أهم ما في بيت منطقة “الربوة”، أنه من الطراز العربي القديم ذي الجدران السميكة القابلة لامتصاص صوت المطبعة.
الرفيقة خولة هي التي استأجرت البيت، ولأن قرارات الحكومة، بعد صراعها مع الإخوان المسلمين، صارت تقتضي قيام المؤجر والمستأجر بتسجيل عقد الإيجار لدى الشرطة، فقد ذهبت خولة مع صاحب البيت إلى المخفر لتثبيت الاستئجار. كنت اتفقت وخولة أنها هي المستأجرة، على أن أكون أنا أخاها الكبير أمام صاحب البيت، ولكني مقيم في حمص وأتردد أحياناً على دمشق لأتابع شؤون دراساتي العليا في الجامعة. في الواقع كانت وثائقي الشخصية والدراسية المزوَّرة تحمل نفس كنية خولة ونفس اسم الأب.
كنت مضطراً إلى التدخُّل حتى في اختيار خولة لملابسها، فسكان الربوة شعبيون بسطاء يميلون إلى التديُّن، وبالتالي إلى المبالغة في توخّي الحشمة بملابس نسائهم، وعلينا ألّا نلفت انتباههم في مظهر أو سلوك فاقع أو نافر، لكيلا نكون في شأن اجتماعي ثم نجد أنفسنا في شأن أمني.
ارتاح لنا أهل الحيِّ إلى درجة أن جيراننا طلبوا من خولة إبلاغي برغبة ربّ الأسرة في لقائي على أمل أن يكتب الله لهم نصيباً في تقاربنا لنغدو أنسباء.
لم تمضِ بضعة أيام حتى تعرَّضتْ خولة لطلب مماثل من جيران آخرين.
قلتُ لها أن تبلغهم بأن لدينا ظرفاً غير مناسب في هذه الفترة بسبب وفاة أحد أقاربنا.
المشكلة أن خولة مهما أهملت أناقتها فإن فيها جاذبية لم تخفَ على بعض أهالي الحيّ، وربما شدة التهذيب لعبت دوراً في رفع أسهمها لدى بعض الجيران.
أنا أيضاً لم أسلم من إرباكات إعجاب صاحب البيت بي. أخبرتني خولة أنه سألها عن الكثير من التفاصيل التي تخصني، وقدمت له خولة ما يرضي فضوله عن وضعي كمدرِّس لغة عربية في إحدى مدارس حمص، وعن استكمال دراساتي العليا في جامعة دمشق، وحين سألها عن الطفلة الصغيرة التي يراها الجيران عندنا بين فترة وأخرى، أخبرتْه أنها ابنتي، وأن النصيب لم يكتب لي ولأمها التوفيق فانفصلنا.
لم يكن يخفي صاحب البيت سعادته في الجلوس معي وإبداء رغبته في الاستماع إلى أحاديثي وإطرائها بقوله: سبحان الله أنا بحب أحاديثك، ما شاء الله قديشها غنيّة وذكية وبتسرُّ الخاطر.. كلّها منطق وتهذيب وفهم الله يسلمك. في ناس لا تآخذني بهالكلمة بس يصير معهم جامعة ببطلوا يتحكّوا.
لسوء الطالع لم تتوقف القصة عند الإعجاب والإطراء، فقد بلغ به الأمر يوماً أن طرح عليّ شراء ثلاث أو أربع قصبات من المساحة المجاورة لبيته، كي أبني فيها شقة صغيرة أوسّعها مع الأيام. وحين شكوت له ضيق الحال، قال إنه يصبرني بثمن الأرض، ويمكن أن أسدِّده مستقبلاً بالتقسيط، وأن البلوك والاسمنت أمرهم بسيط، لأن لديه معمل بلوك، فلا يبقى علي سوى تأمين الحديد، ويأتي إكساء البيت خطوة خطوة على المرتاح.
