كتبها غورنه في Wasafiri، ونُشرت في ١٨/٠٧/٢٠٠٨.
بدأت الكتابة في سنيني الأولى في إنكلترا، كان عمري وقتها 21 سنة تقريبًا. كان عثوري على الكتابة تعثرًا فيها وليس بحثًا عنها. كنت أكتب في أيام المدرسة في زنجبار، ولكن للمتعة، ولم تكن مهمة جدية. كتبتُ لأسلي أصدقائي ولأقرأ ما كتبتُ في ممرات المدرسة ولأملأ وقت فراغي ولأستعرض قدراتي. لم أفكر يومًا في الكتابة على أنها تحضير لأي شيء، ولم أسعَ لأكون كاتبًا.
لغتي الأولى هي السواحيلية، وخلافًا لكثير من اللغات الإفريقية، كانت لغتي كتابية من قبل وصول الاستعمار الأوروبي، ولكن هذا لم يعنِ أن القراءة والكتابة كانتا منتشرتين للغاية. تعود أقدم الأمثلة للكتابة الخطابية إلى أواخر القرن السابع عشر، وعندما كنت مراهقًا، كان لهذه الكتابة معنىً، وكان استخدامها يأتي جزءًا من الميزة الشفاهية للغة. ولكن الكتابة السواحيلية المعاصرة الوحيدة التي عرفتها كانت لقصائد قصيرة منشورة في الصحف أو لبرامج القصص الشعبية على الراديو، أو لكتب القصص القليلة هنا وهناك. امتلكت العديد من هذه المنتجات بعدًا أخلاقيًا أو هزليًا وصنعت للاستهلاك الشعبي، وكان كتابها يعملون في وظائف أخرى، إما معلمين أو موظفي خدمة مدنية ربَّما. لم يخطر على بالي بأني قد أكون كاتبًا أو أن علي أن أكون كاتبًا. منذ ذلك الوقت، حصلت الكثير من التطورات على الكتابة السواحيلية، وأنا أتحدث الآن عن تصوري عنها في ذلك الوقت. كنت أنظر إلى الكتابة على أنها حادث عرضي أو أنها فعل عقيم إلى حدٍ ما، ولم يهب لي أن أجربها إلا للأسباب الطائشة التي ذكرتها.
على كُل حال، عندما غادرت موطني، كانت طموحاتي بسيطة. قاسيتُ وقتها المتاعب والقلق والخوف والإهانات المتكررة، ومع بلوغي سن الثامنة عشرة، كل ما أردته هو أن أغادر وأن أجد الأمان والراحة في أي مكان آخر. لم تكن الكتابة في مخططاتي البتَّة. لجأت إلى الكتابة في إنكلترا وتغيرت فكرتي عنها لاحقًا لتقدمي في العمر، إذ أخذت أفكر، وساورني القلق حيال أمور بدت أقل تعقيدًا قبل الهجرة، ولكن ما دفعني حقًا نحو الكتابة، كان شعوري الغامر بالغرابة والاختلاف. اجتاحني التردد وأنا أتلمس طريقي في صياغة الكلمات. لم أكن واعيًا لما يحصل معي، وقررت أن أكتب عنه. بدأت الكتابة بدون تخطيط، ولكني أعرف أنني كنت مكروباً. لم أكن أعرف ما سأكتب، ولكني كنت مدفوعًا بالرغبة لأقول أكثر. ومع مضي الوقت، صرتُ أتساءل عن ماهية فعلي، فتوقفت لوهلة، ثم بدأت أنظر إلى أن ما أفعله هو الكتابة. ثم أدركتُ بأني أكتب مستعيدًا ذكرياتي، وكيف أن تلك الذكريات كانت واضحة وعارمة، وكما أنها كانت تختلف عن وجودي الغريب والخفيف لسنواتي الأولى في إنكلترا. كثَّفت الغرابة الإحساس بالحياة السابقة، بالأناس الذين تركتهم هناك دون تفكير، بالمكان الذي صار مفقودًا إلى الأبد بالنسبة لي. عندما بدأت الكتابة، كتبتُ عن تلك الحياة الضائعة. عن المكان الضائع، وعن ذكرياته عنه. وبشكلٍ من الأشكال، كنت أكتب عن إنكلترا أيضًا، أو على الأقل عن مكانٍ لا يشبه المكان في ذاكرتي ووجودي… مكانٌ آمن بما فيهِ الكفاية… وبعيد بما فيهِ الكفاية عن المكان الذي تركته… مكانٌ جعلني أشعر بذنب وندم غير مفهومين. ومع استمراري في الكتابة، وجدت نفسي مهزومًا للمرة الأولى بالمرارة وعدم الجدوى نظرًا للأوقات الأخيرة التي عشناها، وبكل ما فعلناه لجلب تلك الأوقات على أنفسنا، وما بدا بعد ذلك حياة غير واقعية بشكل غريب في إنكلترا.
