عرفت حسين*
هامش
*رافقته في الأيام العشرة الأخيرة من حضوره الفيزيائي في مشفى رام الله الحكومي، وفي اليوم الأخير عند الفجر أسلم حضوره لشكله الآخر، وأسلمته لديدن الطقوس ورحت أبحث عن شكل وجوده الآخر وأهدئ من لوعة فقدي بنص عنونته حينها بتمارين في حجر الورد، كان لـ «حجر الورد» بيننا حكيات ونوادر، فقد كان يسميني دون أن أعرف ابن حجر الورد، قائلاً: “ذهب منذ عشر سنوات ليقرأ حجر الورد ولَم يرجع بعد” أما ما كنت أعرفه فهو أنه كان قلقاً علي من «حجر الورد» قلق من أن يتلبسني ويفقدني لغتي. هذا القلق الوجودي ليس علي وحدي بل علينا كجيل “لا تجوز عليه قواعد اللغة”، بالإضافة لإسهاماته فينا ولنا وإصراره علينا أن نبحث عن الجميل الطازج الكوني حتى في خصوصيتنا المحلية، ما يبقي حسين حاضراً رغم أنف الغياب، هذا الحضور الأثيري يتماسك ويتخذ شكل وجود ربما غير فيزيائي لكن يتبلور بقليل من الحب و”قلب المنظور” – كما كان يحب أن يسِم الشعر – وقياس موضوعي للفراسخ التي سبرناها في أغوارنا كنتاج لصدفة أو قدر وجوده بيننا. هذه الـ “نا” متوترة ومتشعبة ومتناقضة إلا في كونها “نا” من توليف حسين.
أنا لا أحاول أن أثبت شيئاً هنا لكن سأحاول أن أقول قلبي كاملاً إن استطعت أو بعضاً منه مع هذا الرجل الظاهرة. يقول رولان بارت في خطاب الأحبة: “الموت ليس إلا شكل من أشكال الحياة كالبلوغ إلا أنه أكثر تطرفا”. فما الذي يجعل الموت بهذا التطرف؟ أعتقد كثرة الأحياء ومركزية فهمهم للوجود وقدرتهم على النسيان ومتابعة الحياة، وبنظرة خاطفة على طقوس الفقد سنجد أنها لا تخص الموتى بل ولأقولها بفجاجه هنا، هي احتفاء الأحياء بحياتهم ووضع الموت في إطار آمن، كأحجار الموقدة مع النار وكل أشكال الاحتواء، فالماء في الكوب وحوض الاستحمام مدجن وأقل خطورة منه في البحر والنهر، ماذا أحاول أن أقول هنا؟ “لا لم يمت”، ربما، لكن الأرجح هو أن الموت موضوع ذاتي ويراه كلٌّ كما يراه، لكن بالتأكيد أنا لا أحاول التخفيف من وطأة وجسامة الموت وثقله الذي استحوذ على انشغال التفكير البشري منذ أول جرح على جدار الكهف إلى هذا “الرذاذ الإلكتروني الذي يلفح وجهي الآن”
حضر حسين قبل أن التقيه بثلاثة أعوام وتعلمت من حكايا تروى تقريبا على لسان كل من عرفه، وعرفته وتعلمت الكثير منه أثناء رفقتي له، وأتعلم وأعلم عنه حتى الآن وأعتقد أني سأبقى كذلك، حتى بعد أربعة عشر عاماً من أرتدائه زي وجوده الآخر، يمكنني القول أنه لا يمر يوم علي دون أن أتذكره أو أروي قصة عنه أو أقتبس اقتباسا منه أو أعيد التأمل بجملة من جمله، ناهيك عن إدراكي واعترافي بأنه لم يكن من الممكن أن أكون ما أنا عليه لو لم ألتقيه بل ربما ما كان يمكن أن أكون البتة لو لم يظهر في حياتي، وأعتقد أن كثيرين مروا به أو مر بهم يعتقدون كذلك.
ذات مرة انتدبني أحد الأصدقاء للقاء وفد من الحزب الشيوعي السويدي على ما أذكر وفي نهاية اللقاء عرضوا علي توصيله ووافقت وقبل أن نصل مكان نزولي بلحظات نظرت إليّ واحدة منهم بطريقة غريبة وقالت لقد كنت هنا قبل عشرة أعوام وأريد أن اسألك عن شخص التقيته آنذاك، نظرت إليها وقلت: حسين البرغوثي. قالت نعم وكيف عرفت؟ لا أذكر الآن كيف أجبتها ذاك الوقت، لكن حقيقة كيف عرفت؟ في العالم قلة قليلة يمكنها أن تثير انطباعا يدوم لعشر سنوات وحسين جميل البرغوثي واحد من هذه القبيلة التي أسميها أنا جزافا بالقبيلة الزرقاء.
