يرتبط مفهوم “الغريبة” بالمفاهيم الدلالية التي تصور المجتمع الريفي في العالم العربي عامة، والفلسطيني خاصة؛ حيث يُعتبر إحدى المفاهيم المكوّنة للحدود الرمزية الفاصلة بين القرية والآخر الذي يعيش خارجها، من غير أبنائها، ويستمد ذلك كله من طبيعة “النظام الاجتماعي” الذي بُنيت عليه القرية العربية/ الفلسطينية، وقد أشار حليم بركات في كتابه “المجتمع العربي المعاصر” إلى هذه الطبيعة، عندما تحدث عن تلك البنية القائمة على “العائلة الممتدة”، فالقرية، وفق رأيه، عبارة عن “مجموعة من العائلات”، كل عائلة “تتكون من عدد من الأسر”، وكل أسرة “تحمل كنية واحدة”، وتعود في نسبها إلى جد واحد، تستمد منه كنيتها، لتتوحد، بذلك، في أصولها وكثافة التزاوج فيما بينها، ويكون كل مَنْ هو خارج القرية “غريباً”. (بركات، ص81).
ويعود خلق مثل هذه المفاهيم إلى “العزلة” الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تعيشها معظم القرى الفلسطينية، وتحديداً في الزمن الذي لم يكن فيه مواصلات حديثة ولا شوارع مُعبّدة، فكان الذهاب من القرية إلى المدينة، حتى وإن كانت المسافة قريبة، عبارة عن حدث عظيم، وبالتالي فإنّ سكان القرية، بسبب تلك الظروف أنشأوا “حدوداً” اجتماعية خاصة بهم، تفصل بينهم وبين الآخرين، فكان فعل زواج الشباب مقتصراً على فتيات القرية فقط، وذلك حتى تبقى علاقة النسب محددة داخل إطار “الحدود” الاجتماعية تلك، وإذا أحضر أحد أبناء القرية عروساً من خارجها، يُطلقون عليها اسم “غريبة”، أي المرأة القادمة من خارج تلك الحدود، والتي تختلف في هويتها الثقافية عن هوية أبناء القرية الأصليين، ويصبح ذلك الاسم مرافقاً لها، في حلها وترحالها، حتى بعد أن تنجب أطفالاً، ليطلقوا عليهم اسم “أبناء الغريبة”، وأرى بأن هذه التسمية مبنية على المعنى اللغوي للمفردة، وهو “الغموض، والتنحي جانباً”، وهذه معاني تحدث عنها العِالم اللغوي ابن منظور في معجمه “لسان العرب”، وهي عبارة عن استدلالات إلى أنّ مفردة “الغريبة” المشتقة من الفعل الثلاثي “غرب”، تعني الغموض، أي السلوكيات المجهولة التي لا نعرف عنها شيئاً؛ فأن تتزوج فتاة “غريبة”، وفق منظور أبناء القرية، معناه “جهل نسبها” ربما، و”جهل سلوكياتها” داخل بيت زوجها، هل هي (نظايفية)، باللهجة الفلسطينية، أم لا، أم هل هي كتومة، حافظة للسر، مثلاً، وما هي تصرفاتها مع أهل زوجها، وكيف يمكنها أن تتعايش مع الحياة الجديدة…. ولذلك، كانوا يُطبّقون المثل القائل: من طين بلادك حط ع خدادك، والذي تعرفه خير من الذي لا تعرف عنه شيئاً، كما يقولون.
كما أن المقصود بالغريبة أيضاً “المتنحية”؛ أي التي لا تُشارك أهل القرية ثقافتهم، فتلزم نفسها في بيتها، دون “التفاعل” مع عادات أهل زوجها وتقاليدهم، وبالتالي، فهي تُنحيّ نفسها عن ذلك كله، أو أنه يتم تنحيتها، في بعض الأحيان، بشكل مقصود، على اعتبار أنها “المختلفة” عنهم في كل سلوكيات حياتهم المتنوعة. تجدر الإشارة إلى عادات الكثير من القرى الفلسطينية، لاسيما قرى المدينة الواحدة، تتشابه مع بعضها، إلا أنّ ذلك “الحدّ” في ذلك الزمن كان موجوداً بينها، ففعل القدوم إلى قرية أخرى، والاستقرار فيها، عبارة عن فعل تكويني لهذه المفردة.