ثمة منطق مألوف لما حصل معي. سفري بعيدًا عن وطني أعطاني المسافة والمنظور ودرجة من السعة والحرية. كثَّف قدرتي على التذكر، والذاكرة كما نعلم، عالم الكاتب. تسمح المسافة للكاتب بالتواصل غير المنقطع مع هذه الذات في داخلهِ، والنتيجة… تحكم أعلى بخياله. هذه الفكرة ترى الكاتب على أنه كون كامل مكتفٍ بذاتهِ، وأنه يُخرِج أفضل ما عنده في العزلة. أعرف أنها فكرة قديمة، وتصوير ذاتي رومانسي للمؤلفين من القرن التاسع عشر، ولكنها فكرة لها أساسها الذي تقف عليه، وتفسر كثيرًا من الحالات التي نعيشها حتى هذه اللحظة.
وإذا كانت إحدى طرق التعامل مع المسافة تنظر للكاتب/ة على أنه عالم مغلق، ترى أخرى المسافة على أنها مُحررة للخيال النقدي. وثمة وجهة نظرة ثانية ترى الاغتراب على أنه ضرورة، وأن الكاتب يقدم أفضل أعمالهِ في العزلة، لأنه يتحرر من المسؤوليات والحميميات التي قد تجبره إلى إخفاءِ وتغييب الحقيقة. هنا يكون الكاتب بطلًا ومستبصرًا. فإن كانت الفكرة الأولى لعلاقة الكاتب بالمكان تعود لرومانسية القرن التاسع عشر، فإن الفكرة الثانية تذكرنا بحداثيي أوائل وأواسط القرن العشرين. كثيرٌ من كتّاب الحداثة الإنكليزية كتبوا أعمالهم وهم بعيدون عن أوطانهم، ليكونوا قادرين على وصف الحقيقة كما عرفوها، وليهربوا من الجو الثقافي الذي رأوه قمعيًا وباعثًا على السكوت.
توجد حجة ثالثة مفادها أن الكاتب وفي عزلته بين الغرباء يفقد الإحساس بالتوازن ويفقد الإحساس بالناس وعلاقته معهم ووزن تصوراته تجاههم. ويقال إن هذا يكون صحيحًا بشكلٍ خاصٍ في عصر ما بعد الإمبراطورية، وينطبق على الكُتَّابِ الذي كانوا جزءًا من المُستعمرات الأوروبية السابقة. شرعنت الكولونيالية نفسها عبر تسلسل هرمي للعرقية والدونية، وانتقل هذا إلى كثير من سرديات الثقافة والمعرفة والتقدم. وعمدت القوى الكولونيالية لاستخدام كل ما لديها لإذعان الشعوب المُستعمَرة للفكرة نفسها. كما أرى، فإن أكبر خطر يحدق بالكاتب ما بعد الاستعماري هو أن فرصة النجاح قد تتأتى له إذا لجأ إلى العزلة وحياة الغربة في أوروبا. ومن المرجح أن يصبح هذا الكاتب مهاجرًا يشعر بالمرارة، ويسخر من أولئك الذين تركهم في بلادهِ، ويهتف له الناشرون والقراء الذين لم يتخلوا عن العداء غير المعترف به، والذين يسعدون للغاية بالإشادة بأي نصٍ يصف القساوة الآتية من العالم غير الأوروبي. هذه الحجة تشير إلى أن الكتابة بين الغرباء تدفع بالشخص للكتابة بقسوة لكسب المصداقية، واعتماد ازدراء الذات دليلًا على حقيقة المكتوب أو رفضهِ باعتبارهِ متفائلًا عاطفيًا.