“حينا تقدد المرآة ضحكته وحينا تهذي اسمه الرحب” حسين، جمل الجمل الجميل لا يمكن أن نصفه وننصفه أذا قلنا شاعراً أو فيلسوفاً أو مفكراً أو أديباً ولا حتى لو قلنا أنه كلها مجتمعة لأنه ظاهرة مرت على الأرض ولم تتركها كما أتت، بل لم تتركها، فقد أثر حسين في الهوية الإبداعية لجيل كامل من الأدباء الذين أصبحوا مؤثرين بدورهم وأخذ يتدحرج هذا الأثر المنتقى بدقة جراح وتشخيص ذكي حين قدم نقده القاسي للذائقة الشعرية المحلية، وقدم مقترحه البديل منتجا عبر عمله المترامي كما ونوعا وعبر النظرية والتنظير كما في «أزمة الشعر المحلي» و«سقوط الجدار السابع» وسلسلة المحاضرات العشر الشهيرة بيننا، وعبر لقاءات لا نهائية كانت تتم بمن حضر ودون ترتيب مسبق يفيض بها كنهر عارم بشغف معرفي معدٍ ومكثف حيال تقريبا أي شيء، وفي خواتيم أعماله تمكن حسين من مزج كل شيء بكل شيء في توليفة رصينة وبين الهندسة والنار بين العقل والقلب بين ما نحن وما نحًِن إليه.
هذه “النحن” الغامضة والمتدحرجة لأن أجيالاً أخري وسكان لغات أخرى طرأت وستطرأ عليها كلما رشح منه نزر، فقبل أعوام زارتني شابة فرنسية بعيد ترجمة سأكون بين اللوز للفرنسية لتتأكد أن العالم الذي كتب منه وعنه موجود ولا أدري إن كان قد خاب ظنها أم لا لأن خيبة الظن من سمات الكتابة الجيدة حين نحاول التحقق من تفاصيلها دون أن نقيم وزناً لكونها خيانة المبدع للواقع وفقا لتطلب غريزة الجمال
الجزء الواضح من هذه” النحن” هو ما كان يعرف بظاهرة ضيوف النار الدائمون أو ما أطلق عليه لاحقا تسمية الشعراء الشباب، هذه التسمية لم تكن تروق لحسين لكنه لم يعترض عليها إلا أنه كان يفضل تسمية شعراء بلا أب، فلماذا بلا أب إن كان هو الأب الحقيقي لهذه الظاهرة؟ لأن حسين لم يكن يسعى لنسخ نفسه فينا بل كان يسعى أن يخلق أندادا له والند لا يكون صدى ولا يغسل من نفسه الآخرين إلا عبر الاعتراف بهم كما فعل هو في ديوان “رسائل من المنفى” اعترافا بمحمود درويش ومظفر النواب وتتبعا لأثرهما فيه، وهذا معروف بالاستطيقيا كما لدى ت س إليوت بوعاء الصهر؛ أي أن الإبداع هو توليفتك الخاصة لكل ما أثر فيك هنا. أنثر الظل على جملتين هامتين من تعاليم حسين الأولى عن الكونفوشيوسية: “المعلم الجيد هو من يعلم تلاميذه قتله والتلميذ الجيد هو من يقتل معلمه” والأخرى عن بودلير على ما أعتقد: “إذا كان الإبداع سرقة فالعبقرية نهب” فحسين استباح الأفضل من عالمه المعرفي وأباح أفضل ما لديه بمعيارية التجاوز أو “كما تعلم هو من طريق محارب مسالم” لدان ميلمان: “لقد كنت دائما استثنائياً بمعيار عادي أما الآن فأنا عادي بمعيار استثنائي”
فلا أب لك هي معيار الاستباحة التي معيارها التجاوز من أب نيتشوي كما كان يصف نفسه، تعلم سر جلجامش وانكيدو بالترفع عن الخلود المستحيل لخلود ممكن. هذا الخلود ما كان ليتحقق لو كنت أنا أو نحن صدى لصوت حسين، وأعتقد أنه كان يدرك ذلك، ففي “العشر الأواخر” كان يتحدث لصديق قائلا إنه “يعتقد أن الحياة كانت عادلة معه فقد أخذت منه بقدر ما أعطته”، استفزتني هذه الجملة من شخص بقامته الثقافية ولم أعرف منه سوى العطاء ويترك ليموت هنا وهكذا في حين يرسل ابن أخت وزير الثقافة في حينها إلى فرنسا لتوضع الجبيرة لرجله المكسورة، فعبرت عن احتجاجي بسؤال؛ وماذا أعطتك الحياة يا حسين؟ فأجاب وبدون تردد “أنتم”.