وقد تحدث عن هذا المفهوم الروائي اللبناني الراحل جبّور الدويهي في روايته “مطر حزيران”، التي ضمّن أحداثها اقتباساً سردياً مباشراً يتحدث فيه عن دلالة مفردة “الغريبة”، المختلفة في لهجتها وعاداتها وتقاليدها، والكيفية التي ينظر فيها أبناء القرية إلى أولادها، تلك النظرة المحايدة، التي تجعلهم “يشعرون”، بشكل مباشر وغير مباشر، بأنهم “مختلفون” عن أبناء عمومتهم الآخرين، ممن هم أمهاتهم من القرية نفسها. كما أنني سمعت من بعض كبار السن بعض الأغاني الشعبية الفلسطينية التي تدلل على أنّ “الغريبة” هي الآخر، وذلك في قولهم، على سبيل المثال:
يا أهل “الغريبة” ولا يجبر لكم خاطر
وشو عماكم عن ابن العم هالشاطر
يا أهل “الغريبة” ولا يبري لكم علّه
ليش ابن العم عن بنت عمه تخلى
في تعبير إشاري إلى أهمية التقارب داخل تلك الحدود المصطنعة.
وقد غنّى الفنان الفلسطيني المعروف إبراهيم صبيحات أغنيته المشهورة “سجل يا قاضي سجل”، التي أصنّفها من الأغاني الشعبية التراجيدية في مخيال الكثيرين من أبناء القرية الفلسطينية، تلك الأغنية التي توثق “حال” العروس التي ستكون بعد خروجها من بيت أهلها “غريبة” في بيت زوجها، بالمعنى الثقافي للكلمة، كما أشرت، كما تصوّر هذه الأغنية “حال” والدة الغريبة وشقيقتها، اللتان تجعلان من “البكاء” وسيلة للتعبير عما يختلج في نفسيهما، يقول صبيحات:
سجل يا قاضي سجل
واطلعوني غريبة، واطلعوني غريبة
أمي بالبيت تعيّط
وأختي تقول يا حبيبي، وأختي تقول يا حبيبي
سجل يا قاضي سجل
واطلعوني من العيلة، واطلعوني من العيلة
أمي بالبيت تعيّط
وأختي تقول يا ويلي، وأختي تقول يا ويلي
سجل يا قاضي سجل
واطلعوني من الحارة، واطلعوني من الحارة
أمي بالبيت تعيّط
وأختي تقول يا خسارة، وأختي تقول يا خسارة
سجل يا قاضي سجل
واطلعوني من البلد، واطلعوني من البلد
أمي بالبيت تعيّط
وأختي تقول للأبد، وأختي تقول للأبد
تتضمن هذه الأغنية تفسيراً آخر لمعنى “الغريبة”، لا يقتصر على معنى “الغريبة” القادمة من خارج القرية فحسب، وإنما على الغريبة التي تتزوج من عائلة غير عائلتها، حتى داخل القرية نفسها، في إشارة إلى خلق “حدود” داخل العائلة الواحدة أيضاً، تفرض على المرأة الزواج من أحد أبناء أقاربها، على اعتبار أن ثقافة “زواج الأقارب”، كانت الأكثر شيوعاً في تلك البيئة الاجتماعية، وحتى فترة زمنية ليست بالبعيدة. والملاحظ في هذه الأغنية أيضاً، التدرج الدلالي لمفردة الغريبة، فخروج العروس من “حارتها”، وذهابها إلى حارة أهل زوجها “خسارة”، أما خروجها من بلدها كلها عبارة عن فعل إشاري إلى “الأبدية”، وكأنّ خروجها من قريتها “علامة” على “الخلود” في بيت زوجها.
لقد أسهمت “البيئة الاجتماعية” والزمن المحددين في شيوع مثل هذه المفردة، التي أوشكت، فعلياً، على الاندثار، فحتى ولو كان البعض ينطق بها، إلا أنّ مضمونها، المُشار إليه سابقاً، لم يعد موجوداً، ويعود ذلك إلى التطور المعرفي والتكنولوجي والحضري، وهي العوامل التي أسهمت في زيادة الاحتكاك بين المجتمعات، وتعزيز علاقة النّسب بين طبقات المجتمع كافة، إذ لم يعد هناك السؤال الاستدلالي “من أين عروسه؟”، بل أصبح هناك السؤال الفضولي عن “حال” العروس نفسها، ووضع أهلها، وقيمتهم في قريتها أو مدينتها أو مخيّمها، في إشارة تعبيرية إلى أنّ تلك المفرد، “الغريبة”، أوشكت على النسيان بالمعنى الريكوري -نسبة إلى الناقد الفرنسي بول ريكور-. أي أن آثارها بدأت بالزوال نتيجة “التفاعل الاجتماعي” بين أبناء المجتمع، ممن يعيشون في فضاء أوسع من الفضاء الأول الذي كانوا محددين فيه.