كلا وجهتي النظر، التي ترى المسافة إما على أنها محررة أو مشوِّهة، تبسِّط الأمر بشكل سخيف، وهو ما لا ينفي أنهما تحملان بعضًا من الحقيقة في كنههما. عشتُ كل سنين حياتي بعد البلوغ بعيدًا عن مكان ولادتي، واستوطنت بين الأغراب، وأعجز الآن عن تخيل عيشي لأي حياة أخرى. أحاول أن أعيش حيوات مختلفة أحيانًا، ولكني أعود مهزومًا باستحالة حل الاختيارات الافتراضية التي أضعها لنفسي. أن أكتب وأنا أنعم بخيرات ثقافتي وتاريخي لم يكن خيارًا متاحًا، وربما ليس خيارًا لأي كاتبٍ يرغب في أن يكتب عنها. أعلم أني بدأت الكتابة وأنا مغترب، وأدرك الآن أن كوني من مكان وانتقالي للمعيشة في آخر كان محور كتاباتي على مر السنين، ولكنها لم تكن كتابة عنها لأنها تجربة فريدة مررت بها، وإنما لأنها واحدة من قصص عصرنا.
أتيح لي أن اقرأ باستفاضة أيضًا في إنكلترا. كانت الكتب في زنجبار مرتفعة التكلفة والمكتبات قليلة. وعلى قلتها، كانت المكتبات ضعيفة والكتب فيها قديمة. والأهم من ذلك، لم أكن أعرف ما أريدُ أن اقرأ، وقرأت ما وجدته عشوائيًا. أما في إنكلترا، بدا خيار القراءة غير محدود، وشيئًا فشيئًا، صارت اللغة الإنجليزية تبدو لي منزلًا فسيحًا وواسعًا وقادرًا على استيعاب الكتابة والمعرفة بترحاب كبير. وكان هذا هو طريقي الآخر إلى الكتابة. أعتقد في قرارة نفسي أن الكُتّاب يعثرون على الكتابة عبر القراءة، وأن الكتابة تكون نتيجة لعملية التراكم والمعالجة والتكرار للدرجة التي يطور عبرها الكُتّاب صوتًا يمكِّنهم من التعبير. وهذا الصوت قضية حساسة أخرى، إذ لا يمكن وصفه، على الرغم من أن النقاد الأدبيين يكرسون وقتهم محاولين فهمه، ليس لأنه أداة تسمح برواية القصة، وإنما لأنه، وحين ينجح، يكون خليطًا من الحركات السردية المناسبة والمقنعة. لا أحاول إلصاق صفة الغموض بالكتابة، ولا أقول باستحالة الحديث عن الكتابة، ولا أدّعي أن النقاد واهمون. يعلّمنا النقد الأدبي عن النص وعن الأفكار الكامنة في ما وراء النص، وما أقوله هو أنه لا يمكن لا يمكن للكاتب أن يعثر على الصوت الذي أتحدث عنه عبر النقد الأدبي، لأن الصوت ينبع من أماكن أخرى، أهمها القراءة.