حسين لم يكن يحمل مشروعه فحسب بل كان أيضا يرعى غزلان مشاريعنا ويحاول أن يحميها من انعدام اللون والبنية وخلل الثقافة وعوارض الاحتلال ومن السقوط على صورتها في المرض النرجسي، فكان يقول دائما “إن أخطر شيء على المبدع ذاته” وأحيانا كان يستخدم مصطلح “حفلة على الذات”. التقيته ذات يوم وكان غاضبا منا فسألني إن كنت وافقت على عقد لقاءات تلفزيونية معنا قلت له عرضوا علي ولم أوافق لأني لا أحب الظهور وهذا النوع من الظهور بالذات، فقال بما معناه لقد أنجزت عدة دواوين ورواية وكتابين في النقد الفني ولم أحتفل على ذاتي بعد، أما أنتم فلم تصدروا ديوانكم الثاني بعد وعاملين حفلة على ذاتكم. شعرت بالرضا أني خارج “النحن” هنا لأني لم أوافق، ولم أنشر ديواني الأول بعد، هذه الرعاية لنا لم تكن اعتباطية وفيها من الحب ما يشعرنا بالاستثناء ومن القسوة ما يرفعنا ولم أفهم أنا إلا متأخرا أنها استراتيجيته في تعليمنا، وكان يسميها العتبات فلا يفتح عتبة قبل أن نتجاوز التي قبلها وهنا سأتحدث عن تجربتي أنا معه، فكلما عرضت عليه نصاً كان يعطيني شهادة ثلاث أرباع للغة والموسيقى والبنية ويبقي ربع منقوص للدقة الروحية لأنه كان يعتقد إن الكاتب مسؤول أيضا عن عافية القارئ فلا ينبغي أن يكتب من أو عن مرض التجربة إلا إذا هضمه وتعافى وتأكد من دقة المعرفة الروحية وعافيتها: “لا شأن للعالم بأمراض الكاتب” و “هناك من يعكرون الماء ليوحوا بالعمق”
هذا الربع الذي كان يبقيه منقوصا هو مسافة الرأس الإضافية التي من الممكن لي بلوغها لو بذلت أقصى ما لدي أو ما يعرف بمنطقة النمو المجاور لدى فيجوتسكي، هذا الربع لا ُيبلغ لأنه عتباتي ما أن تجاوزه حتى تصبح على بعد ربع آخر من العتبة التالية ودواليك إلى أن تتوقف عن النمو وهو الربع الذي يفصل الجمال عن الواقع الذي لا بد من خيانته كما يفتح حسين أبواب “الضوء الأزرق” وقد أهداني إياه بعبارة “مع الحب الذي لا كلام عنه” وعن هذا الحب سأتلعثم في ما تبقى من هذه الشهادة وعلى الأرجح فيما تبقى من العمر كلما حاولت الكلام عنه
كنت وقبل إن أدرك من أنا وما في أو على من من يتجاسرون على الموت انتحارا وبعد الجولة الأخيرة من هذا التجاسر، التقيت حسين كما في العادة مصادفة وكما في العادة يتحدث وكأنه يعرف ما في قلبي. قال كثيرا في تلك المحادثة لكن ما أذكره حتى الآن هو ما جعل تلك المحاولة هي الأخيرة: “إذا كان لا بد ألهو مع الموت لكن لا تذهب معه” وبعدت أن توقفت عن الذهاب مع الموت صار يجيني على شكل هجمات إحداها كانت في الدانمارك ذات صباح وأنا أتحدث مع صديق مناصر للقضية الفلسطينية وصديقة أميل لها وأنكر، وكان حديثنا في غور سحيق عن فهم الفهم، فجأة شعرت أني أعرف كل شيء وأن وجودي يفلت مني ويتطاير عن جلدي كالبخار. ارتعبت وتركتهما وتركت العمق ورحت أتمشى في الشوارع. في الليل عاودتني الحالة مع عوارض جسمانية استدعت نقلي للمشفى حيث أُبقيت تحت المراقبة في قسم القلب لمدة أسبوع قبل أن تشخص الحالة بهجمة ذعر ونسميها نحن هجمة موت، وعندما عدت أخبرت حسين بالحادثة والتشخيص فضحك حتى قبل أن أنهي، استفزني ذلك فقلت يا حسين الحالة حقا مرعبة فلماذا تضحك أجاب “هذه إشارة على انتهاء الادعاء وبدء النبوة” وذات مرة أضعت روحي في امرأة لم تُضع روحها فيّ، وكنت التقيها كل يوم مبرراً ذلك لنفسي بذريعة أني سأخبرها بأنها ستكون المرة الأخيرة التي نلتقي فيها وبقيت التقيها يوميا لمدة شهرين وأخبرها يوميا أنها آخر مرة نلتقي، لا أذكر متى أخبرت حسين بالقصة قبل أن أتوقف عن لقائها أو بعد لكن أذكر ما قاله لي”إذا كنت تعتقد أن قلبك يعمل عند عقلك فأنت بهلوان” وقال كما في “الضوء الأزرق” على ما أعتقد “كلنا في خدمة السيدة” ولما سألته من السيدة قال “القلب”.
