يختلف مصير الثورة السورية عن مصائر مثيلاتها في دول عربيّة أخرى، تحدث فيها ثورات ـ انتفاضات ـ حراك، بمسألتين اثنتين، تُتيحان اختيارها في قراءة نقدية، تتناول “أفضل 10 أفلام مُنجزة عن الربيع العربي”.
أولاً: إغراق الحراك المدني العفوي السلميّ، المنبثق من رغبة أفرادٍ في الخروج من سطوة القمع والتسلّط، بدءاً من 18 مارس/ آذار 2011، بحربٍ تمتلك الصفات كلّها للحروب: عنف وبطش وتنكيل وتدمير واقتلاع وتهجير وإقصاء وإلغاء وتزوير وتغييب وتخوين، باستخدام الوسائل كلّها، وبعض تلك الوسائل، العسكرية تحديداً، مُحرَّم استخدامه دولياً.
بلدان عربيّة أخرى تعرف حراكاً كهذا، تواجهه سلطاتُها بقمعٍ وحشيّ، فتُسحق مدنيّته وعفويته وسلميّته سريعاً (البحرين)، أو يبلغ الحراك فيها خاتمة مغايرة للمرجوّ منه، أو بعض المرجوّ منه على الأقلّ (السودان). بينما تتحوّل مسارات الأحداث في ليبيا واليمن إلى حربٍ طاحنةٍ، من دون أنْ تتمكّن السينما فيهما، كما في البحرين والسودان (رغم إنتاجاتٍ سينمائية سودانية لافتة للانتباه في الأعوام القليلة الفائتة)، من إنتاج أفلامٍ، تواكب وقائع وحقائق وتفاصيل. أما تونس ومصر -أول بلدين عربيين يشهدان حراكاً مدنياً، ينتهي بانقلاباتٍ داخلية، تمتلك عنفاً وقمعاً من دون الركون إلى حربٍ- فتُنتجان أفلاماً أقلّ عدداً، تُصبح مرايا راهنٍ وعيشٍ، وبعض تلك الأفلام أساسيّ في “التأريخ السينمائي” لـ”ثورات” الشباب والشابات، وإنْ تُظهِر قراءاتها النقدية تفاوتاً متنوّع الأشكال بينها.
ثانياً: تمكُّنُ الفيلم الوثائقي السوري من تطوير لغته الفنية والجمالية، رغم قسوة المسائل المختارة لتصويرها سينمائياً، بخروجه من تقليدية التسجيل إلى جماليّة التوثيق السينمائي، وللتوثيق وجماليّته جذور عملية في مرحلة ما قبل بداية الثورة وحراكها المدني العفوي السلمي، بفضل محاولات متفرّقة، يبقى أبرزها اشتغالات الراحل عمر أميرالاي (1944 ـ 2011)، المتوفّى في 5 فبراير/ شباط، أي قبل 36 يوماً فقط على بداية الحراك.
التركيز على النتاج الوثائقيّ منبثقٌ من وفرته في مواكبة الحراك وإفرازاته ونتائجه، رغم أنّ أفلاماً روائية عدّة تُنتَج بين حينٍ وآخر، في هذا البلد أو ذاك، تتناول مسائل وحكايات ووقائع مستلّة من الحراك ومساراته.
سؤال “الأفضل” سينمائياً
اختيار “أفضل 10 أفلام” (أو أكثر) اشتغالٌ مُتداول في الصحافة السينمائية، عربياً (بشكل أقلّ) وغربياً. هذا لا علاقة له بالنقد. الاختيار متأتٍ من مزاجٍ فرديّ، وإنْ يكن الفرد ناقداً. تسمية أفلام يراها “الأفضل”، في عامٍ أو في 10 أعوام أو في 100 عامٍ، مُنطلقةٌ من تحليل شخصي لمُشاهدات ومتابعات، معطوفٍ على مزاجٍ وانفعالٍ. عدم التورّط في لعبة صحافية كهذه، تستجيب لرأي نقدي يقول بعدم جدوى الاختيار، فالأفضل في لحظةٍ آنية ربما لن يكون الأفضل لاحقاً، والمُشاهدة الأولى تختلف عن مُشاهدات لاحقة، ما يؤدّي إلى اختيارات أخرى.
أمّا اختيار “أفضل 10 أفلام مُنجزة عن الربيع العربي”، فلنْ يكون مجرّد مزاجٍ وانفعالٍ وتعاطفٍ ومعاينة. “الربيع العربي”، كتعبيرٍ مُتدَاول منذ بداية الحراك التونسي إثر اندلاع النار في جسد محمد البوعزيزي (17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، علماً أنّ وفاته حاصلةٌ في 4 يناير/ كانون الثاني 2011)، يتحوّل سريعاً إلى حماسةِ مشاركَةٍ لكثيرين، يريدون خلاصاً من تنانين القتل والنهب والقمع، قبل سقوط “المدني العفوي السلمي” في براثن عسكرٍ، وبعض العسكر يرتدي زيّاً مدنياً، أو في قبضة سلطةٍ تفتك بشعبها قتلاً وسحقاً وتزويراً.
