يُذكّرُنا كتاب “محمود درويش؛ مقالات اليوم السابع” الذي أعدّهُ وحرّرهُ وقدّمَ لهُ الكاتب الفلسطيني حسن خضر، وصدرَ عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية العام الماضي، بجانبٍ آخرَ قلّما يلتفتُ إليه مُحبّو أكثر الشعراء العرب جماهيريةً منذُ عصر المتنبّي. ذلك الجانبُ الجليُّ/ الخفيُّ الذي تكفّلت تجربةُ درويش الشعرية بإزاحتهِ عن واجهةِ مُنتجهِ خلال سنوات حياته بين عامي ١٩٤١ عامُ ولادتهِ في البروة، و ٢٠٠٨ عام وفاتهِ في هيوستن.
فتجربة محمود درويش الشعرية، وحياته السياسية كانت أقرب إلى النّاس من كتاباته الصحفية، التي يُذكّرُنا كتابُ “مقالات اليوم السابع” بجودتها وانضباطها، إلى حدٍّ بعيد، على إيقاعِ الصحافةِ بوصفها نوعًا كتابيًا مختلفًا عن الأنواعِ الأخرى من صنوف الكتابة الإبداعية. وقد يبدو ذلك طبيعيًا إذا ما تذكّرنا أنّ الميلَ العام دائمًا ينحو إلى ما يمسُّ الجوانب الشعوريّة العاطفية أكثرَ من الجوانبِ العقليةِ التركيبية. فنجدُ أنّ العدد الأكبرَ من الناس يحفظُ الشعرَ والموسيقى أكثر من المقالات، حتى تلك التي تُكتبُ عن الشعر والموسيقى!
لكنّ المُشترَكَ دائمًا بينَ كلّ تلك الأنواع الكتابية، هو شرط الحامل الفكريّ، الذي لا بدّ من توافرهِ في كلّ أنواعِ الكتابة. ولعلّ التذكير بمثلِ هذا الشّرط لدى محمود درويش من خلال انتخابِ بعضِ مقالاتهِ وإعادة نشرها في كتابٍ بعدَ أكثر من ثلاثين سنة على كتابتها ونشرها لأول مرة، لا يقلُّ أهميّةً عن المقالاتِ نفسها، ذلك أنّنا نشهدُ دائمًا اصطراعاً بينَ فصلِ المُنتَجِ الإبداعيّ عن معايير مُنتِجِه، التي شكّلت مواقفَهُ من القضايا الإنسانية الجوهرية.
فإذا كان القول إنّ الحفاظَ على الإبداع يستدعي التخفّفَ من مُحاكماتِ سلكوكِ أصحابهِ وتخفيفِه من غلواء السياسة، قولًا فيه بعض الوجاهة لجهةِ أنّ الإبداع ليس وثيقةً سياسية، فإنّ من الوجاهةِ أيضًا أن نعرفَ البُنى الفكرية التي حرّكت إبداع المبدعين، حيثُ أنّ القصائدَ مثلًا لا تكتبُ نفسَها بنفسِها، وقد لا تكفي الموهبةُ لإخراجها إلى حيّز التداولِ العام بأفضل صورة، استنادًا إلى العنوانِ الفرعيّ لكتابِ الشاعر العراقيّ الرّاحل فوزي كريم: القلب المفكّر؛ “القصيدةُ تُغنّي، ولكنّها تُفكّرُ أيضًا!”
انقسمَ كتابُ “مقالات اليوم السّابع” إلى ثلاثةِ أبوابٍ، تضمّنَ كلٌّ منها مجموعةً من المواد سبقَ ونُشرت في مجلة اليوم السابع التي كانت تصدرُ بين عامَي ١٩٨٣ و ١٩٩١ من العاصمة الفرنسية باريس، وكان الكاتب الفلسطيني بلال الحسن هو من رسمَ خطّها التحريريّ وترأسه. تطبعُ السياسة عمومًا، والقضية الفلسطينية خصوصًا مواد الباب الأول، والذي اختارَ لهُ المُعدُّ حسن خضر اسمَ “فضاء الآخر”، وهو بابٌ يُعرّفُنا على محمود درويش عبرَ علاقتهِ مع الآخر، والذي يُصادفُ أنّهُ ليسَ آخرًا فحسب، بل مُحتلّاً. ساجلَ محمود درويش أفكارَ المفكرين والكتّاب والصحفيين الإسرائيليين، بقدرِ مساجلتهِ لمواقف قادة إسرائيل السياسيين والعسكريين الدمويّة. ولعلّ هذا الباب من أبرز أوجهِ الأهميّة التي ينطوي عليها نشرُ الكتاب، إذ إنّ النصوص والمقالات التي جاءت في البابين التاليين: “كتاب المراثي” و”سهمٌ في الخاصرة” على أهميّتها، وجماليّاتها الإبداعية، تُعتبرُ أكثر شهرةً من المقالات السياسية السجالية التي افتُتِحَ فيها الكتاب في بابه الأول.
