كتبتها ليلي مايري ونُشرت في publicbooks بتاريخ ٢٤/٠٤/٢٠١٩.
طالما كان الكتّاب شخصيات مُثيرة. وحتى الآونة الأخيرة، نزعنا إلى رؤيتهم على أنهم مخمورين وفاتنين. هكذا رأينا همنغواي في أحد البارات في كُوبا، وكذا رأينا فرانك أوهارا[1] يحتفل مع غيره من الفنّانين. ولكن الآن، ومع احتشاد الثقافة الشعبية بالصحة، صار الإنترنت حافلًا بروتين الكتّاب اليومي وعادات أكلهم. ماذا بخصوص المُترجمين؟ كيف يقضون أيامهم؟ يقضونها على الإنترنت، ولكنهم مُختفون تمامًا.
يحاجّ بعض المترجمين بأن هذا هو الطبيعي. وظيفة المُترجم تكون في اختفائِه، أن يحيك نصًّا منسوجًا بعناية للدرجة التي تجعل منه كأنه -المُترجم- لم يكن موجودًا أصلًا. لا تهدف هذه المقالة إلى دحض الفكرة أعلاه، وإنما لتعقيدها. سأكتب وسأجادل حول دور ومكان المُترجم في الخيال الأدبي، ليس بوصفهِ شبحًا، وإنما ككيان حقيقي وفاعل ومعروف. جزء من هذه المحاجّة سياسيّ: فمن ذا الذي يجسّر الانقسامات الثقافية بشكل أوضح من المترجمين؟ كيف يمكن للعالم الأدبي تقديم أكبر قدرٍ من الترحيب والتعاون للمترجم؟ مقالتي هذه تتناول الجانب الفني أيضًا. فأنا، كمترجمة، أرى الترجمة فعلٌ يتطلب ثقة عالية بالنفس. الترجمة شكلٌ فني يتطلب درجة عالية من المَوهبة ومن الأنا (ego). فأن تدعي أن بإمكانك كتابة كتابِ شخصٍ آخر يتطلب ثقة عالية بالنفس. أكتب هذه المقالة مُشيدة برباطة جأشِ بعض المُترجمين، محاولةً تعزيز غرورهم. ما أحاول قوله ببساطة: أريد جعل المتُرجمين مَشاهير.
أعي تمامًا أن الشُهرة مقياس أدبي معطوب. ولكن هل يوجد أي مقياس آخر فعّال؟ لا يمكن حتى اعتبار المقروئية مقياسًا في بعض الأحيان. في إحدى مقالات كتابهِ «لا تقرأ»، يبدأ الكاتب التشيلي أليخاندرو زامبرا[2] بمباهج رفض القراءة. عِمل زامبرا ناقدًا أدبيًا لسنوات، وفي كتابهِ «لا تقرأ»، يتحدث عن سعادته بعدم قراءته للكتب التي قِيل له عنها بأنّها «عظيمة». ويؤكّد على أنه ليس وحده من يشعر بذلك: تحدث خورخي إدواردز[3] ذات مرة أمام حشدٍ في معرض مدريد الدولي للكتاب وقال إنه ينوي عقد مسابقة على النُسخ العديدة غير المقروءة لديه من كتاب 2666 للكاتب التشيلي روبرتو بولانيو[4]. كما حصل ذات مرة وأعطى رافييل غوموسيو[5] كتابًا لزامبرا مُدّعيًا: «لم أقرأه ولا أخطط لقراءتهِ، ولكنه كتاب جيد. لستُ بحاجة لقراءتهِ لأعرف أنه كتاب جيد جدًا، فهو أفضل من شيڨر[6]، وأفضل من كارڨر[7]، أفضل من كل الكُتّاب».