كان التعليم الذي تلقيته في زنجبار بريطانيًا كولونياليًا، على الرغم من أننا في آخر مراحله كنا قد استقللنا ونعيش في رحاب دولة ثورية. يحمل الاعتقاد القائل إن كثير من الشباب يذهبون إلى المدارس ويكتسبون معرفة لا تعني لهم شيئًا في وقتها الكثير من الصحة، وذلك لأن تلك المعرفة تبدو مؤسساتية وغير ذات علاقة بالواقع المعاش. كان الأمر ملغزًا أكثر لنا بشكل خاص، وكان كثير مما تعلمناه قد جعلنا نبدو مستهلكين عَرضيين لمواد تعليمية صممت لشعوب أخرى. ولكن برفقة باقي أطفال المدارس، تعلمنا شيئًا مفيدًا نهاية. تعلمت، من بين كثير من الأمور، الطريقة التي تنظر فيها بريطانيا إلى العالم والطريقة التي تنظر فيها إليّ. لم أتعلم ذلك مباشرة، ولكن مع مرور الوقت، وعبر التذكر. لم تكن المدارس أداة التعليم الوحيدة، إذ كنت أتعلم من المسجد وفي مدارس القرآن ومن الشوارع ومن البيت وعبر قراءاتي الأناركية، وما كنت أتعلمه من هذه الأماكن كان في الغالب يناقض ما أتعلمه في المدرسة. لم يكن الأمر مزعجًا ومُعجزِا كما يبدو، إلا أنه كان مؤلمًا ومخزيًا في بعض الأحيان. ومع مرور الوقت، صار التعامل من هذه السرديات المتناقضة يبدو بالنسبة لي عملية ديناميكية، حتى لو كانت بطبيعتها تنفذ من موقع ضعف. ومن هذه العملية، تولدت لدي الطاقة لأرفض ولأجادل، ولأتعلم كيفية التمسك بالتحفظات التي تقويها المعرفة وتستمر مع مضي الزمن. ومنها أيضًا صارت لدي القدرة على تقبل الاختلاف وسهلت عليَّ الاعتراف بإمكانية وجود طريقة أخرى أكثر تعقيدًا لمعرفة أمرٍ ما.
لذا، وعندما لجأت إلى الكتابة، لم أركن إلى تفريغ عشوائيتي على الورق آملًا أن يصير صوتي مسموعًا. كان علي أن أكتب آخذًا بعين الاعتبار أن بعضًا من قرائي المحتملين لديهم نظرة خاصة تجاهي وأن علي أن أتناول موضوع هذه النظرة في عملي. كنت مدركًا لحقيقة أنني أقدم نفسي لقراءٍ يرون أنفسهم على أنهم هم «الطبيعيون» وأنهم أحرار الثقافة و وعلى قمة هرم العرقية، لقراءٍ لا يعرفون الاختلاف. احترتُ في مقدار ما يجب عليهِ قوله، والمعرفة التي يجب سكبها في النص، احترت ما إذا كانت سرديتي مفهومة أو لا. تساءلتُ كيف أن علي أفكر في كل هذا وفي الوقت نفسه أن أكتب الرواية.
وبالطبع لم تكن هذه الأسئلة فريدة في تجربتي، على الرغم من أن التفاصيل تبدو فريدة عند كتابتك عنها. وهي حتى ليست تجربة معاصرة أو تجربة خاصة، حسب تعبيري عنها، ولكنها تبقى تجربة كتابية مميزة، لأنها تبدأ من الإدراك الذاتي بالهامشية والاختلاف. ومن هذا المنطلق، فإن الأسئلة التي أطرحها ليست أسئلة جديدة، بل متأثرة بالإمبريالية والتفكك ووقائع عصرنا. وأحد أهم حقائق عصرنا هو نزوح كثير من الغرباء إلى أوروبا. ولم تكن هذه الأسئلة إشكالية بالنسبة لي فقط، ففي وقت انشغالي بها، كان غرباء غيري في أوروبا يتعاركون مع مشاكل أخرى وينجحون في التعامل معها. وهذا النجاح يتجسد الآن في امتلاكنا لفهم أفضل وأكثر حساسية للسردية وكيفية سفرها وترجمتها، وساهم هذا الفهم في جعل العالم أصغرَ وأقل إبهامًا.