فتحَ حسين طاقةً في جدارٍ عظيم راكمت حجارتَه وعمّرتْه رواياتٌ لكنفاني وحبيبي وجبرا وآخرين، جدار أعلاه شعرُ درويش، وآخرين، ونثرُه. بين هؤلاء البنّائين، كان أصغرُهم سنّاً، أشدُّهم حداثة، أكثرُهم غرابةً واغتراباً، يحفرُ، مستعجلاً وقد ارتأى أمامه رحيلَه الباكر، في الجدار، طاقةً بكلّ عدّته: الشعر والنثر، الرواية والقصيدة والأغنية والفلسفة والنقد. يكتب بأيادٍ تحيطه، تملأ فضاءه، لا تهدأ، كإلهة الحرب الهندية، دورغا، التي تعارك بعشرة أذرع، أكثر أو أقل، في كلَّ الاتجاهات من حولها. كان حسين يعارك مرضَه في كلّ اتجاهات الكتابة، وكان يعارك اتجاهات الكتابة الفلسطينية ذاتها، بكل طاقاته اللغوية والفكرية. وهو، بعدّته تلك، تقصّد ذلك أم لم يفعل، فتح في الجدار العظيم منفذاً لضوء، لنسمّه أزرقَ، استحضاراً لكتابته ولسمائه العالية.
في حين اشتغل معمّرو السردية الفلسطينية المعاصرة على ثورة الموضوع، على موضوع الثورة، اشتغل حسين على ثورة الشكل، ثورة اللغة الحاملة للموضوع، الناقلة له إلى متلقّيها قراءةً ورؤيةً واستماعاً ولمساً.
تخفّفَ حسين، بلغته، الأقرب إلى تجريديّة الموسيقى، شعراً ونثراً، من ضرورة القول الفلسطيني، من بديهيّة المُقال، من البطولة الجمعية، ليمنح، بالطاقة التي فتحها، وقبلها بالطاقة التي فتح بها، بأيدٍ عشرة، تحوّلات شكلية وموضوعية للكتابة الفلسطينية، وليحوّل، كذلك، البطولة التراكميّة تلك إلى رقّةٍ فردية. مشاغباً، في ساحات كبارٍ ككنفاني وحبيبي وجبرا ودرويش وآخرين، بلغته، مطوِّعاً إياها لتماهي مناماته وأفكاره. متيحاً، لكتّاب فلسطينيين عاصروه ولحقوه، مَمراً مضيئاً لأدبِ اغترابِ الفلسطيني، هشاشتِه، ضعفِه، مرضِه، انحسارِه، خفوتِه، وبذلك كلّه، إنسانيتِه.
لا يحكي حسين البرغوثي قصص شخصياته/شخصيته، بل لغتَهم/لغتَه. يملّ، كما قال، من أي فعل لا يحوّله، حتى لو كان الكتابة، فكتبَ بالعشرة، وكلّما أراد تخطّي اللغة إلى الحكايةِ، عاد وحوّلها كي لا تستقر، كي لا تَطمئن، فكانت كتبه نموذجاً للفلسطيني القلِق، للفلسطيني في معترَك اللغة، للفلسطيني الباحث، في الطاقة التي أحدثها، عن طاقةٍ يحدثُها، للفلسطيني الحافر في الضّوء، الباحث، في السّماء، عن نوافذ يَخرج منها.