يعد السطر المتكرر أعلاه، وعلى سبيل المفارقة، إحدى السمات المُميزة لكتابات زامبرا. فهو حين يكتب أدبًا أو نقدًا، يشتغل على التفاصيل المُسطّحة وبقدرته العالية على الملاحظة وبذكائه الحاد. في كتابهِ «المعهد الوطني»، والتي تعد إحدى أكثر القصص السياسة صراحة له، يُتبِع زامبرا المشهد الأول الذي يذكر الديكتاتور أوغستو بينوشيه[8] بهذه الفقرة وحدها: «أتذكر الانقباض العضلي في ذراعي اليمنى بعد حصة التاريخ، لأن غودوي أملى علينا ملاحظاته لساعتين متواصلتين. علمنا عن الديمقراطية الأثينية بإملائه علينا تاريخها كما يُملى على المرء في الدكتاتورية». أحب هذه الفقرة جدًا. ولولا أنّ ميگان ماكدويل[9] سبقتني إليها، لكنت أرغب أنا في كتابتها باللغة الإنجليزية.
بأقصى معنى حرفي مقصود، تُعرف الترجمة على أنها كتابٌ تشارك في كتابته شخصان (أو ثلاثة في بعض الأحيان). عندما اقرأ «المعهد الوطني»، فأنا اقرأ لزامبرا ولماكدويل، ولكننا قلما تحدثنا عن الترجمة الأدبية من هذا المنظور. نتكلم دائمًا عن المُؤلف وعمل المؤلف وخيارات المؤلّف، وقلما تكلمنا عن المُترجم وعمله وخياراته. لا نميل إلى رمسنة المترجمين أو معاملتهم على أنهم مثقفين أو على أنهم فنانين في مجالهم ولا نوليهم الاهتمام المطلوب إطلاقًا. في هذه المقالة، سأسبح عكس التيّار، وسأركز على المُترجمين.
1- ما هو المترجم في أية حال؟
من السهل التفكير في المؤلف. ولكن ليس من السهل التفكير في المترجم أو حتى معرفة ما نُفكّر حياله. هل أضحك حين تكون كتابات أليخاندرو زامبرا مُضحكة أم حين تكون ترجمة ميگان ماكدويل هي ما أضحكتني؟ هل تأثرت برباطة جأشِ زامبرا أو ماكدويل أم بكليهما؟ بعض الترجمات تسهل علينا الإجابة. في مسرحية أنتيگون (Antigone/Ἀντιγόνη) كانت ترجمة آن كارسون[10] لسوفوكليس في السطر الأول للجوقة: «تأتي أمجاد العالم متسللة باللونين الأحمر والذهبي The glories of the world come sharking in all red and gold». لو قرأ أي أحد شعرًا لكارسون قبلًا، فسيعرف أن جمالية السطر أعلاه تعود لكارسون. ينطبق الأمر نفسه على أي ترجمة للمسرحية، مثل ترجمة إليزابيث ويكوف[11]، حيث كان السطر الأول الجوقة «أشعة الشمسِ، أجمل ضوء يسطع على أبواب طيبة/ إلى أن سطعت أنت»، لا أمجاد هنا، ولا تسلل. من الواضح إذًا أنّ كارسون كانت قد اجترحت المشهد في الترجمة.
لا يملك كل المُترجمين هذا الخيار. فصوت كارسون الشعري معروف، تمامًا كما تُعرف قصة أنتيگون. ولدى القراء إمكانية الوصول للترجمات المتعددة للمسرحية، من ترجمة ويكوف في عام 1954، وحتى إلى قصة كاميلا شمسي في عام 2017 تحت عنوان Home Fire. كارسون وفي ترجمتها لأنتيگون ليست مسؤولة عن تشكيل أفكار قرّائها عن سوفوكليس أو عن أنتيگون. في تقديمها الشعري للنص، كارسون تُخبر أنتيگون، «تتمثل مشكلتي، في نقلكَ أنت ومشاكلكَ إلى الجانب الآخر»، محظوظة كارسون، لأن أغلب المترجمين يواجهون مشاكل عويصة أكثر من ذلك.