الأفضل هنا يتّخذ بُعداً نقدياً، بعيداً عن مجرَّد تسميةِ عناوين أفلامٍ يراها الناقد “أفضل” من غيرها. صعوبة الاختيار ناتجةٌ من تداخل الذاتي بالنقدي في مقاربة أحوال الحراك الشعبي وتحوّلاته القاسية. في سورية تحديداً، تندلع النار في بلدٍ وشعبٍ واجتماع، فيُرافق الاندلاعَ اشتغالٌ سينمائيّ متنوّع وكثير، يغلب عليه الوثائقيّ، وغربلته كفيلةٌ بفصل العادي عن البديع، سينمائياً. النار تندلع في ليبيا أيضاً، لكنّ الحراك السينمائيّ متواضع وبطيء؛ والتسلّط الوحشيّ للسلطة المصرية، المنقلبة على حُكم الراحل محمد مرسي (3 يوليو/ تموز 2013)، يحول دون مزيدٍ من الانجازات السينمائية المعنية بـ”ثورة 25 يناير” (2011)، ويذهب بعيداً في إحكام قبضة حديدية على السينما والتلفزيون (وعلى غيرهما أيضاً) بشكل أكبر وأخطر. ولتونس أفلامها عن الربيع والثورة والحراك، لكنّ عددها أقلّ من تلك المُنجزة في سورية وعنها ولها.
بلدانٌ أخرى غير مالكةٍ صناعة سينمائية، تعيش حراكاً شعبياً وانقلاباتٍ عدّة، فتُنتج أفلاماً قليلة، تعكس شيئاً من وقائع العيش اليومي في نكبة القمع، ولحظات التمرّد عليه؛ وبعض تلك البلدان غير مُنتج شيئاً. فلكلّ بلدٍ عربيّ، يحصل حراكٌ فيه وينتهي إما قمعاً أو تغييباً أو تصفية أو حرباً مديدة، ميزة للمواجهة تختلف عن ميزاتٍ أخرى، مع أنّ للمواجهات مصائر تتشابه بتحطيمها، لكنّ أساليب التحطيم تختلف بين مصير وآخر. أما السينما، فتغيب في بعض البلدان الثائرة، أو تحضر لكنْ بتواضع، وأفلام الثورة والتمرّد والحراك فيها نادرة.
هذا تبريرٌ شخصيّ لاختيار سورية في القراءة النقدية المتعلّقة بـ”أفضل 10 أفلام مُنجزة عن الربيع العربي”. الحرب فيها مستمرّة. الوحشية السلطوية تزداد أحياناً، وعند خفوتها قليلاً يُمارَس على الباقين في بلدهم أنماطٌ شتّى من القهر والتعذيب، كالتحكّم العنيف بمتطلّبات عيشٍ يومي عادي، من مأكل ومشرب وحاجات ضرورية. النتاج السينمائي السوري، في الأعوام الـ10 الفائتة، مُثيرةٌ لمشاهدات عدّة، ولنقاشاتٍ مختلفة، ففيه أفلامٌ أساسية في المشهد السينمائي، وأخرى تمرّ فيه من دون أنْ تترك أثراً كبيراً. السينما، التي تصنعها السلطة عبر مخرجين عديدين، تحتاج بدورها إلى قراءاتٍ، وبعض المحسوبين على السلطة يُنجز أفلاماً لا علاقة لها براهنٍ مُخضّب بالدم والغبار والخراب، وهذا أسوأ من أفلامٍ تزوِّر حقائق وتُلغي وقائع، فتغييب الراهن يقول، ولو مواربة، إنّ سورية بخير، ومشاكل ناسها عادية وبسيطة.