كنت أزوره بمشفى رام الله الحكومي إبان عودة ظهور المرض فنخرج ندخن ونتمشى في الشوارع حول المشفى، وذات مرة كان صامتا على غير عادته وصمت أنا أيضا، وفي لحظة عودة من الشرود تفقدته ولم أجده جواري. كان قد تأخر عني بضع خطوات وكان يحدق في الأرض، عدت إليه وحدقت في ذات الاتجاه لأعرف ما الذي أثار انتباهه فلم أر أي شيء خاص، فسألته إذا كان هناك شيء فقال “أحيانا أشعر بنوع غريب من الحنين لأن أحضن عشبة وأغمض عيني الإغماضة الأخيرة”، وبعد أن اشتد المرض عليه وافق أن يذهب إلى مشفى في تل أبيب لتلقي علاج كيماوي غير متوفر في البلاد وكنت أزوره متسللا وعادة ما كان قرار كهذا لا يتخذ إلا على عتبات السكر العليا، وما إن أصل إلى هناك أفقد تمالكي وأجهش بالبكاء وغالبا ما كان هو من يهدئ من روعي بعبارة من طراز “لا تقلق يا رجل ففينا ما وراء الفيزياء” ولا أدري إن كان يقصد إن حضوره سيمتد إلى ما ورائها أم أن طاقته على مقاومة المرض سوف تكون ما فوق فيزيائية لأن كلاهما حق، فهو على الأقل بالنسبة لي ولآخرين أعرفهم لا يزال حاضرا، وتعاليمه لا تزال سارية حتى لدى أناس لم يلتقوه، وهو أيضا لم ييأس قط وقاوم إلى النفس الأخير مع أن كل المؤشرات الفيزيائية كانت تشير إلى نهاية أقرب من الآن، وفقا لآراء الأطباء الفيزيائيين، أما هو فكان يحرك أبرة إيمانه نحو الطب البديل حيث كان هناك دواء استجلب من لبنان قيل إنه ينفع في حالات لم يعد للطب فيها سوى تسكين الألم، أُدخلت جرعة أو جرعتين ثم منع الاحتلال دخول الباقي بدواع أمنية.
قبل العشر الأواخر، انقطعت عن زيارته بسبب الاجتياح ولأنه احتج في آخر زيارة لي له على عدم تمالكي لنفسي، ومعه كل الحق لأن زياراتي صارت تنضوي على عبء رفع معنوياتي في وقت هو أحوج ما يكون لكامل طاقته، وكان قد عاد في وقتها إلى “البيت الذي قرب الرمل” على حد تعبير آثر وإلى الحديقة التي أراد إن يأكل من خضارها “صحن سلطة”. أعاد الاحتلال اجتياح رام الله وفرض حظر التجوال في كل مدن الضفة الغربية المحتلة والمعاد احتلالها، في هذه الأثناء ساء وضع حسين ونقل إلى مشفى رام الله ولم أعلم إلا في أول يوم من رفع حظر التجول من صديق ذهبت أطمئن أنه لم يزل حياً كما كنا نفعل في تلك الأيام فأخبرني أن حسين في المشفى وحالته سيئة وأنه سأل عني فذهبنا لزيارته ولم أكن أعلم أن هذه الزيارة ستطول لعشرة أيام هي “العشر الأواخر” وفِي ذاك اليوم وفي أول لحظة اختلاء سألته إن كان غاضبا مني كما سُرب إلى فقال: “لا تصغي لمفاتيحهم” وهذه الـ “هم” أيضا فضفاضة ومتزحزحة.