أجريت مؤخرًا مُقابلة مع المترجمة آسا يونيدا[12] (بين اليابانية والإنجليزية)، والتي كانت أول من ترجم للروائية والمسرحية اليابانية يوكيكو موتويا[13] نثرًا إلى اللغة الإنجليزية. في بريد إلكتروني حول الباكوسيات (Bakkhai/Βάκχαι)، وهي مسرحية يونانية أخرى من ترجمة كارسون، أخبرتني يونيدا بأن المسرحية «في حوارٍ مع نفسها وفي ترجماتها ونسخها وتبنياتها المُختلفة، ويجلب قرّاءها ذلك الوعي والخبرة إلى قراءاتهم». ومن ناحية أخرى، وحين كانت تعمل يونيدا على مجموعة موتويا القصصية «لاعب كمال الأجسام الوَحيد»، كان عليها أن تفترض غياب خبرة قُرّائها بأعمال موتويا بالكامل، وكذلك غياب وعيهم عنها. فإذا لم تخلق لموتويا صوتًا يوازي صوتها الحقيقي باللغة الإنجليزية، فلن يسمع أي أحد لها[14]. ولهذا كان على يونيدا أن تجعل أسلوبها خفيًا. ولكن وفي النص الإنجليزي، كان صوت يونيدا حاضرًا، ولم تتمكن من عزله أو إخفائهِ تمامًا، كان صوت يونيدا حاضرًا لخدمة صوت موتويا.
ماكدويل أيضًا تخفي صوتها: فهي حرباءة (تغير لونها)، وأسلوبها محجوب ومدفون تحت أساليب الكُتاب الآخرين الذين تترجم لهم. فعند عملها مع زامبرا، يكون نثرها خفيفًا وحواريًا، ولكن عند عملها مع الكاتبتين الأرجنتينيتين سامانتا شويبلين[15] وماريانا إنريكيز[16]، يصير صوتها أكثر قتامة، وأسلوبها باذخًا. وعندما تعمل مع الكاتب الكوستاريكيّ كارلوس فونيسكا[17]، تصير كتابتها متلوية وذات بصمة أكاديمية، وهو ما يختلف عن أسلوب القوالب الجاهزة والذي استخدمته مع ڨيرچينيا ڨاليچو[18]، عشيقة تاجر المخدرات الشهير بابلو إسكوبار. القارئ المُعتاد على موهبة ماكدويل سيلاحظ مدى مهارتها، ولكن سيستحيل عليه وصف صوتها.
فِي كتاب «هذا الفن الصغيرThis Little Art»، تدعونا الكاتبة كيت بريگز Kate Briggs لكي نتوقف عن المحاولة. لأن الترجمة «تُعقِّد موقف المؤلف: فهو يشاركه، ويستولي على عرشهِ منه، ونوعًا ما يزيحه عن مكانهِ». وعندما نغالي في الأمر تفكيرًا، تواصل بريگز في الإيضاح بأن هذا هو ما يجعل أعصابنا تغلي، ولهذا يطلب أغلب المترجمين من القُرَّاء تأجيل غياب إيمانهم بعمل المترجم. تتركز دعوى بريگز في أنها تعتبر الترجمة فن تخييلي: المُترجمة وقراءها يتظاهرون بأن المُعلم في «المعهد الوطني» كان يُعلِّم بالإنجليزية، تمامًا كما نتظاهر نحن بأنه عاشَ وعلَّم من الأصل.
ما تسميه بريگز بـ «التخييلي» هو ما قد أسميه أنا بـ «الشعرية» عند كارسون. واحدة منهن تدعو القارئ إلى تجاهل المُترجم، في حين أن الأخرى لا تسمح للقارئ بنسيان المُترجم. وفي كتاب مارك بوليتزوتي[19] المناصر للمترجم «تعاطفًا مع الخائن Sympathy for the Traitor»، نرى مسلكًا وحلًا بين الحلين أعلاه. إذ يُطلب من القارئ في هذه الحالة أن ينظر إلى «ما تضيفه مهارات المُترجم الأدبية إلى العمل الفني. فلترجمة عملٍ بأفضل شكلٍ ممكنٍ، يتطلب أن يكون لدى المترجم حساسية وتقمص وجداني ومرونة وانتباه للتفاصيل وبراعة في التعامل مع النص. والأهم من هذا كله، يجب أن يكون لدى المترجم احترامًا للعمل الذي ينوي ترجمته». من وجهة نظر بوليتزوتي، فإن المُترجم يستحق الاعتراف بهِ فنانًا، مهما كان دوره وفنه مخفيًا. أن تكون قادرًا على تغطية صوتك، فهذا فن، وينبغي على القُرّاء أن يتعلموا كيفية البحث عنه. لا يطلب بوليتزوتي من القارئ أن يؤجل إيمانه بالمترجم أو أن يعلقه، وإنما أن نغوص نحن في فعل الإيمان نفسه. لا يملك القُراء عادة لا الأدوات ولا المعرفة ولا السياق للإعجاب باختيار كلمات مُترجم ما، ولكن يمكن لأي قارئ أن يُعجب بماكدويل لأنها اعتقدت ولو لوهلة بأن رافييل غوموسيو وصف كتابًا على أنه أفضل من شيڨر، وليس «الأفضل».