براعة الوثائقي ونُدرة الروائي
من الأفلام الوثائقية السورية الأكثر حضوراً وتأثيراً فيّ، هناك “عن الآباء والأبناء” (2017) لطلال ديركي، و”لسّه عم تسجِّل” (2018) لسعيد البطل وغياث أيّوب، و”الكهف” (2019) لفراس فيّاض. قبلها (استناداً إلى تواريخ إنجازها)، هناك وثائقيان يختلفان كلّياً عن أفلامٍ عدّة لاحقة عليهما، في كيفية اشتغالهما: “بلح تعلّق تحت قلعة حلب” (2013) لمحمد سويد، و”ماء الفضّة” (2014) لأسامة محمد ووئام سيماف بدرخان. روائياً، ندرة النتاجات تحدٍّ، نقديّ وشخصيّ، ورغم هذا، يبقى “يوم أضعتُ ظلّي” (2018) لسؤدد كعدان أفضلها، إلى “في سورية” (2018) لفيليب فان ليو، وإنْ بدرجة أقلّ. هذا لن يُسقِط من اهتماماتي، النقدية والشخصية، بعضاً آخر: “مجانين حلب” (2019) للينا سنجاب، و”إلى سما” (2019) لوعد الخطيب. آخر الاختيارات “طعم الإسمنت” (2017) لزياد كلثوم، المختلف، بدوره، عن المقاربة المباشرة للوضع السوري الآنيّ، من دون الابتعاد عنه كثيراً (جميع المخرجين سوريون، باستثناء سويد اللبناني وفان ليو البلجيكي).
هذا ترتيب غير معنيّ بقاعدة “من الأكثر إلى الأقلّ” بالنسبة إلى “الأفضل”. يُمكن لأيّ منها أنْ يكون في مرتبة أخرى، من دون أنْ يفقد أهميّته عندي، كمُشاهِدٍ ناقدٍ؛ وبعض الأفلام غير المذكورة تحضر من دون أنْ تعثر هنا على مكانٍ لها. المُغاير في فيلمي سويد ومحمد وبدرخان يعكس نمطاً من الاشتغال يندر حدوثه في صناعة السينما الوثائقية العربية. الحصول على كَمٍّ هائل من الصُور والتسجيلات يضع المخرج في “غرفة توليفٍ”، دافعاً إياه إلى تمرينٍ على كيفية بناء فيلمٍ، من دون أنْ يكون هو “صاحبه” مباشرةً، منذ ما قبل بداية التصوير، والتصوير ليس له، فالمُقيمون في الخطّ الأول للمواجهة مع آلة القتل الأسديّ يلتقطون صُوراً ويُسجّلون لحظاتٍ ويوثّقون انفعالاتٍ وحالاتٍ، ثم يتكفَّل المخرج (محمد سويد وأسامة محمد) ببنائها سينمائياً.
يذكر أسامة محمد اسمَ وئام سيماف بدرخان في خانة الإخراج، رغم اكتفائها بتصوير ساعاتٍ كثيرة، يحوّلها محمد إلى “ماء الفضّة”. سويد منتبهٌ تماماً إلى ذلك، بحرصه على ذكر كلّ مرسل صُور وتسجيلات إليه، فهم -محمود الباشا وميزر عامر ومهنّد النجار- صانعو الفيلم، وسويد يجعله “بلح تعلّق تحت قلعة حلب”.
لـ”الكهف” حكاية مُشابهة. يقول فراس فيّاض إنّ شباباً يتولّون تصوير ما يطلبه منهم، بإرساله إليهم شكلاً بصرياً لهذا المطلوب، وهم يُصوّرون وفق المخطّط، ويُرسلون المُصوَّر إليه: “لم تكن لديهم أي خبرة في هذا المجال”، لكنّهم “رائعون في تصوير المطلوب منهم”. كأنّهم، بعملهم على الفيلم، “يكتسبون خبرة في السينما الحقيقية التي أصنعها” (“العربي الجديد”، 17 يناير/ كانون الثاني 2020). هذا اختبار. وئام سيماف بدرخان منطلقةٌ لوحدها في تصوير كلّ ما تشعر بضرورة تصويره؛ والثلاثي، الباشا وعامر والنجار، مُندفعٌ إلى توثيق بصري مباشر، يكتفي به كمادة أساسية لصُنع فيلمٍ يوقّعه محمد سويد كمخرج.
هذا متداول في الغرب. خزانة الماضي مفتوحة على آلاف الساعات المُصوّرة، وبعضها غير مبثوث وغير معروف، ما يُتيح لمخرجين عديدين فرصة اختبار نمط اشتغال مختلف: تحويل المُصوَّر تسجيلياً إلى سينما متكاملة. مع محمد سويد وأسامة محمد وفراس فيّاض، يُمنح الاختبار حضوراً عربياً، والاختبار مرتبطٌ مباشرة براهنٍ وآنيٍّ، وبلحظة الحدث، فخزانة الماضي العربي مُغلقةٌ، خوفاً من كشف أسرار يُراد لها تغييباً دائماً.