كانت عروض الرجل سخية بصورة غير معهودة، ولكن خولة ربطت سخاءه بابنته العشرينية التي لم يدم عقد زواجها على الورق سوى ثلاثة أيام حسب قول الابنة لخولة، ثم حدث الطلاق قبل الزفاف.
ومما زاد الطين بلّة أن إحدى نساء الحيّ استوقفتني مرّة لتقول:
تريثت لثواني قبل أن ابتسم ثم أضيف:
بعد ابتسامتي ونكراني، جزمت المرأة بأن تخمينها في مكانه. كانت أساريرها متهللة وهي تقول:
منذ بداية سكننا في بيت الربوة وأنا أريد سلّتي بلا عنب. أتحاشى الاحتكاك بالجيران، وأعتذر عن دعواتهم لي إلى فنجان قهوة، لكيلا أضطر بالمقابل إلى دعوتهم. كنت أكتفي بإلقاء التحية على من أراه من الجيران، وأغض بصري حين تمر بي إحدى الصبايا. يبدو أن هذا التحاشي قد رسم حولي صورة يشير غموضها إلى أنني رجل غير عادي. ولأنهم لم يتوقعوا أن أكون مطلوباً، فلا بدّ أني ممن يلاحق المطلوبين.
كنا بورطة الرفيقة خولة، وصرنا الآن بورطتين، فاضطررنا إلى ترك البيت، على أن تقيم هي مؤقتاً مع صديقتين لديهما غرفة في المخيم، وتواصل البحث عن بيت بديل لبيت الربوة.
لاحقاً عثرنا في منطقة “نهر عيشة” على بيت ملائم لنزول المطبعة فيه، وسجّلته خولة لدى الشرطة باسمها أيضاً، وأقمنا على شرف استئجاره حفلة لدى أحد الرفاق الذي فاجأ حرماننا بفروج مشوي مع بضع زجاجات من البيرة.
في طريقنا إلى المخيم قلت لخولة أن تجهِّز أمورها والأغراض التي جلبتْها من بيت الربوة لنقلها غداً صباحاً إلى بيت نهر عيشة. سألتني إن كان في إمكانها أن تستعين بصديقة تسكن قريباً من غرفة المخيم، فأبلغتها أنه لا يجوز لغيرنا أن يعرف البيت، وفي حال صارت المطبعة فيه، فسيتعرف عليه أبو لويس واثنان آخران لا أكثر.
قالت: في هذه الحالة ليس أمامنا إلا أن تساعدني أنت. تذهب معي الآن، وفي الصباح الباكر نبدأ الترحيل.
– البيت أضيق من أن يتسع لي ولكنّ.
– ولكن الآن عطلة جامعية، والصديقتان مسافرتان.
– لا بأس… أذهب معكِ إذن.
نزلنا من السرفيس في موقف أبو حسن. كان أمام الصيدلية القريبة من الموقف رجلان. اجتزنا الشارع فتبعنا أحدهما. قلت لخولة أني سأتركها وأنعطف إلى اليمين لأتأكد إن كان الرجل يتبعني أم أن تحرّكه وراءنا مصادفة لا أكثر، وأبلغتها أن تبقي الباب الخارجي موارباً.
أنا أعرف أزقة المخيم بتفاصيلها، ويبدو أن الرجل لم يستطع مجاراتي، وربما لم يواصل ملاحقتي، وحين دخلت البيت كنت متأكداً أن لا أحد في الشارع.
بعد ساعتين سمعنا أصوات أقدام كثيرة مشابهة لما يحدث عادة عند “تمشيط” المخيم من قبل مجموعات عسكرية ومخابراتية بحجة البحث عن غرباء، ثم ما لبثت الحركة أن تخامدت ثم توقّفت.
في الصباح سمعنا قرعاً على الباب، فخرجت خولة تستطلع، ثم عادت لتخبرني أنهم، يقولون، شرطة من مخفر باب مصلى.
قلت لها أن تفتح الباب بدون تردد، إذ ليس في ما يحيط بالبيت أي إمكانية للهرب، وكل تأخُّر في فتح الباب سيثير ريبتهم.