أما كتاب دوگلاس روبنسون[20] «دور المُترجم The Translator’s Turn» فيأخذ حلّ بوليتزوتي إلى مسافات أبعد. فلو كان بوليتزوتي يذكرنا بأن المترجمين فنّانين، سنجد بأن روبنسون يُذكّرنا بأن المترجم إنسان. تتلخص دعوى كتاب «دور المترجم» في التذكير بأن المترجمين «أشخاص، لهم تجارب شخصية ورغبات شخصية وتفضيلات شخصية»، يوجه الكاتب دعوته للقراء، ولكني أتخيل بأن جمهوره الحقيقي هو المترجمين. أو على الأقل أتمنى ذلك. وروبنسون مُحق: ينبغي على المترجمين، مثلهم مثل الكّتاب، أن يسمحوا لتجاربهم ورغباتهم وتفضيلاتهم أن تُطوِّر وأن تُثرِي فنونهم.
وخلافًا لبوليتزوتي وبريگز، يكتب روبنسون مستخدمًا لغته البحثية، وغالبًا ما يخاطب بصراحة زملائه الأكاديميين. أود في هذا السياق أن آخذ فكرته خارج الإطار الأكاديمي البحثي. من الصعب المحاجّة بأنه ينبغي على جميع القُراء أن يهتموا بردة فعل المُترجم الفيزيائية للنص، لأن القُرَّاء يختلفون كثيرًا عن بعضهم البعض، وفي الوقت نفسه، لا يمكن الوصول لهم. ولكن ومن دون منازع، بإمكان أي قارئ أن يحاول تخيل مشاعر المُترجم، ما أقصده تحديدًا تعلق المترجم العاطفي باللغة المصدر والنص المصدر. يحتاج القُرّاء فقط إلى التقمص الوجداني ليتعلموا (أو ليتذكروا) ليس أن الترجمة فن فحسب، بل أن الترجمة تبدأ عادة من نقطة الحُب.
2- لماذا تُحب؟
كتب روبرتو بولانيو «لو كان كل الكتاب ذاتويين، لانقرض الأدب». ربّما. ولكن قطعًا لو كان كل المُترجمين ذاتويين، لانقرضت الترجمة. عملًا بالتعريف، يجب على المُترجم أن يُكرِّس نفسه لأعمال شخصٍ آخر، وغالبًا ما يقوم المُترجم بهذا العمل مُقابل مبلغٍ مالي سيء. سيكون حديثنا غير معقول إذا ناقشنا الترجمة الأدبية دون تناول هذه الإشكالية. يذكر داڨيد بيلوس[21] بشكل مُتكررٍ في كتابهِ «هل ثمة سمكة في أذنك؟: الترجمة ومعنى كل شيء Is That a Fish in Your Ear?: Translation and the Meaning of Everything» بأن أغلب المترجمين في القرون القليلة الماضية كانوا، حسب تعبيره، «هُواة». ومن وجهة نظر مُترجمٍ، فإن اختيار بيلوس للكلمات غامض هنا: قد تستخدم كلمته «هواة» بكل سهولة لتشويه سمعة المترجمين وعملهم، وكما تشير كيت بريگز في كتابة «هذا الفن الصغير This Little Art » فإن المترجمات الإناث يُعانين من السخرية ضدهن من وصفهن بالهواة بما فيه الكفاية حتى قبل وصف بيلوس.