أفعال التوثيق وهواجس صناعته
مشتركٌ آخر يجمع “الكهف” بـ”مجانين حلب” و”إلى سما”، يتمثّل باهتمامٍ سينمائي بالمشفى السوري، والفيلمان الأخيران يلتقيان في مشفى حلبيّ واحد. اختيار المشفى السوريّ، في حربٍ أسديّة طاحنة ضد شعبٍ وبلدٍ، منبثقٌ من رغبةٍ في توثيق اللحظة الأكثر إنسانية وقلقاً وراهنيّة، والأكثر التصاقاً بأفرادٍ يواجهون الموت في منازلهم كما في مشفاهم. مُرافقة طبيبات وأطباء، وممرضات وممرضين، وعاملات وعاملين في مستشفيات سورية، جزءٌ من كتابة فصلٍ من تاريخ الموت والشقاء السوريين. الافتراق بين الأفلام الثلاثة حاصلٌ في الشكل واللغة. إمعان فراس فيّاض في اشتغالاته، التقنية والفنية والجمالية، فاقعٌ رغم براعة سينمائية في تشييد الوثائقيّ بتوازنٍ مُدهش بين الشكلٍ والمضمون. الشهادة الذاتيّة عاملٌ مشترك، إلى حدّ كبيرٍ، بين لينا سنجاب ووعد الخطيب، تماماً كالشخصية الأساسية في الفيلمين: الطبيب حمزة الخطيب، الذي سيتزوّج وعد، ويُنجبان طفلة يُسميانها سما. الحميميّ غالبٌ مع وعد، والانفعالي طاغٍ مع سنجاب، وهذان الحميميّ والانفعاليّ امتدادٌ لوقائع قاسية، تضع المخرجتين، مراراً، أمام سؤال أخلاقيّ يتعلّق باختيار صُوَر ولقطات دون غيرها.
تجربة الثنائي سعيد البطل وغيّاث أيوب تُعيد طرح سؤال السينما، كلغة وأداة قول واشتغال احترافي. “تدريس” كيفية التصوير في بداية الفيلم يهدف إلى طرح تساؤلات، ولو مواربة، عن علاقة كاميرا الثنائي بالواقع والناس والحكايات والمُشاهدات والانفعالات. مع “طعم الإسمنت”، يوازن زياد كلثوم بين سورية ولبنان، من خلال عمّال سوريين يأتون لبنان للعمل في تشييد المباني، بينما المباني تُدمَّر في سورية. الاشتغال السينمائي لكلثوم بديع في تحويل الصُور والصمت والكادرات والإضاءة والبوح إلى نموذجٍ لمعنى السينما في ارتباطها بتفاصيل وحكايات. أما التحايل متنوّع الأشكال، الذي يعتمده طلال ديركي لتحقيق “عن الآباء والأبناء”، فأساسيّ في صناعة سينما وثائقية سورية، إنْ يحدث هذا قبل انتفاضة السوريين أو خلالها. فالهدف من التحايل كامنٌ في توثيق وقائع، وتأريخ راهنٍ، والسعي إلى اكتشاف آفاق أخرى للاشتغال الوثائقي، يتمثّل في “سينما الحقيقة” عبر الخديعة.
روائيّا سؤدد كعدان وفيليب فان ليو يلتقيان في رواية سرديّةٍ سورية، ويفترق أحدهما عن الآخر في مسائل عدّة. كعدان تنطلق من أزمة قارورات الغاز المنزلي للقيام بجولة في سورية، التي تعاني أهوال حربٍ وأصولياتٍ وبطشٍ وتدمير؛ وفان ليو يختار حصاراً داخل منزلٍ، ليرسم ملامح بلدٍ يواجه خراباً، وأناسٍ يقبعون في الاختناق، وذواتٍ تتمزّق بين علاقات مبتورة، وجدران ضاغطة، وأنفاسٍ مقطوعة، وقلاقل غير منتهية.
كلّ فيلمٍ يُحرِّض على نقاشٍ نقدي، يصعب اختزاله بأسطرٍ قليلة. السابق محاولة كتابية لتقديم نبذة عن أفلامٍ سورية تعكس شيئاً كثيراً وعميقاً ومهمّاً من ثورة شعبٍ، وحرب سلطة عليه. السينما حاضرةٌ، وأسئلتها مطروحة، وهذه ميزة أساسية للأفلام المختارة.
لائحة “أفضل 10 أفلام مُنجزة عن الربيع العربي” ـ سورية (الترتيب المتّبع وفقاً لتواريح إنتاجها):
“بلح تعلّق تحت قلعة حلب” (2013) لمحمد سويد.
“ماء الفضّة” (2014) لأسامة محمد ووئام سيماف بدرخان.
“طعم الإسمنت” (2017) لزياد كلثوم.
“عن الآباء والأبناء” (2017) لطلال ديركي.
“لسّه عم تسجِّل” (2018) لسعيد البطل وغياث أيّوب.
“يوم أضعتُ ظلّي” (2018) لسؤدد كعدان.
“في سورية” (2018) لفيليب فان ليو.
“الكهف” (2019) لفراس فيّاض.
“مجانين حلب” (2019) للينا سنجاب.
“إلى سما” (2019) لوعد الخطيب.