«لنا ذاكرتنا» لرامي فرح: “أنا لا أريد أن أنسى”

نديم جرجوره

ناقد سينمائي من لبنان

شهادةٌ جديدة يكتبها رامي فرح بصُور ومرويات ونقاشات وانفعالاتٍ. يذهب بها إلى أعماق أناسٍ يواجهون بلا تردّد، ويخافون بلا قناعٍ، ويرغبون في خلاصٍ، لهم ولبلدهم، من دون افتراء وتصنّع، بل بحبٍّ عميق. خيبتهم قاسية، فالموت كثيرٌ والدم أكثر. رامي فرح يُدرك هذا كلّه،

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

10/07/2021

تصوير: اسماء الغول

نديم جرجوره

ناقد سينمائي من لبنان

نديم جرجوره

لا تفاصيل كثيرة في سينوغرافيا “لنا ذاكرتنا” (2021، 90 دقيقة)، للسوري رامي فرح. اختياره خشبة مسرحٍ وشاشة كبيرة يبدو كأنّه مُنبثقٌ من رغبةٍ شخصية في إضفاء مناخٍ، يُساعد شخصياته الثلاث على إعادة سرد تفاصيل يعرفونها تماماً، لعيشهم إياها قبل أعوامٍ. سينوغرافيا بسيطة جداً: خشبة مسرحٍ. شاشة كبيرة. عتمة (الإضاءة الأساسية مصدرها الأشرطة المعروضة على الشاشة الكبيرة). غياب إكسسوارات. حركة الشخصيات والمخرج شبه منعدمة. جميعهم يقفون أمام الشاشة، وأمام بعضهم البعض، أو إلى جانب بعضهم البعض. رامي فرح يتنقّل، قليلاً، بينهم، وإنْ خارج مدار عدسة الكاميرا. الأسئلة التي يطرحها تُسمَع فقط، فهو يظهر أمام الكاميرا صامتاً؛ أم أنّه يوحي بصمتٍ أمامها؟

هذا مشهدٌ واحد يستمرّ 90 دقيقة. الحاصل على الشاشة الكبيرة يمتدّ على أشهرٍ وجروحٍ وذكرياتٍ وأحلامٍ وخيباتٍ. تسجيلاتٌ متواضعة، فنياً، توثِّق بدايات ثورةٍ سورية في “مكان ولادتها”: درعا. ثورةٌ يواجهها نظام بشّار الأسد، قبل انضمام حلفاء وأسيادٍ إلى مجزرته المتواصلة، بحربٍ تلي، مباشرة، أسوأ خطابٍ يؤسِّس لحربٍ غير مُنتهية. الذين يستعيدون التسجيلات والذكريات ناشطون في الثورة: يَدَن دراجي وعُدي الطلب وراني المسالمة. خروجهم من درعا ناتجٌ من شدّة الحصار والمطاردة. أو ربما من شدّة الخيبة والقلق والخوف. كلامهم، أمام الشاشة الكبيرة ومع بعضهم البعض، يخرج من استعادة ذكرياتٍ إلى إعادة قراءة تلك اللحظة التاريخية، التي يُفْرَض عليها دمٌ وخرابٌ وغبارٌ، ومحاولات دائمة لتزوير جوهرها وحراكها وتفاصيلها وصدقها وشفافيّتها، مع ما يُسبِّبه هذا كلّه من ارتباكٍ و”أخطاء”، غير قادرة على تشويه تلك الثورة، وبهاء اندلاعها. بعض الدمع ينهمر إزاء موقفٍ أو ذكرى أو وجهٍ يعرفون صاحبه، وصاحبه يُقتَل أثناء اندفاعه لتوثيق يوميات الثورة: محمد الحوراني ـ أبو نمر.