وبعيدًا عن الإشكالية أعلاه، يبقى الواقع مُرًا: الترجمة خارج حدود الأكاديمية ليست مِهنة يعتاش عليها. آن كارسون مثلًا، وكما أشارت مرارًا في سيرتها الذاتية بأنها تعمل في «تُدريس اللغة اليونانية القديمة»، ولا أعرف ما إذا كان بإمكان كارسون التفرغ للعمل مترجمة، ولكني أعرف أن صناعة الترجمة لا تقدّم هذا الخيار للمترجمين. وسيكون من باب قلة الأدب وقلة الاحترام أن نقول إن المترجمين الأدبيين الذين أتينا على ذكرهم/ن في هذه المقالة يعملون فقط مدفوعين بالمال، وليس بمزيجٍ مُعقدٍ من الفن والطموح والموهبة والإبداع والحُب.
ولكن كثير من النُقّاد للأسف يتظاهرون بذلك. كتب روبنسون أنه بمجرد دخول المشاعر في الترجمة، يميل المنظرون إلى الادعاء بوجود «أمر خاطئ، أمر مريب: أنت لا تترجم، بل تبتكر وتُسقِط وتعبِّر». توضح بريگز هذه النقطة من خلال منظور أكثر وعيًا بالجنوسة (الجندر)، حيث تصف مؤتمرًا ضحك فيه عدد كبير من المترجمين بحرارة على فكرة أن هيلين لو-بورتر[22]، مُترجمة توماس مان المثيرة للجدل، «لن تقبل أي ترجمة أبدًا ما لم يكن لديها شعور بأنها [كتبتها] بنفسها». توجد مشكلتان هنا: العواطف والملكية. الشعور والإرهاق. الحب والطموح. كان من المفترض على لو-بورتر أن تحافظَ على أناها وذاتيتها وتعلّقها بعيدًا عما كان، حرفيًا، نصها.
كيف؟ المترجمون ليسوا روبوتات. ليسوا نوافذ مُشرعة بين القارئ والكاتب. لا يمكن أن يكون المترجم ذاتويًا (المحترف على الأقل) ولا يمكنه أن يكون أنانيًا أيضًا. يتطلب الأمر تحديًا للإيغو حين يثق كاتب بمُترجم على عملهِ، ويتطلب الأمر تحديًا آخر للإيغو حين تنشر عملك الخاص أمام العامّة. يرفض روبنسون التوقع القائل بأنه على الرغم من عدم إمكانية أي منهما، يجب على المترجمين «أن يتوقوا إلى الوقت الذي ستنجح فيه الترجمة تمامًا أو تكون غير ضرورية». أيهما أكثر قسوة أن نطلب من المترجمين أن يكونوا كاملين أو أن نطلب منهم أن يكونوا غير ضروريين؟ لتحقيق الأولى يتطلب الأمر قدرًا لا يطاق من الأنا، ولتحقيق الثانية، فنحن نطلب من المُترجم أن يقتل أناه. أعتقد أنه من الأفضل للمترجمين أن يرضوا بقدرٍ عادي من الأنا. من الأفضل القبول بما أسمته بريگز بـ «الغطرسة الغريبة المتمثلة في الرغبة في إعادة كتابة الجمل التي لم تكتبها، [والتي] تبدو في البداية أنها مسألة شعور بتماهٍ مكثف».