في تلك الزيارة حدث الكثير ومنه ما سيظل لي وله وللحب الذي لا كلام عنه لكنه أوفى تعاليمه لي ولآخرين ثم “شعر كمن جاء ليودع سكان الأرض، شعر بالحاجة إن يمضي، شعر وفعل. وكان من الكبرياء بحيث لا يبقى من القوة بحيث لا يصلب” (حجر الورد)
وكما قلت، أسلمته لديدن الطقس وطفقت أبحث عنه في شكل وجوده “الممتد في الطبيعة” كما قال هو في فيلم صديقه صبحي الزبيدي “آخر سبع دقائق مع حسين البرغوثي”. فوجدته في قطه ولدت ذاك الصباح أسميتها شمسه لأنها شقراء بالكامل، وكما علمت لاحقا فإن من النادر إن تكون القطة الأنثى شقراء بالكامل ولهذا يسمونها الأميرة أو الغريبة، هجرت أمها مبكرا وأتتني وكان موائها على شكل جمل لغوية وكان لها وجهة نظر صائبة في صديقاتي، ووجدته في راهب بوذي زرنا معبده في كوريا ولم انتبه لتفاصيل وجهه في البداية لأن نظارتي لم تكن معي ولأني كنت مشغولاً في الزمجرة على جنود أمريكيين عائدين من “الخدمة” في العراق صادف أنهم يزورون المعبد بنفس الوقت، ولما اختارني من بين الكل لأقرع معه الجرس وجدت ملامحه كملامح حسين على شكل كوري وكدت أقول “تسو أفأنت هو”(مرايا سائلة)، ووجدته في فحل خَيل بنّي بعد أن زارني أحد الأصدقاء الذين لم يلتقوا بحسين وجاء ليخبرني بحلم رأه في حسين. قال كان كالأسد وحقيقة حسين في بعض صورة كذلك بالذات عندما كان شعره طويل، وقال لي هذا الصديق: كان يسأل حسين وحسين يجيب بلغة عليا ومعرفة طازجة -وهو يفعل كذلك حين يزورني في الحلم أيضا- وأنه أجاب على كل أسئلته باستثناء واحد هو عني إذ قال له “الحصان البنّي وفقط” وقال صديقي: حاولت إن أستدرجه ليقول أكثر أو يوضح لكنه رفض وأصر قائلا: الحصان البني وفقط. في ذلك اليوم وبعد انتهائي من العمل مررت بقطعة أرض كنّا نجلس فيها أحيانا عندما نتجول حول المستشفى، تحت زيتونتين متينتين فكان فحل الخيل البني مربوطا بهما، لم ألتقط الإشارة في البداية، وبعد أن قطعت عدة أمتار انتبهت وعدت لأقف بموازاة الفحل فتلوت السلام عليه وسألته إن كان هو. أومأ الحصان ودق بحافره الأرض عدة مرات وهو ينظر لي، اقشعر بدني وخفت أن أتحقق أكثر فأفسد الإشارة.
وختاما، سأذكر الحادثة التي قال لي فيها جملة قسمت حياتي إلى قسمين غير متساويين، كان أيضا إبان الانفصال عن امرأة أضعت فيها روحي ولم تفعل هي المثل، فكنت في حالة من انعدام تقدير الذات، قلما آكل وأكثر من الشرب وفي صباح يوم أردت أن أخرج من هذه الحالة فذهبت لأستحم، وحين خلعت ثيابي ونظرت للمرآة لم أعرف نفسي. في المساء كالعادة كنت أمارس عبادة الشرب في مطعم كان باتا زمان الذي أصبح اليوم زيت وزعتر، وقبل أنهي تعبدي بقليل نحو الغيبوبة أطل حسين، رتب على كتفي وجلس معي على الطاولة قلت له: أتيت في الوقت المناسب، فقال: خير؟ قلت له: أريد أن أسألك سؤالاً أريدك أن تجيبني عليه بصراحة. قال: تفضل. فقلت: ما الذي تراه في لتسألني في بداية كل فصل أذا كان لدي ما يكفي للتسجيل وتمضي كل هذا الوقت معي وتحدثني عن كل هذه الأشياء؟ لأني اليوم نظرت في المرآة ولم أجد شيئاً. ضحك حسين وقال: إنها عادة قديمة لدى الآلهة؛ أن تربي آلهة مثلها.
انتهت رقعة هذه الشهادة ولم تفرغ جعبتي من جمله وحكاياه لكن آمل أن أكون قد نثرت ولو ظلا قليل على كيف كان حسين “يربي الآلهة”، “في بلاد هجرتها الآلهة”.