غيرَ أنّ السّجالَ لم يكن لغرضِ الإيغالِ في عداءِ المُحتلّ كما يوضحُ درويش في مقالتهِ المعنونة “إلى الخائفين”، وهي أول مقالات الكتاب، إذ يقول:
“في وسعنا أن نجدَ في الماضي كل ما نشاءُ لتركيب الصورة التي نريدها للحاضر. وفي وسعنا أن نقرأ، في مدينة طليطلة، على سبيل المثال، اندماج اليهود الطوعي في الثقافةِ الإسلاميةِ والعربيةِ، ومحافظتهم على خصوصيتهم وهويتهم. وفي وسع مناحيم بيغن، على سبيل المثال أيضًا، أن يوقف التاريخ عن العمل، وأن يعتقد أنّ الحبرَ لم يجفَّ بعدُ عن المعاهدةِ بين الملك سليمان وبين ملك صور. في وسعنا أن نجد الشرعيةَ المبتغاةَ لطموحنا إلى الانغلاق ولرغبتنا في التفتح. في وسعنا أن نجد العالم ينقسم إلى نوعين من البشر: يهود ولا يهود، وفي وسعنا أن نجد شعوبًا أخرى قد تتمكنُ من صياغةِ هويتها بمنأى عن حبها أو عدائها لليهود أو العرب”.
إلّا أنّهُ، أي السجال، يرمي إلى نهضةٍ مشرقيّةٍ، لا يُمكنُ أن تقومَ بدونِ ترسيمِ الحدود الفكرية والأخلاقية، وبدون إعادةِ الحقوقِ إلى أصحابها. عندئذٍ فقط يُمكنُ للمشرقِ أن ينهض على قاعدةٍ سليمة.
يُحذّرُ محمود درويش في أكثر من مقالة، من خطرِ التماهي مع الدّور الذي يرسمُهُ لنا خصومُنا، كأن يُطالَبَ الكاتبُ العربيّ الفلسطينيّ بالتهوّدِ، لجهةِ المظلوميّة الأكثر شيوعًا في عالم القرن العشرين، لإثباتِ مظلوميّتهِ أو حتّى لوصفِها. وقد توفّي محمود درويش قبل أن يرى إلى أيّ درجةٍ باتَ يصعبُ التعبيرُ عن ظُلمِ الفلسطينيين ما لم يكن مُلحقًا بصكّ الغفران من الذنب اليهوديّ، الذي لم يرتكبهُ الفلسطينيون أصلًا!
مات قبل أن يرى صعوبةَ التساؤلِ: هل يُمكنُ للمظلومِ أن يَظلِم؟
وفي السياقِ ذاتهِ نقرأُ في مقالةٍ أخرى بعنوان “من لا يُريدُ ساميّةً جديدة؟” كيف يسلط محمود درويش الضوء على الدعاية الصهيونية المضللة في العالم، عبرَ محاججة إيلي فايزل، وهو كاتبٌ وروائيّ أمريكي من أصولٍ رومانية، يُعتبرُ أحدَ النّاجين من المحرقة اليهودية التي قضى فيها بعضُ أفراد عائلته ضمن من قضوا، ثمّ حصلَ على جائزة نوبل للسلام عام ١٩٨٦. ويُبرّرُ درويش مقالتهُ بقوله: “بما أنّ السيد إيلي فايزل حصل على جائزة نوبل للسلام، فإننا مطالبون بأن نأخذَ كلامهُ على محمل الجد”. العبارةُ التي تبدو ساخرةً، يُمكنُ فهمها على نحوٍ دقيق حين نقرأ في متن المقالة أنّ السيد السلميّ فايزل قد قالَ سابقًا: “أنا عميق الارتباط بإسرائيل. أحبُّها من كلِّ قلبي. ولكن من الطبيعي أن نُجرح عندما نشاهدُ، على التلفزيون، صور الجنود الإسرائيليين، وهم مضطرّون إلى إطلاق الرصاص المطاطي، والغاز المسيل للدموع على الأطفال.”
مقولةُ فايزل هذه تدفعُنا بقوّةٍ نحو تقبّلِ جملة محمود درويش الساخرة في افتتاح المقال، فما الذي يُمكنُ أن يُقالَ عن “نوبليّ” يعتبرُ أن الجنديّ الإسرائيليّ قد اضطرَّ لقتلِ الفلسطينيين؟
على ذلك، فإنّ الحاجة لإعادة نشرِ “مقالات اليوم السابع” لمحمود درويش تتعاظمُ يومًا بعد يوم، ليس لما تنطوي عليه من دروسٍ كثيرة في فنّ الكتابةِ فحسب، ولا لأنها وثائق تاريخية يجدرُ بنا أن نحفظها عن أولئكَ الذين يتبنّون اليوم خطابَ “السلام” وقد كانوا بالأمس إما مشاركين، أو منظّرين للظلمِ الذي وقع على الفلسطينيين ولم يُعلنوا القطيعة مع دولةَ الاحتلال، أو مع نظريّتها الأخلاقية المشروخة القائمة على مبدأ تعزيز غيابِ الآخر تكريسًا لحضور الاحتلال. إنما لأنّ الكتابَ يكشفُ حجمَ الهوّةِ التي نحنُ فيها اليوم، بعد قرابة أربعين عامًا من كتابةِ مقالاته المنتخبة، ولافتقارِ المثقّفين المُدافعين عن القضايا إلى المعرفةِ اللازمة لمساجلةِ الاحتلال، أيّ احتلال، وإلى شجاعةِ القول رغم ما قد يلحقُه من أذى.
فمن يجرؤ اليوم، مثلًا، على ملاحقةِ مظلومي الأمس بحقيقةِ أنّهم ظُلّام اليوم؟!