للضحك حضورٌ، لكنّه ممزوجٌ بارتباك وقلق وحسرة. كأنّ الكاميرا التي تُصوّر وقوفهم على الخشبة (مدير التصوير: هنريك بون إيبسن، مُشغِّل كاميرا: سامر زيّات) تخترق ما يعتمل فيهم من تساؤلات وانفعالاتٍ ورغباتٍ، ومن إعادة قراءة، وفقاً لوقائع ومعطيات يعرفونها لاختبارهم إياها. التسجيلات المُصوّرة كثيرة: 12 ألفاً و756 فيديو موجود في الـ”هارد درايف”، كما في جملةٍ مكتوبة في نهاية الفيلم. تلك الـ”فيديوهات” تتحوّل الآن إلى “جزءٍ من أرشيف مفتوح في جامعة بيرمنغهام سيتي. أرشيف لاجئ في طور التكوين”. بهذا، يؤكّد رامي فرح أنّ المُصوّرَ كثيرٌ ومحفوظ، وأنّ للثائر تاريخاً موثّقاً، بحكاياته ومشاعره وعلاقاته وتفكيره وسلوكه ورؤيته، وبكيفية تعاطيه مع واقعٍ يتبدّل كلّ لحظة، لشدّة انهماك السلطة الأسدية في تحطيم شعبٍ يريد حقّاً مهدوراً وكرامةً، يظنّ أسياد السلطة أنّ لهم وحدهم حقّ التحكّم بها.

اللعبة، التي يختارها رامي فرح في “لنا ذاكرتنا”، مفتوحةٌ على السينمائيّ والانفعالي والتاريخي والواقعي والنفسي والتأمّلي. التداخل بين هذه المسائل جزءٌ من البناء الدرامي للسرد، الذي يُريده فرح بألسنة ثلاثة أصدقاء، “يتورّطون” في مواجهة تنانين القتل والتدمير والنهب، بأدواتٍ تتوزّع على إرادة حيّة، وقناعة واعية، وارتباطٍ ببلدٍ، وتمنّيات بنصرٍ يُحقِّق شيئاً من مطالب مُحقّة. تسجيلات تُرافق الأصدقاء الثلاثة، كلّ واحدٍ بمفرده، وأحياناً مع بعض، في رحلة الموت التي يعتبرونها طريقاً إلى الحياة. الخيبة كبيرة، فآلة القتل الأسديّ أقوى وأكثر بطشاً وفتكاً وتخريباً. ما يُعاد سرده على خشبة مسرح، أمام شاشة كبيرة تعرض بعض تلك التسجيلات، ينبثق من ذكرياتٍ، ويذهب إلى قراءة وقائع وأفعالٍ، ويميل، أحياناً، إلى الحميميّ في ذات كلّ فردٍ، إزاء رغبات تُعطَب لاحقاً، وأحلامٍ يتمّ وأدها بشراسةٍ.

رغم أهمية كلّ لحظة في “لنا ذاكرتنا”، لما فيها من تكثيفٍ لتاريخ وحكاياتٍ وأحداثٍ وتصوّرات، تتميّز محطّتان في سيرة الفيلم، كما في سيرة نضالٍ ومواجهة وتحدّيات: أولى، تتناول نظرة الغرب والعالم إلى صراع “داود وجوليات”، بلسان عُدي الطلب ورؤيته وحساسيته وغضبه وقهره؛ وثانية تُناقِش سؤال الذاكرة، ويقولها فرح نفسه، في مسافة زمنية قصيرة بين آخر ظهور للناشطين الثلاثة على شاشة فيلمه الوثائقي هذا، وآخر لقطة.
 

يُدرك عدي حجم المأساة، التي يُراد لها أنْ تغلب قوّة الإرادة الحيّة في مواجهة نظامٍ قاتل. يعرف أنّ هناك مخطّطاً، تتّضح منذ البداية معالمه: “أعطونا سلاحاً كي نموت. كي نقتل بعضنا. كي ندمِّر البنية التحتية السورية”. يُضيف أنّ هناك من “أعطى سلاحاً إلى أناسٍ”، خاضعين لتدريباتٍ على أيدي من يُعطيهم سلاحاً، وهؤلاء يتمّ توجيههم. التوتّر والحماسة والقلق والقهر تظهر كلّها في كلامه عن لحظة مفصلية، فهذا (سؤال السلاح) حاصلٌ بعد عامين “من المواجهة السلمية”. يقول بحسرة قاهرة إنّ الأمم المتحدة والجامعة العربية وأميركا وفرنسا والغرب، “جميعهم شاهدونا نموت ونُقتل ونجوع، ولم يتحرّك (أحدٌ منهم)”.