الحب، مثله مثل الترجمة، يتطلب قدرًا عاليًا من الثقة العالية والتماهي. يتطلب الأمر غرورًا حين تطلب من شخص آخر أن يحبك. يتطلب الأمر غرورًا أن تطلب من شخص آخر أن يختارك، سواء كنت مترجمًا أو حبيبًا. في حالة الحب ننزع إلى الموافقة على أن هذا النوع من الإيغو الحسنٌ والطيب. نميل إلى الاعتراف بأن الحب، على المدى الطويل، غير كامل، لكنه مرغوب، بل وضروريّ. لماذا لا نعطي الترجمة النظرة نفسها؟ كتبت بريگز أن لو-بورتر شعرت بأنها غير مؤهلة لترجمة رواية الجبل السحري [23] The Magic Mountain، ولكنها اعتقدت -أصرت- بأنها تستطيع أن ترتقي فوق مستوى نفسها من أجل إعطاء الرواية حقّها. توسلت إلى مان بألّا يدع أي مترجم آخر يحل محلها. ألا يشبه هذا الوقوع في الحب؟
يتفق بيلوس معي، ولكنه ليس مسرورًا بذلك. «يستخدم المترجمون، الذين لا يعيشون حياة مثيرة، لغة الحب للتحدث عن أعمالهم. أمر غريب!» حتى لو حذفنا كلمة «مثيرة»، فسنجد أن لغة الحب التي يستخدمونها ليست غريبة البتّة. الترجمة شكلٌ من أشكال الحُب التي تتطلب أخذ مسافة. وهذا صحيح في أثناء عملية الترجمة -حتى الكتاب والمترجمون الذين يعملون معًا يكون بينهم حاجز المسافة بين اللغات- وصحيح عند صدور المنتج النهائي. ستوجد دائمًا مسافة بين النص وترجمته. بعض القراء والمترجمين تجذبهم هذه المسافة، ويحلم البعض الآخر في التخلص منها. أنا أرى نفسي ضمن الجماعة التي تنجذب إليها.
تحمل الفجوة بين اللغات ذلك التهديد، أو الوعد، للمتعذر ترجمته. يحتفي بعض المترجمين والباحثين بفكرة المُتعذر ترجمته. بينما آخرون، مثل بيلوس، يرفضونها تمامًا. وروبنسون، مثل بيلوس، عالقٌ «في الجاذبية المثالية والإحباط الحتمي الذي غلفت فيه الأيديولوجية المسيحية فعل الترجمة». لاحظوا أنه يقول «المسيحية» ولا يقول «المسيحية-اليهودية»، مع أن المتعذر ترجمته يقبع في قلب وجهة النظر اليهودية عن العالم. في التراث اليهودي، لا يسمح لأحد بمعرفة اسم «الرب». يظهر الاسم في التوراة مُستخدمًا أربعة أحرف دون حروف علة، وهي حروف لا يمكن قراءتها – يهوه יהוה – وتلفظ أدوناي (אֲדֹנָי)[24]، والتي تعني الرب أو الأرباب. ويأتي استخدام اللفظة كمناورة لتجنب لفظ الاسم الحقيقي، كأن تقول «الفنان المعروف سابقًا بالأمير».
ستقول كارسون إن كلمة יהוה «كلمة توقف نفسها». في دراستها «Nay Rather» تكتب كارسون عن môlu، النبتة التي احتمي خلفها أوديسيوس من سحر سيرسي. تأتي كلمة Môlu من لغة الآلهة. تبدأ كارسون بقولها إن أوديسيوس وحين «يبدأ باستخدام لغة الآلهة، يخبرك هومر عن ترجمتها الأرضية أيضًا. ولكن في هذه الحالة، لا يترجم هومر الكلمة. يُريد للكلمة أن تكون صامتة. هنا أيضًا كلمة بأربعة أحرف من الأبجدية، يمكنك أن تلفظها، ولكن لا يمكنك أن تعرّفها ولا أن تملكها ولا أن تستفيد منها. لا يمكنك البحث عن النبتة على جانبي الطريق ولا يمكنك أن تبحث عنها في غوغل ولا في أي مكان يبيع النباتات. النبتة مُقدسة، والمعرفة عنها تعود إلى الآلهة، والكلمة توقف نفسها».
