لم يعد، اليوم، الخامسُ عشر من أيار، ذكرى للنكبة وحسب، أو تذكيراً باستمراريتها، زماناً مكاناً، ولم يعد مناسبةً لاستعادة حكايات سلب البيوت، المستمر والمتوزّع على كامل الأرض، وتهجير أهلها، المستمر والمتوزّع على كل الأرض.
الاشتباك (الذي صار واحداً على كامل التراب) مع الاحتلال (الواحد، جيشاً وشرطةً ومستوطنين) كما كان في الأيام الأخيرة، ومايزال، وما يمكن أن يكونه بعدها، أسّسَ لا لمرحلة جديدة في هذا الكفاح الممتد منذ ما قبل ثورة ١٩٣٦ الكبرى، وما تلاها من ثورة اللاجئين الذين تحولوا إلى فدائيين، مروراً بالانتفاضتَين، وما تخللها كلّها من هبّات، اشتباكُ الفلسطينيين هذا، اليوم، وغضبهم كما تمثّل، أسّسَ، بشكل استعادي، لحالةٍ ثورية هي مستمرة زمانياً، وهي كذلك مكانياً.
انتفاضة الفلسطينيين هذه الأيام، في ذكرى نكبتهم. أسّست لعلاقة تواصليّة ما بين كل ذلك الغضب المتوزّع على مئة عام، بسياقاته وأشكاله وأدواته، وغير المنقطع، لتكون مرحلةً جديدةً لجيل جديد، من ثورة شعبية طويلة، ممتدة زمانياً، ولتكون، المرحلةُ، مؤسّسةً لما بعدها، إذ كانت، بشموليتها المكانية هذه على كامل التراب، بهويّتها الوطنية التامة الآتية من تقاطع وتوازي أركان الانتفاضة، في الداخل والضفة والقطاع، كانت تحوّلاً نوعياً لتراكم كمّي لقرن من الغضب.
انتفاضُ الفلسطينيين اليوم، المرشّح ليصير ثورةً شعبية تعمّ البلاد كلّها، وهذا تحدّده الأيام القادمة، أسّسَ، بالمرحلة الجديدة هذه من السيرورة الثورية الطويلة، المبنيّة على تراكم مراحل سابقة تفاوتت مكانياً، أسّسَ لهويّة وطنية جامعة، لمعنى واحد يمكن الإحالة من خلاله إلى أي فرد من أي تجمّع فلسطيني، فصار لكلمة “شعب” معنى أشمل وأمتن، وبوعيٍ من جميع أفراده المشاركين في هذا الاشتباك الواحد، والمتوزّع عليهم بالقدر ذاته.
الفلسطيني اليوم أشدّ وعياً بهذه الشمولية، بهذه الوحدة، بمفردة “شعب” التي حملت معناها اليوم كما لم تفعل منذ عام ٤٨.
لم نعد نحيي النكبة كناجين، كمذكّرين، كقارعين على جدران خزّان سميك وملتهب فتكسّرت أيادينا ولم يسمعنا أحد. نحيي النكبة اليوم كثوّار، كغاضبين تحطّم الخزّان بتراكم القرع على جدرانه، وأحرقناه، وأدركنا، بذلك، أنّ شعب الناجين الذي أنجب فدائيين هنا ومنتفضين هناك، تحوّل، بالتراكمات، إلى شعب بأكمله ثائر.
النكبة مستمرة، إلى أن نستعيد أمكنتنا الأولى، وتستعيدنا، إلى أن ننهي الاستيطان الاستعماري والإحلالي على كامل التراب، لكن، ولذلك، ولأنّنا أدركناه اليوم، كما لم نفعل من قبل، فإنّ الثورة كذلك مستمرة، بمرحلة جديدة انقلب الزمّن إليها.
اليوم أسّسنا على كل ذلك التراكم الثوري.