بعد هذا كلّه، أيُعاقَب ويُدان من يواجِه هذا الخراب الدموي العنيف، عند حمله السلاح، بعد عامين من مواجهات سلميّة ضد سلطةٍ مدجّجة بالسلاح؟ لحظة تؤسِّس جزءاً فاعلاً في سياقٍ درامي لفيلمٍ، سيكون شهادةً إضافية ـ بفضل هذه اللحظة، كما بفضل تلك التسحيلات والنقاشات والانفعالات ـ عن تاريخٍ يحضر في ذاكرة مُشاركين في عيش تفاصيله، وفي صُنعه وكتابته. كلّ صديق من الأصدقاء الثلاثة يُدرك مفاصل المواجهة السلمية، وآخر تلك المفاصل بدء مرحلة السلاح. اللاحق تفصيلٌ، فحاملو السلاح سيُدافعون عن درعا وناسها، وسيؤمّنون ـ قدر المستطاع ـ حمايةً. لكنْ كلّ شيءٍ يتبدّل، والوقوف على خشبة مسرح، أمام شاشةٍ كبيرةٍ تعرض تسجيلات منبثقةٍ من “ذاكرتنا” التي “لنا”، يُعيد رسم ملامح تلك اللحظة وتأثيراتها، في ذاتٍ وبيئة ومسارٍ.

يقول رامي فرح، بصوت الراوي إنّ الأصدقاء الثلاثة عائدون إلى منافيهم، وإنّه، بوجوده معهم على الخشبة، سيعيش، “هنا الآن”، تسجيلات محفوظة في أشرطة فيديو، يَعْلقُ فيها سنين عدّة: “أشاهدهم وهم يُرمّمون ذاكرتهم، لنخلق ونُشارك ذاكرة جماعية”. فأمام ثلاث كاميرات مُسلّطة عليهم، “التجربة صعبة وعنيفة”، لكنّهم واثقون بها، ما يجعلهم يختارون إكمالها حتى النهاية: “أيستحقّ جمع الحكاية كلّ هذا العنف العائد مع الذاكرة؟”، يسأل رامي فرح، مضيفاً تساؤلاً أعمق وأخطر وأهمّ: “كيف ننجو؟ أعندما ننسى، أو عندما نتذكّر؟”.

هذا يحدث بين لقطتين: آخر تسجيلٍ مُصوّر عن آخر مُهمّة صحافية لمحمد الحوراني ـ أبو نمر، قبل أنْ يُقتل أمام عدسة الكاميرا. التوتّر والتأثّر دافعان للأصدقاء الثلاثة إلى عدم مُشاهدةٍ إضافية للشريط، الذي يتوقّف قبيل ثوانٍ قليلة من مقتل الحوراني. يروي الراوي المذكورَ سابقاً، وفي النهاية يقول رامي فرح: “أنا لا أريد أنْ أنسى”، ويعرض اللقطة القاسية لمقتل شابٍ، يجهد منذ البداية في توثيق يوميات ووقائع وحقائق، ويُصبح مراسلاً صحافياً لـ”الجزيرة”، ويُقتل قنصاً أثناء مهمّة له. بعض لحظات ضحكٍ تُرافق عرض تسجيلاتٍ لبدايات الحوراني ـ أبو نمر في مهنةٍ غير مُدركٍ تفاصيلها. تنكّره مُضحك، وتلعثمه أيضاً. لكنّ شغفه بالتسجيل أقوى، ورغبته في التوثيق أهمّ.

شهادةٌ جديدة يكتبها رامي فرح بصُور ومرويات ونقاشات وانفعالاتٍ. يذهب بها إلى أعماق أناسٍ يواجهون بلا تردّد، ويخافون بلا قناعٍ، ويرغبون في خلاصٍ، لهم ولبلدهم، من دون افتراء وتصنّع، بل بحبٍّ عميق. خيبتهم قاسية، فالموت كثيرٌ والدم أكثر. رامي فرح يُدرك هذا كلّه، فيصنع معهم شهادة حبّ لبلدٍ محكومٍ ببطشٍ وتسلّط وكراهيةٍ، ولأناسٍ يعانون ببقائهم فيه، ولآخرين يغادرون بحسرةٍ وألمٍ.

الكاتب: نديم جرجوره

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع