تستضيفُ مدينةُ الفنون (La cité des arts) في باريس معرض “واقع افتراضيّ” (Réalité virtuelle) للفنّانة الفلسطينيّة ميّ مراد من السادس من تموز حتى الرابع من أيلول القادم. ويشتمل هذا المعرض في مجمله على سلسلة من اللوحات الأوتوبيوغرافيّة، التي تصوّر مشاهد يوميّة عاشتها الفنّانة في فترة الحجر الصحّي خلال إقامتها الفنيّة في باريس. وتأخذ اللوحة هنا شكل شاشة كمبيوتر، بحيث تظهر لنا صورة البورتريه الشخصيّ للفنانة داخل اللوحة /الشاشة، محاطة بنوافذ إلكترونيّة تتضمن إرشادات وتوجيهات، كالتي يمكن أن تظهر لنا على الشاشة خلال عملنا على الكمبيوتر: مثل إشارة إلى تعطلّ ملف ّ، أو خلل ما في الجهاز، أو نفاذ البطاريّة، لكن مع تحوير بسيط من قبل الفنانة لهذه العبارات التقنيّة التي تصبح في هذا المعرض وصفا لإشكالية نفسيّة، أو وجدانيّة، نراها تتجسّد في الوضعيّة التي تتخذها، وتعبّر عنها، صورة البورتريه على اللوحة. عبارات مثل :
You must be carrying a lot of memories, do you want to delete it?
وهنا مثال آخر:
There is no text, it was only a dream “Exit to reality”.
ومجمل هذه التنبيهات و”الوصايا الإلكترونيّة” التي تستمدّ حكمتها من برامج الكمبيوتر، ومن طريقة عمله، تأتي في عبارات قصيرة مكثّفة، تستخدم اللغة الإنجليزية، لغة البرامج الإلكترونيّة بامتياز. فهي مستوحاة من عبارات تقنيّة في الأساس، شديدة الوضوح، والاختصار، تتحوّل هنا إلى وصايا تصلح لكلّ من العالمين الواقعيّ والافتراضيّ، كأنهما ليس فقط متداخلان بل وأيضا متشابهان حدّ التطابق. فازدحام الذاكرة في ملفّ إلكترونيّ قد يسبّب نفس الأعراض والمشاكل عند ازدحام الذاكرة لدى إنسان! ومثلما تصبح الكلمة Exist التي تظهر على الشاشة حلا لتجاوز أو الخروج من مشكلة في ملفّ إلكترونيّ، فهي أيضا طريق نجاة في العالم الواقعيّ!
بالتأكيد، هناك أعمال فنيّة كثيرة في العالم تناولت ثيمة “العالم الافتراضي”، وعبّر عنها فنانون من مختلف الثقافات وبوسائل وأشكال فنيّة متعدّدة، لكن ما يبدو لنا غير شائع، وخاص، في هذا المعرض هو رسم اللوحة على شكل شاشة، بحيث تبدو اللوحة كأنها شاشة حقيّقيّة، بإطارها ومواصفتها التقنيّة. لتبدو الرسمة للمشاهد ك «Screenshot» لقطة شاشة. وتصبح نافذة نطلّ منها على عالم وأسلوب حياة الفنّانة، والحالات النفسيّة التي تعيشها، ونشاطات الكسل اليوميّ في ظلّ الإغلاق والحجر الصحيّ طويل الأمد.
ولكي نستطيع فهم هذا التوجّه الفنّي لدى الفنّانة، فلا بدّ من العودة إلى مشروعها السابق الذي عملتْ فيه بالشراكة مع الفنّانة الاسكتلنديّة راشيل أشتون من 2017 إلى 2018، والذي كان هدفه في الأساس رسم مشاهد من غزّة عن بُعد من قبل الفنّانة الاسكتنلديّة، مقابل أن ترسم ميّ مراد مشاهد من اسكتلندا عن بُعد أيضا، ليتبادلا الرسمات عن طريق الواتسب لاحقا. وهنا خطر لميّ مراد إضافة الشبابيك الإلكترونيّة إلى لوحاتها، تلك الشبابيك التي كانت تظهر لها على الشاشة فجأة خلال عملها، لضعف البطاريّة بسبب تواصل انقطاع الكهرباء في غزة، أو خفوت الإضاءة أو غير ذلك. أضحت بذلك هذه النوافذ الإلكترونيّة المفاجئِة إحالة مباشرة إلى واقع غزّة، وإلى ظروفه المعيشيّة، وإشكالياته اليوميّة المزمنة. من هنا أصبحت هذه الشبابيك الإلكترونيّة جزءا أساسيّا من العمل الفنيّ، وتعبيرا عن واقع يعكس نفسه على كل مجالات ونشاطات الحياة في كلّ من العالمين الواقعيّ والافتراضيّ. ثمّ لاحقا استمرّت ميّ مراد في استثمار وتطوير هذه التقنيّة في باريس، وتطوير تقنيات الرسم واللوحات، إلى أن أنتجت هذا المعرض الجديد، خاصة أنّ واقع غزّة يتشابه مع واقع الحجر الصحيّ الذي عاشته في باريس على مستوى الإغلاق والعزل.
يتم إذن هنا الاستعاضة عن جمل تقنيّة إلكترونيّة تلقائيّة تشير إلى طبيعة العطل في المستندات بعبارات أخرى لها طابع نفسي ووجداني، أي يتم أنسنتها، لتأخذ بعدا آخر فوق تقنيّ لمعالجة المخزونات من ذكريات مُؤرشفة في الرأس هذه المرّة. وتصبح توجيهات شخصيّة تعبّر عن حال الفتاة التي تجسّدها في اللوحة، كأنّ ما ينطبق على ملفّ إلكترونيّ محفوظ في جهاز الكمبيوتر ينطبق على إنسان. وتقول عن ذلك الناقدة الفنيّة بولين دو لابولاي Pauline de Laboulaye متحدّثة عن هذا المعرض:
“هنا جهاز من الأيقونات والرسوم التوضيحيّة والأرقام، والقوائم التي تعرض مجموعة من الإختيارات الحتميّة، والإشعارات أو الأخطاء، والتعليمات المشفّرة مثل الأوامر الوجوديّة، التي تشكّل الإطار الذي تمرّ من خلاله جميع الاتصالات الحميمة. تقوم ميّ مراد هنا بجمعها وتخصيصها، مما يجعل هذه اللغة هي الرسالة نفسها، وتستمدّ منها معجما شاعريّا حيث تتحوّل العلامات إلى دلالات، وحيث تجد الكلمات واقعا جسديّا وعاطفيّا أقلّ وِحدة”.
من ناحية أخرى، فإنّ هذه التوجيهات والتنبيهات مرتبطة بالضرورة بالماضي، بما أنّها تتحدّث عن الذاكرة، وبما أنّنا أمام أجساد مثقلة بذكريات ماضٍ تضغط بشكل متواصل على المشاعر والأفكار وتشكّلها. “الماضي” هنا عالم ثالث غير مرئيّ يتجسّد في الأعمال الفنيّة، بحيث يتوازى ويتداخل مع العالم الواقعيّ كتداخل العالم الافتراضيّ معه، ويحدث كلّ هذا التداخل دفعةً واحدة وفي نفس اللحظة. بذا فإنّ هناك ثلاثة عوالم تشكّل الحالة النفسيّة والإنسانيّة التي تلتقطها اللوحة: الحاضر، الماضي، والعالم الافتراضيّ، كأننا أمام رسمات ولوحات ثلاثيّة العوالم، ثلاثيّة الأبعاد.
الحاجة لعالم آخر
حاجتنا للعالم الافتراضيّ تشير في الأساس، وتنمّ في العمق، عن نقصٍ ومحدوديّةٍ عالمنا الواقعيّ، لا سيما حين يكون ضحيّة سياق سياسيّ كالذي تعيشه غزة، أو كارثة صحيّة كجائحة كوفيد١٩، وما يترتّب على ذلك من حصار وعزل مُضاعف. لكنّ العالم الافتراضيّ يقدّم لنا من خلال أدواته “حلاً بديلاً” أمام إعاقات الواقع المعاش: فهو نافذة، ووسيلة تعبير، ووسيلة تواصل، وهنا في هذا المعرض يشكّل عنصراً وأداة في خلق العمل الفنّي نفسه ! يقول تيسير بطنيجي كلما أردتُ استدعاء صورة أو ذكرى قديمة أعبّر عن ذلك بالرسم، فالتصوير الفوتوغرافيّ يتعلق بحدث أو مشهد خارجيّ. استناداً إلى هذه الرؤية، فإنّ العالم الافتراضيّ في لوحات ميّ مراد هو جزء من ذاكرتها، بما أنّها تتحدّث عن تجربة مضت. وبهذا المعنى فإنّ العالم الافتراضيّ هنا ليس ذلك العالم المتداخل مع اللحظة الراهنة، مع الحاضر، والذي يتعثّر به الفعل المضارع، بل إنّه جزءٌ من الماضي، وأصبح له وجود مرئيّ، وملموس، يتحقّق في لوحات هذا المعرض.
هناك توجه عام في الفنون المعاصرة “بمشاكسة اللوحات والمنحوتات الكلاسيكيّة”، أمّا في هذا المعرض فنحن أمام مشاكسة لعالم الكمبيوتر إلى حدّ التقمّص والتماهي، فالشاشة هي الأداة والإطار الذي تشكّل فيه العمل الفنّي. فالإطار هنا لا يأخذ شكل لوحة، أو صورة فوتوغرافيّة، أو منحوتة، وهو ليس عمل فيديو. لكن من ناحية أخرى، يبدو حضور البورتريه باهتا في بعض اللوحات، لا سيما أنه يظهر من خلف شبابيك، وهذا ربما يشيع شيئا من البرود.
هذه قراءة شخصيّة طبعا، لهذا المعرض، الذي يبدو لي أنّ وضوح الفكرة فيه، وسرعة إلتقاطها، وقدرتها على محاكاة المشاهد بتلقائيّة أمراً مُلفتا. لا سيما في ظل وجود أعمال فنيّة كثيرة، يبدو التعقيد فيها كأنه ضجيج في فراغ، وطحنا في الهواء، كما تشير فخريّة اليحيائيّة أستاذة الفنون المعاصرة:
“مع دوّامة الغموض التي صاحبت أهميّة الفكرة في الفنون المعاصرة، ظهرت أعمال تنافت عنها أبسط المقومات التي تجعل منها عملا فنيّا، تجرّأ أصحابها على طرح أفكار سطحيّة أوصلت العمل إلى مستوى من العبثيّة”.
ومشروع كهذا يفتح البحث الفنّي على مصراعيه مستقبلا، وهذا ما تعمل عليه الفنّانة، التي استفادت من الإقامة الفنيّة في باريس، من خلال الإطلاع على أعمال فنيّة من مختلف المشارب، ومن خلال متابعتها لأعمال الفنانين الفلسطينيين، معبّرة عن إعجابها بأعمال الفنانين تيسير بطنيجيّ، ومحمد جحا، وهاني زعرب، وعربيّا الفنان العراقيّ سيروان باران، وإيجون شيلي على الصعيد العالميّ.