ليس كل الكلمات الصامتة في الترجمة مُقدسة. بعضها سياسي أو وجودي. سطر بولانيو الذي اقتبسته سالفًا، كان من مجموعة «سر الشر» وهي مجموعة من الشذرات التي وجدوها على حاسوب المؤلف بعد وفاتهِ وتُرجمت على يد كريس أندروز[25] ونتاشا ويمر[26] . كثير من مقطوعات «سر الشر» غير مُكتملة، ولكنها كُتبت بِحِرَفيّة حاليا للدرجة التي حين تصل إلى نهايتها، تشعر كما لو أنك طُردت من حانة مُزدحمة. فعل الدخول ممكن، ولكن يتبدّى للقارئ بأنه فقد إمكانية الدخول فجأة.
وعند مواجهة الكلمات الصامتة مثل الموت أو الرب، يصير يسيرًا علينا مساواة الكاتب بالمُترجم. هل تذكرون قصة بريگز عن حاضري مؤتمر الترجمة الذي ضحكوا على لو-بورتر؟ لماذا يعتبر من السخيف للو-بورتر أن ترى الترجمة جاهزة فقط حينما تشعر كما لو أنها هي كتبتها؟ الترجمة تعني أن تكتب كتابًا بنفسك. ولكن كانت سخرية المترجمين المُجتمعين من فكرة امتلاك لو-بورتر للنص أو اعترافها بأن النص يخصها. العبرة من القصة هي ألا يُقيم المترجم ارتباطاً عاطفياً مع النص المُترجم. يجب عليها أن تكون نقية، ومُثقفة منفصلة. ولهذا تمامًا أدافع أنا عن حق المترجم بحُب مشروعهِ. الحب ليس أمرًا ثقافيًا/فكريًا. فهو، وخلافًا للفن، لا يقترب حتّى من مملكة الثقافة/الفكر. لا يوجد نُقاد للحب. ولا توجد كراسي مُتخصصة في الجامعات لنظرية الحُب. إذا اعترفنا بأن الحُب جزءٌ من الترجمة، يمكننا الاعتراف بأن المترجمين ليسوا عبارة عن أدمغة تقنية فقط.
الاعتراف أعلاه يُمهد الطريق لمزيد من الاعترافات الأخرى. وللمترجم أناه (Ego) كما ذكرت سابقًا. وله هُو (id) أيضًا، ومثل الهو عند باقي الناس، يكون هذا الهو مشحونًا بكثيرٍ من المُهملات. مليءٌ بالانحيازات والخرافات والتجارب الثقافية والشخصية. وعلى المستوى الواعي، لدى المترجم انحيازاته السياسية والجمالية والدينية (أو لا توجد)، وعلى المستوى الجسدي فلدى المترجم، كما يحاج روبنسون، استجابات جسدية لمجموعة من الأصوات والكلمات. وإن الإملاء على المُترجم بأن عليهِ أن يتجاهل كل هذه العوامل (أن يتجاهل تاريخ وجسده) سيؤدي قطعًا إلى ترجمات سيئة. فالمترجم الذي لا يستطيع مساءلة معرفته القديمة والموروثة، سيستخدم لغة قديمة وموروثة. والمترجم الذي يخجل من الاعتراف بأن بعض الكلمات يتعذر ترجمتها، فسيستبدل المُقدس بما هُو دنيوي وعاديّ.
3- «عندما يُفرض على أغلبنا الاختيار بين الفوضى أو التسمية، سنختار التسمية»
مقالتي المفضلة في كتاب «لا تقرأ» كانت التي تتحدث عن رواية دانيال لأركون[27] «إذاعة المدينة الضائعة»، وهي رواية أحبها أنا وأليخاندرو زامبرا. يقول الكاتب «بالنسبة لألاركون، أن تكتب قصة محبوكة بعناية لا يعني أن تجعلها مفهومة، ولكن تعني احترام المناطق الفارغة فيها»، والأمر نفسه ينطبق على المُترجم. فكلمات مثل יהוה وmôlu يمكن اعتبارها مناطق فارغة. ويمكن للثغرات في الحبكات أن تكون كذلك أو الأحرف غير المتسقة أو الجمل والصور المُحيرة. قد يكون الخيار الأفضل للمترجم في بعض الأحيان، أو الخيار الأكثر أخلاقية أمامه، أو خياره الوحيد، أن يترك المناطق فارغة فارغة، وألا يتدخل فيها.
