المُتركّزة في الغالب على الدراسة الأكاديمية للهويات النازحة من السياق الدنيوي إلى الأكاديمي وبالتالي غير المسيسة- ضحية واحدة كبيرة وهي الحِس بالتاريخ الإنساني الجمعي كما اسْتُوعِبَ في بعض الأنماط العالمية التبعية والتبعية المُتبادلة كما أوضحها أبادوري ووالرشتاين والفصل الأخير من كتاب «الثقافة والإمبريالية» (إذا أمكن أن أذكر عملي). هل يمكن للمرء أن يضع نظرية اتصال بين الجزء والكل دون أن ينفي خصوصية التجربة الفردية أو صلاحية الكل المتوقع أو المزعوم أو الصُوريّ؟ أود تقديم فكرة أخرى، وهي فكرة المثقف، لا المحترف. المثقف الذي نال برستيجاً جديداً في الآونة الأخيرة، ولكن المثقف في رحلة سعيهِ/ا في الأكاديمية يحافظ على تلك الصلة بين ما هو أكاديمي مع سيرورات التنوير والتحرير الراهنة في العالم. هنا مجموعة من المعارف التلخيصية المفيدة: سين وألبرت هيرشمان حول مفاهيم اللامساواة وبالطبع المساواة والامتياز والحرية والولاء والفقر وما شابه ذلك، أسئلة حول الوضع الاجتماعي والخبرة التي نمت لتشمل القضايا الأخلاقية ذات العواقب الاقتصادية العميقة والمتروكة في الهندسة الاجتماعية والاقتصاد الكميَّان. تاريخ العالم في أعمال والرشتاين والعديد من الكتاب الآخرين، بما في ذلك بالطبع إيرك هوبزباوم. وافتراضات أدورنو -لم تُدرس أو تستكشف بما فيه الكفاية- حول العلاقة بين السياسة والاستيطيقا، وحول الدور التأسيسي للتناقضات(17) وغياب إمكانية التوافق (18)، وحول الذاكرة الجمعية والتجارب الجمعية غير الموثّقة والتي يمكن استردادها من خلال الأساليب التاريخية الرائدة مثل التاريخ الشفوي ودراسات التابع وإعادة دراسة الصمت. يمكنني مواصلة ذكر الأسماء ولكنّي أود أن أختم بتذكيركم بأهمية دور المعرفة الجغرافية لا التوليف وتجاوز الأضداد في الحفاظ على توزان المرء في البنية المأسوية -في كثير من الأحيان- للمنافسات الاجتماعية والتاريخية الأبستمولوجية على الأرض، وهذا يشمل القومية والهوية والسردية والعرق، وكثير من هذا يُثرِي الأدب والفكر والثقافة في عصرنا.
الهوامش:
مُلاحظة: كل الهوامش من المُترجم.
(1) ستيفن غرينبلات: ناقد أدبي تاريخي أميركي، ويعداً واحداً من مؤسسي حركة التاريخانية الجديدة. غايلز غَن: أستاذ الدراسات العالمية والدولية واللغة الإنجليزية بجامعة كاليفورنيا.
(2) وليام ووردزورث: شاعر إنجليزي.
(3) ثورة كوبرنيكوس: مصطلح يشير إلى الثورة على النظرية المعروفة بنموذج مركز الأرض التي كانت تقوم على فكرة أن الأرض مركز المجرة، بزعم كوبرنيكوس أن الشمس مركز النظام الشمسي. كانت تلك النظرية نواة لثورة علمية في القرن السادس عشر الميلادي – (المُترجم).
(4) في مجلة Modernity at Large.
(5) بالترتيب | ت. س. إليوت: شاعر وناقد أدبي أميركي بريطاني. لوكاتش: فيلسوف وكاتب وناقد ووزير مجري ماركسي. بلاكمر: شاعر وناقد أدبي أميركي. فراي: ناقد ومنظّر أدبي كندي. ليفيس: ناقد أدبي بريطاني. بورك: فيلسوف ورجل دولة إيرلندي. ريتشاردز: معلم وناقد أدبي بريطاني. ويلك: ناقد أدبي تشيكي-أميركي.
(6) مصدر صناعي من تَمَرْكُز: نزوعٌ إلى البقاء في المركز – (المُترجم).
(7) حسب ترجمة كمال ديب.
(8) إيمانويل والرشتاين، «المركزية الأوروبية وتمثّلاتها: معضلات العلوم الاجتماعية»، نيو ليفت ريفيو 226 (1997): 93-107. (ترجمة أنس سمحان).
(9) المرجع السابق نفسه. (ترجمة أنس سمحان).
(10) عالم اجتماع وأدب ولغة ياباني.
(11) فيلسوف وعالم اقتصاد هندي.
(12) روبرت كابلان: كاتب سياسي أميركي.
(13) سياسية كيتشية وناشطة في مجال حقوق الإنسان من غواتيمالا.
(14) فيلسوف ألماني.
(15) الموجهة بالحاجات والرغبات – (المترجم).
(16) استخدم سعيد كلمة antinomies والتي تعني تناقضاً بين معتقدين أو فكرتين منطقيتين بما يصنع حالة مُفارقة أو ظاهر متناقض Paradox –(المُترجم).
(17) استخدم الكاتب كلمة antinomies مرة أخرى – (المُترجم).
(18) استخدم الكاتب كلمة irreconcilability –(المُترجم).
المراجع في العمل: