محطات من شبكة سجون الأسد

ممالك الرعب والموت والجنون… قلت: ماذا تعني بالفتّ برّات الصحن؟

Joseph Wright, The Prisone

فرج بيرقدار

شاعر سوري

كنت، حين ينام الآخرون، أسرح بأفكاري كما لو أني لست سجيناً. أحاول تأسيس بعض المقالات، وأحياناً مشاريع قصائد، وأحياناً أترك العنان لنفسي، فأحاول مقارنة جهنم الله، كما سمعت وقرأت عنها في طفولتي وشبابي، بجهنم المخابرات الجوية. كما لو أن خطابات جهنم الله تعتمد كلاماً مجازياً يستهدف إخافة الأطفال صغاراً في السنِّ كانوا أم كباراً. 

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

26/01/2021

تصوير: اسماء الغول

فرج بيرقدار

شاعر سوري

فرج بيرقدار

بين السجناء، الذين انضموا للمهجع قبل أيام، شاب ذو بنية رياضية كأبطال كمال الأجسام. لا أعرف لماذا أحضروه إلى مهجعنا عارياً إلا من ثيابه الداخلية. عملاق بملامح ممزوجة بالطيبة والقلق والاستسلام. مع كل سؤال يتعلق بتهمته أو بخصوصياته الاجتماعية تضطرب عيناه من الخوف وتوشكان على الدمع. قلت في نفسي سأضع حداً لتلك الأسئلة الفضولية والمتربصة وأسوق الأسئلة في اتجاهات تثير الاطمئنان بدلاً من التوجس. سألته إن كان رياضياً محترفاً، فسألني عن معنى “محترف”، ثم تبين لي لاحقاً أنه لم يدخل في حياته نادياً رياضياً، ولم يذهب إلى المدرسة في طفولته سوى لسنة واحدة، ثم أرسله أبوه للعمل في ورشة بناء. 

ذات يوم أخرجه سجَّان ليعود به بعد ساعة كما لو أن بضعة سكاكين قد تناوشت جسده. قال لنا إن المحقق سأله عن أشياء لم يعرف ما تعني فعذبوه كثيراً.

طلبت من الحلبي والزيدلي، بوصفهما قديمين وخبيرين، أن يجدا حلاً لمعالجة الشاب، فنظرا إليّ باستغراب.

قلت: جروح الرجل ستلتهب وتتقيح.

قال الحلبي: وما الذي نستطيعه نحن؟

قلت: دقوا على الباب واطلبوا معقّماً على الأقل.

قال: هل تعرف عقوبة من يدق على الباب؟

قلت: حسناً… أنا أدقّه.

– أرجوك لا تدق الباب. إن شاء الله يومين ثلاثة وتشفى جروحي.

قالها الرجل وعيناه دامعتان بالامتنان.

دقتان خفيفتان بقبضتي على الباب، وانتظرت قليلاً، ثم دقتان أعلى، ثم دقات أعلى فأعلى، إلى أن سمعْنا صوتاً يصيح: فهمنا فهمناااااااا… جاييكم يا عرصات.

فتح السجان الباب، وسأل عمّن كان يدق، فرفعت يدي.

قال لي: يبدو أنك لا تعرف عقوبة من يدق الباب.

قلت: يبدو أنك لا تعرف إن تسممت جراح هذا الرجل وراح فيها، أن المحقق سيحملك المسؤولية، أم تظنّ أن المحقّق سيتحمّل المسؤولية عنك؟

قال: بلا أكل خرا… احكي لي منشان شو دقيت الباب؟

كان عليّ أن أتجاهل الإهانة وأجيب: نريد ممرضاً يعالج جروح الرجل، أو ليرسل لنا معقماً على الأقل.

قال: وعم تتفهمن كمان!

هالمرة ماشي الحال، لكن دير بالك تعيدها.

بعد قليل عاد السجان ومعه معقًم وكيس قطن طبي وعلبة شاش.

من ضمن أنظمة السجن أن يكون في المساء جولات تعذيب يسمونها “دروس رياضة”. يُخرِجون المهجع إلى الكوريدور، وتبدأ الأوامر: التمرين السادس “ضغط”، ثم يبدأ العدّ، واحد اثنان ثلاثة. من لا يستطيع مواصلة الضغط يتعرّض للجلد بالخيزرانات إلى أن يسقط الجميع على بطونهم، ويبقى ثلاثة فقط صامدين، فينتهي التمرين مكافأة لهم، ثم يبدأ التمرين التاسع، أو ما يُسمَّى الرقصة الروسية، وبعدها تمرين العربة الرومانية التي ينبطح فيها نصف العدد على بطنه، ويقوم النصف الآخر بحملهم من أرجلهم ودفعهم إلى الأمام.

لحسن الحظ أني كنت دائماً أحد الثلاثة المكافَئين، بل إني في إحدى المرات كنت الوحيد المكافأ، فقد تداعت قوى الحلبي والزيدلي بعد العدد ستين، وواصلت منفرداً، إلى أن قال سجان للآخر: دعه يا رجل… ستملّ من العدّ قبل أن يملّ هذا العكروت من الضغط. لقد نجوت بالمصادفة، إذ لو انتبه السجان إلى ارتجاف ذراعيّ، لأدرك أني على وشك التداعي. 