في دراستها «Nay Rather» تكتب آن كارسون «عندما يُفرض على أغلبنا الاختيار بين الفوضى أو التسمية، ونختار التسمية. فهذا لأن أغلبنا يرى هذا الاختيار على أنه لعبة جميع الخيارات فيها خاسرة، كما لو أنه لا يوجد خيار ثالث: لأننا وفي مخيالنا، ما لا اسم له، لا وجود له. ولكن نحن المترجمون نعرف الصورة الكاملة. نعرف كيف أن بعض الأمور غير مُسماة في كل اللغات. تعلمنا الترجمة أن نحترم ما لا اسم له ويمكنها أن تعلم القرّاء الأمر ذاته.
كما يمكن للترجمة أن تكون الذِكرى أو الاحتفال بتلك المسافة بين القُراء والكتاب. أخبرتني يونيدا أنها تريد من قراءها أن يطلعوا على ترجماتها لموتويا «ببعض الوعي المطلوب عند الحديث مع أي شخص آخر يتحدث بلغة أخرى. آمل أن يكون ثمة تقدير لتقاسم المكان والزمان ولاحترام الاختلافات المتبادلة، والأهم من ذلك كله، أن يكون ثمة نوع من الإعجاب لأن هذا جزءًا من أدب لغة ما نجح في اجتياز حاجز لغة أخرى».
هذه هي الرؤية الفريدة التي تقدمها الترجمة. تأتينا الترجمة من مكان آخر. الترجمة تعني أن نحتضن غريبًا في بلادنا. وليس بهدف التوضيح، ولكن حُب الغرباء نادر في عالمنا، ولكن في عالم الترجمة، حُب الغريب هو الحقيقة. الثورة في نشر الترجمات مؤخرًا وشهرة ترجمات لكتاب مثل إيلينا فيرانتي[28] وكارل أوڨه كناوسگارد[29] والجائزة الوطنية الجديدة للأدب المترجم، كلها مؤشرات على أن كثير من الأميركان أو القراء الأميركان يُحبون الغرباء في مكتباتهم. يحدوني الأمل في أن يؤدّي هذا الازدهار في الأدب المترجم إلى صناعة المزيد من المترجمين. هكذا أنا بدأت أصلًا. أحببت ترجمات ميگان ماكدويل لزامبرا للدرجة التي جعلتني أتمنى أن أكون مكانها. قدمتني ماكدويل لفكرة أن بإمكاني أن أُترجم.
لن تكون ترجماتي كاملة أبدًا. أقترف الأخطاء على الدوام، وأختار الكلمات غير المناسبة، وأصيغ الجمل صياغة ضعيفة. لا أقول هذا لأبدو متواضعة. فكلما اعترفنا نحن المترجمون بنقائصنا، بدت ترجمتنا حقيقية أكثر. (الأمر نفسه ينطبق على الحُب). نحتاج نحن الكتاب والمترجمون والنقاد والقراء إلى الاعتراف أحيانًا بأن الترجمة بين أيدينا ليست الترجمة الأفضل. وأحيانًا يكون الخيار الأمثل في عدم الترجمة من أصلهِ، ولكن من يهتم؟ سنترجم على أية حال. سواء كانت الترجمة ممتعة أو مقلقة أو خاطئة. قد لا تكون ترجمة كتاب «لا تقرأ» أفضل من النص الأصلي «No Leer»، ولكن هذا لم يمنعني من قراءتها مرتين. قد تبدو مسرحية أنتيگون الإنجليزية مختلفة عن نظريتها اليونانية، ولكني أحب قراءتها. عدم الترجمة لا ينتج لنا شيئًا. أما وحين نترجم، فنحن ننتج كتبًا جديدة وقراء جدد ومترجمين جدد وأفكارًا جديدة. يكتب زامبرا «يقولون بوجود أربعة أو خمسة مواضيع فقط للأدب، ولكن ربما يوجد موضوع واحد فقط: الانتماء». يمكننا تعريف الترجمة على أنها أدب الانتماء. أدب الترحيب. لنُرحب بالمترجم الجديد في طريقنا أيضًا.
هوامش