في إحدى الليالي قلت: يا شباب… أرغب أن أطرح عليكم فكرة، فهل ترغبون في سماعها؟

كان واضحاً أنهم يرغبون في الاستماع، فقلت: تلاحظون أن من يقعون على الأرض أولاً يتعرضون للجلد إلى أن يبقى ثلاثة صامدين، فما رأيكم أن يقع الجميع على الأرض خلال ثوان، وفي هذه الحالة يتوقف الضرب سريعاً.

قال الحلبي: ما ذنبنا إذا كنا نحن الثلاثة، وأشار بعينه إليّ وإلى الزيدلي، أقوى أو أكثر صبراً وتحملاً في التمارين، وننجو من الجلد بسبب ذلك.

قلت: ولكنكما في المرة الماضية لم تنجوَا، فما ذنبي إذا صارت مكافأة الإعفاء من العقوبة ليست لآخر ثلاثة أشخاص يصمدون في التمرين، بل لآخر شخص فقط؟ 

في المحصلة اتفقنا على الخطة، وبالفعل انخفض منسوب التعذيب كثيراً.

كنت، حين ينام الآخرون، أسرح بأفكاري كما لو أني لست سجيناً. أحاول تأسيس بعض المقالات، وأحياناً مشاريع قصائد، وأحياناً أترك العنان لنفسي، فأحاول مقارنة جهنم الله، كما سمعت وقرأت عنها في طفولتي وشبابي، بجهنم المخابرات الجوية. كما لو أن خطابات جهنم الله تعتمد كلاماً مجازياً يستهدف إخافة الأطفال صغاراً في السنِّ كانوا أم كباراً. 

يبدو أنني تجربة إثر أخرى في حياتي أزداد اقتناعاً بأن كل ما تربَّيت عليه أو تعلَّمته إنما هو قبضُ ريح.

ما الذي كان يعرفه جدي وأبي وحتى إمام قريتنا عن فظاعات المخابرات الجوية الفعلية وليس المجازية؟

أستطيع الجزم بأن لا أحد منهم يستطيع الصمود ولو جولة تعذيب واحدة. 

روائح التعرُّق والدم والقيح طوال الوقت، حتى بدون الجَلد والنهش والعواء، تجعل المرء في مرمى جهنم، فإذا أضفنا إليها روائح الموت…

للموت روائح تزكم المهجع ليل نهار حتى لو لم يكن بيننا من مات.

يمكن للمرء حين يفكّر في الموت هنا أن يستوعب الأمر ويتقبَّله ولو على مضض، وربما يستسلم له وإن ببعض الحزن والخوف.

كنت أواجه هواجس الموت بشطرات شعرية أو بمشاريع قصائد أرددها بيني وبيني باستمرار.      

ذات مساء سمعنا تكبيرات العيد، وبدأت الهواجس والتوقعات بعفو رئاسي عام أو جزئي، ومن يمكن أن يخرج أولاً، تبعاً لخطورة الاتهامات الموجّهة إليه. 

كان أغلب السجناء يتوقعون أن أخرج أولاً لأن قصتي سياسية، في حين أن الآخرين لديهم قصص جنائية تتضمن القتل أو الشروع فيه.

حوالي التاسعة ليلاً جاء سجّان وأعلن بضعة أسماء، ثم قال: من ورد اسمه عليه أن يكون جاهزاً للانتقال من هنا خلال دقائق.

بعد قليل تكرر الأمر مع أسماء أخرى.

قرابة منتصف الليل لم يبق سوى الحلبي والزيدلي وعنصر المخابرات الجوية المتهم بمحاولة اغتيال الأسد، وأنا.

مع الفجر يأتي سجّان ويعلن اسمي منفرداً.

أخرج معه إلى غرفة يجلس فيها ذلك الشخص ذو العضلات والوجه البهيمي. يقول لي: سماع ولااااك. إذا بتفتّ برّات الصحن مرّة ثانية، أحسب ألله ما خلقك.

قلت: ماذا تعني بالفتّ برّات الصحن؟

قال: إنك تنشر شعر، مقالات، أو أي شي ضدنا، ما تلوم غير نفسك.

أخرجوني وتركوني في الشارع. 

كما كنت أقلِّب أفكاري حين جئت، رحت أقلّب أفكاري وأنا عائد.

إلى أين أذهب واليوم عيد، وثيابي أكثر من متسخة؟

قلت أمشي باتجاه مركز المدينة لعلي أصادف أحداً أعرفه. كنت منهَكاً ولكني لم أكن مستعجلاً. كان ينبغي أن أرتّب الأولويات لما بعد إطلاق سراحي.

وصلت إلى قرب سينما الأمير القريبة من البرلمان. قرأت الإعلانات وتمنيت لو أحضر فيلماً وأنا نظيف ومرتاح وشبعان.

فجأة رأيت أمامي الصديق جميل حتمل. تقدمت نحوه ملهوفاً، فتوقّف حذراً ومحتاطاً للحظات ثم قال: فرج؟! 

يا إلهي… ما الذي فعلوه بك؟! 

عانقني، ثم أخذني من ذراعي وهو يقول: تعال تعال.

الكاتب: فرج بيرقدار

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع